17 نوفمبر، 2024 10:25 م
Search
Close this search box.

خارج أسوار المدينة

خارج أسوار المدينة

لا نقصد التجوال أو النزهة ، كما هم ميسوري الحال أنما الظر وف هي من أوقعت وطوحت بنا إلى هكذا حال  عامهون صرنا  وكانت قلوبنا يوما خرائط وأفكارنا فنار للسابلين .
عدنا حين عمرتنا الوحشة في كل شبرنقصده من اصقاع مملكة الرحمن ، وعاد دفق الأمان متأرجحا في إحدى العربات الكبيرة . واستعمرتني الحيرة وإنا ادشن لحضات اللقاء بسيل من الدموع كما دشنتها بألامس عندما حزمنا الحقائب ، وتركت بين يديها آخر وردة من ورود اللوتس تذبل ..!
الجسر كان آخر شاهد ودّعنا . وأبكانا حين ودّعتنا مدينتنا ، بأضوائها الباكية .
لقد سأمت خيولنا سنابكها  وفاق حد الوصف فيها سآمة إذ تجرها نحو أروقة لدهاليز مقفلة على الدوام ، تستبيح كرامتنا الرغبات كلما اوصد في وجهنا باب ، ينفتح آخر بالجحيم . كان الجو حارا وبدا للطريق طقسا آخر لحافلته المتأرجحة إذ لا يتركها
تتهادى على أرضه بسلام ، دون ان يموجها ، يهزها يطيح بما تبقى من أجزائها الصدئة  ، وهي تجر وراءها عمودا غليظا من السخام تشبه عربة من عربات الترام البخارية القديمة.
بداية عندما نبذونا قالوا :اسمعوا..  فقلنا : ومنكم نستفيد ..!
قالوا :إنكم تناصفونا المدينة؟ .. فقلنا : في تخومها نزر ع الورد ، لكم ونعيش ..!
قالوا: اذهبوا به إلى خارج أسوار المدينة ، لأننا أصحاب الأرض ..!
فقلنا : ونحن ..؟
قالوا :غرباء ..!
اقتنعنا بهذه الصفة وغادرنا ، أرغمونا ان نسلك طرقا الناجون منها قلائل ، وان ننقل صورة حسنة عنهم وعن دماثة أخلاقهم فنقول إنهم كرماء وأحسنوا ضيافتنا ، منهم اعتبرونا واليهم  وإنهم كذا .. وكذا .. حتى إذا شاء ان كتم احد الأصدقاء الجدد سرنا ، لكزه آخر فتفجرت جروحنا المتقرحة دما ، وأجهشت مآقينا بكاء مرا بعد ان سفحنا نخب خسارتنا صامتين . عندما غادرنا مناطقهم المحفوفة بالخطر ، وجدنا أنفسنا مجددا ضائعين بعربة الترام الخشبية المتأرجحة وسط الظلام كانت هي المخلص والمأوى ..
 
 
أبي الذي تحجر خلف مقود السيارة بدا نسخة منها ، كما كانت يده مبرمجة مع صندوق العتلات ، وعيونه من خلال زجاجها الذي لا يمهله ان يرى بسبب الشروخ المتزاحمة مع أنصاف صور مسلوخة بصورة متعمدة ربما كان له وقعا ذات يوم ،
أضف إلى كل ذلك صعوبة النظر هذا ما لاحظته في تلك الإثناء ، كان يبذل جهدا حتى يميز ما أمامه من أشياء ، ولم يكن أبي قد كره حافلته يوما عدا هذه الأيام .
كانت أختي الصغيرة تنام جوار والدتي ، وأخي الاصغرسنا في حضنها يغفو وبنفس الدعة والدلال ، كأننا ما زلنا في ديارنا معززين .
والدتي والسواد صنوان مذ سنوات طويلة عندما توفي والدها ، ولم  تجد بدا من ان تتشبث بسوادها لوفاة خالي  ومن ثم لتنفرط إحزاننا من ذلك التاريخ .
أضاف صمتها ورضوخها للواقع عليها هالة وضّاءة ، وصورة ناصعة البياض ، وجدت مكانها في منتصف الحافلة هي وما يلزم من ضروريات مهمة لاستمرارنا بهذه الهيئة الرثة ،من آواني طبخ ، ملابس ، طباخ نفطي صغير بفتائل متعددة ربما لم تكن قد اختارت هذا المكان لو لم يكن جدي لأبي قد كربس عظامه آخر المقاعد .
وبدا شاردا مثل متسول أتحفه الشرود من حياته أذنا صاغية ، وذهنا صافيا متأملا،  ومن النافذة حيث الحياة تتدفق شريطا إخباريا مصورا .. بدت متاعه الأخرى من ملابس حشرت داخل أكياس بلاستيكية بصورة غير منتظمة وأغطية متسخة في حين كانت عصاه السوداء التي لا تفارق يده سلاحه الأمضى .. فهو يجيد التصويب بها  إلى ألاماكن والأشخاص دون حرج كذلك يتوكأ عليها حين يسير كأنه يسبر غور الشيطان في سابع ارض !. أمعنت به وقد استقرت في يده ومن نفس النافذة التي كان يصوب عصاه منها ، بندقية من الطراز القديم نوع برنو ربما ، وقد بدا هو أكثر شبابا في حين تدل بزته ذات الشريطين المتصالبين من الرصاص على انه واحد من الرماة  البارعين.
 سرعان ما تلاشت هذه الصورة مثل سحابة بيضاء في عاصفة على لسان والدي وهو يقول وبنبرة مختلفة
 ـ صلاح  سوف نعود ..                    
 ـ إلى أين ؟
ـ إلى وطننا ، بيتنا .
ـ أو ليس لنا وطن في كل بيت ؟.. بمماحكة لا تخلو من سخرية قلت له ، فأجاب :
ـ سأمنا البحث عنه ولم نجده حتى في بيتنا .
قال أبي مدققا النظر في مرآته الوسطية ، حيث شغلت المقعد الذي وراءه مباشرة والذي كان في عهده مخصصا ربما لغانية بارحها الغنج ، فلم تجد ضيرا من مغازلة  السائق والتمتع بنظراته ، وهمساته حين يختلط الظلام كأقل تقدير.
كنت ساهما وإنا ألج عالم ذكرياتي العذب [.. ـ هكذا كأني لا اعلم كيف يستولي الحب على المشاعر لو لم يكن حبك هو الأول .
ـ من يقول .؟
ـ قلبي .
 ـ وهل يتكلم .؟
ـ لا لكنه يبوح .. ويفضي بأسراره ، مثل هذا الجسر الذي يجمع قلبين لايفصل بينهما سوى الشاطئ ، كما أنت قريبة مني الان اذ لا شاطئ او مانع ،دعيني …
بممانعة وغنج تبتعد، فتنجذب حين اشدها من خصرها محاولا ضمها وشم عطرها الانوثي ، فأقرأ نفس السؤال في عينيها لأجيبه حين تفترق شفاهنا
ـ الشاطئ هو من أقام الحد . علينا ان نبقى بعيدين ..]
كنت أشاهد آبي رغم انسراحي في سجل الذكريات ، ومن نفس المرأة وعليه إمارات التعب واضحة للعيان .. فهو يجيد قيادة هذه العربة التي كانت لأبيه ذات يوم ، بقيت هي صندوقا خشبيا متأرجحا على الطرقات في حين تخلف جدي آخر المقاعد لينبري أبي قائدا جديدا لها ، فكرت لو اطلب منه فسح المجال خصوصا وإنا أراه يكابد صعوبة النظر . أكيد من انه سوف يقعي بثقل جسمه آخر المقاعد قرب جدي عندما يستقر المقود بين يدي ، لكن سرعان ما نسفت هذه الفكرة التي تحيد أبي عن نشاطه
وتقصيه كرب للأسرة ، وتلقي بالمسؤولية كاملة على كاهلي .كان أبي قد ترك مهنة السائق بألا جرة . لقدم حافلتنا الخشبية،ولإقامة مشروعنا الروحي ( زهرة اللوتس)  الذي طالما حلمنا به ونحن نشهد ونستنشق رائحة الورد ، وقد تضاعفت أعداده في أصيصها تركزت في باحة الدار وعلى جوانب الأروقة حتى الفناء الخلفي وعلى سطح الدار كذلك وفي الحديقة عينها  ، كان مشتلا لأنواع الورد ، والذي طرأت فكرته ونحن نعزز من أواصر المحبة والود  مع سكان المدينة .. كنا نبادلهم الورد ، بالثمن البخس ..أو حتى بعبارات الثناء والامتنان ..
 
كان الليل قد بدأ يرخي سدوله عندما كان هناك شعاعان أصفران من الضوء ، يتناصفان ضياء المسافة القريبة من العربة ويحبطان محاولة احد الثعالب بالتخفي تحت جنح ذلك الظلام الثقيل ، وأخذت بعض الحشرات تتهافت بجنون على الضوء ، مشكلة بذلك حلقات وبأحجام مختلفة ، كانت تناور بشغف عجيب على بؤرة الضوء مشبعة هوسها ولهفتها ،وهي ترتطم وتنسحق تحت العجلات .
شعرت بألفة غريبة أمام هكذا مشهد يجرني ينقلني مباشرة إلى بيتي  حيث الاضوية وعلى الجدران القريبة منها كانت نفس الصورة التي غاب عنها هذه اللحظة  (أبو بريص )
 
 
[ـ أنت من هذه الضفة أما انا  لا أمت بصلة  للنهر ولا إلى ضفتيه .
ـ لكنك الأقرب إلى هذه الأرض والأنقى سريرة سأكون معك .
ـ ومن يرى ذلك ؟
ـ انا .
ـ والذي يرى العكس .؟
ـ متطرف .
ـ لكنه يسود
ـ هذه الورود أيضا  خذيها  ، هي  أجمل ما عندنا وأرقى ،اعلم من انك ستجدين مكانا لها في بستان حبنا وإنها بين يديك..ستستمر.. وتثمر ،أنظريها الآن كيف تذبل ؟
ـ ياه .. والشمس كذلك .!! ]
مجددا وإنا أتأمل الضوء وانشق من ورد الذكريات ، انكسر حينا ، واندم في أحيان أخرى لتزمتي فأصلح أخطائي في قراراتي .. وقد ناصفت مدامعي الهم مع قلبي فأسبلت حزنها مدرارا .. عندها  هتف أبي قائلا أنظر معالم مدينتنا بدت تبين ..!
تنحنحت مغيرا من وضعي النفسي الحرج ..
لم اصدق بادئ الأمر وإنا افتح نافذة دائرية بيدي  في زجاج السيارة الجانبي المضبب، وفعلا كانت بعض المعالم التي يمكن ان نتفق عليها لمدينتنا
 ـ تعتقد يا أبي .. لقد انسلخت شهور طويلة على تجوالنا وتر حالنا ، تكفي لان تمحو الأحقاد .
ـ انا اشعر بان فراغا ما خلفه رحيلنا عنهم .       
ـ لا ادري ..ربما ..
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
تدفق صوت المذياع عاليا كان ينبعث من مكان ما في السيارة ، فبدا غير مستقرا على حال كالعادة موتورا بالعبث بميل الإذاعات ،فاختلفت حدة الأصوات عن بعضها ليعلو البعض منها صفيرا ثم وشيش حتى استقرت على موسيقى سرعان ما أعقبتها أغان لم يتبينوا  معناها ، ليستقر بهم  نهاية المطاف على موسيقى تنبئ بإخبار الساعة .
مع خيوط الغبش اكتملت صورة الصباح ، وبدا الجمع غير مستقر على حال ،الصغار مضطربون يبكون ويلومون أمهم التي ظلت صامتة ، كانت متنفسهم وشماعة أخطاء الآخرين . في حين كان جده يغفو لصق النافذة وقد برز نصف بندقيته الخشبية التي أسندها على راحة يده اليسرى ، وبدا مقاتلا لم يسقط في ساحة الوغى إلا وبندقيته شاخصة بين يديه ، أما أبوه الذي شغله أكثر وهو  يراه أسيرا بين الوعي وسلسلة من الاغفاءات عرضتهم للخطر مرتين كانت  الواحدة منها اشد من الأخرى .
في المرة الأولى انتفضت العجلة بهم مثل كائن خرافي وتأرجحت لفترة كانت كافية لان يواسوا بعضهم ويبتهلون  ضارعين إلى الله ، وهم يتشبثون  ويشهدون  ميلان الأرض تجاه اليمين ، حتى إذا ما استقرت بعد لحظات مرت كالهول ، عادوا إلى عزلتهم  وخف لغطهم وفوضاهم. لكن جده هذه المرة بدا نزقا بعد ان فقد عصاه أثناء ارتداد العجلة .. المسكين ..! حاول ان يقذف بنفسه وراءها وقد أمعن في ذلك لولا تدخل ابنه الذي سمره بنظرة لسائق محترف من خلال مرآته الوسطية ، وبعد ان كبح فرامل العربة التي تسمرت هي الأخرى  قال : هيا وأتحفها بحركة من رأسه .. كأنه كان  يرى ساعتها كل شيء بوضوح . أما الجد فقد لبث ساهما ثم تصرف بطيش أكثر مزق جلال الصمت ، وهو يرفع المذياع عاليا ليرطمه على الأرض بقوة .
شاهد صلاح كل ذلك من خلال مصباح الضوء الواهن المتدلي من السقف والذي لم يسعف أحدا مثلما أسعفه  هو الشخص القريب في رؤية جده في لحظاته الأخيرة ، ثم حدث وان عصفت قوة غريبة في نعشهم الخشبي ، لينطلق بهم بسرعة مجنونة فاقت حد الوصف بالنسبة لهكذا عربة خشبية قديمة ، وقد علا هدير المحرك على البكاء والعويل . أما الجد الذي لم  ينس أمره وهو القريب من كل ما حدث حين مالت مجددا إلى جهة اليمين ولتتركه حرا في فضاء العربة يسبح ، منطلقا من النافذة المعاكسة مثل( مقذوف باليستي )، كان هو الشخص الوحيد الذي استطاع ان يراه بكل هذه الدقة والتفصيل والذي لم يكن اوفر حظا منه وهو يرى لما تبقى من ثوان …
ويبدو كما لو ان مسا أصابه بعد فقده لعصاه ، أو خللا ما في التوازن جعله ينتزع بقوة من مكانه ،كما تشبث صلاح في مقعد قريب منه ووالدته التي انحنت تحتضن الصغار في لجة الصراخ والعويل ، كانت تصرخ وتستنجد على غير هدى حين كان هو يصرخ مستفسرا من أبيه الذي فقد السيطرة تماما ، كان آخر ما رآه الشرر المنبعث من قلب الظلام يوحي بالسياج المعدني للجسر الذي جمعهم ذات يوم وحال بينهم ، وبعدها لم يرى شيء البتة ..ّ!  فقط الظلام .. الظلام وحده ..
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أخذت مويجات الماء تداعب الضفاف بعد ان شارفت الشمس على المغيب ، كانت ترسم خطين متوازيين على لوحة لا يفصل بينهما ويحيد إلا الظلام .. في حين تركت زنابق الماء ذات الجذور الممتدة إلى أعماق النهر السحيقة ، صورة متماهية عن العمق عندما يدقق الناظر في السطح ويشهد تراصها العنيف وخطرها الأعنف ..لكأنها جاءت هذه المرة تقدم شوطا أخيرا من أشواط الورد والزنبق .
كان قد استقرت خمس نعوش غاب سادسها على مسناة النهر ، تركوا فراغا لم يألفه سكان المدينة المغلقة على الإطلاق .. الذين تبادلوا التعازي والمواساة والتذكير بيوم الحساب ، وتكلم احد الوجهاء بلهجة خطابية إلى الناس عن الأثر الطيب الذي خلفه الراحلون وعن المكان الذي سوف يخصص لإقامة مراسيم دفنهم .
اقتربت الفتاة أكثر وقد بدا على ملامحها الذهول بعد ان جفت مدامعها ، كانت آخر الحشود الغفيرة التي تجمهرت من رجال ونساء قرب النهر في طقوس جديدة دأبوا خلالها لرصف أكاليل الزهور بعناية فائقة على نعوش لغرباء ، لم يقدم أحدا لهم الورد في حياتهم ولا المكان ، وربما إشعال الشموع في سنوات لاحقة ، وتقديم النذور لجلب الحظ .. والتمنــــــــــــــي .

أحدث المقالات