هناك جدلية قائمة بين السرد والتاريخ، وطبيعة العلاقة التي تربط بينهما، إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار إن السرد وبالأخص الروائي منه، يطل بشكل أو بآخر على التاريخ، ويستحضره، بنسب متفاوتة، بحسب طبيعة الثيمة الرئيسية التي يتأسس عليها النص الروائي.. لذا فان الرواية التاريخية تشكل رافدا مهما لوعي المتلقي، فهي تعمل على تسليط الضوء على الحدث التاريخي من خلال السرد، كما يشير الى ذلك الناقد العراقي ثامر فاضل.
في رواية خاتون بغداد الصادرة سنة 2017 للروائي شاكر نوري، نجد إن النص الروائي قد تحول إلى نص تاريخي، من الصعب على كل مشتغل في النقد الادبي، ان يخضعه لمشرط النقد والتحليل، او يتناوله من زاوية فنية صرفة، كونه كان اقرب إلى الوثيقة التاريخية من السرد الروائي، حيث تشعبت احداث الرواية بين، وثائق تاريخية، ومذكرات شخصية، وتقارير صحفية كتبت عن بطلة الرواية مس بيل، امتزجت بآراء شخصية مثلت وجهة نظر الكاتب اتجاهها، وسير الأحداث التي دارت داخل فلك الرواية، حتى اقترب الجو العام لها، لما أطلق عليه الناقد سعيد علوش ( الوعي الخاطئ ) وهو لجوء الكاتب إلى آراءه الشخصية، وهويته الفرعية وثقافته الحتمية في التعبير عن التاريخ .. وهذا ما سنوضحه لاحقا .. تبدأ الرواية بمقدمة تاريخية، مدخلا يتناول فلسفة التاريخ وجدواه، عبر مقولة للكاتب الايرلندي اوسكار وايلد (الواجب الوحيد المترتب علينا حيال التاريخ هو اعادة كتابته).. يلج بعدها الكاتب في نصه التاريخي، المتداخل بين الماضي والحاضر، ببطاقة تعريفية للبطلة الرئيسية ، مس بيل (خاتون بغداد) التي سخر البناء الحكائي، والأنساق السردية، لخدمتها بشتى الطرق، أضفت هذه البطاقة التعريفية كاريزما (هالة) استثنائية عليها بطريقة تجاوزت المعقول والمنقول ( هل مس بيل نصف اله؟ احتار آهل بغداد بها وهم يحاولون استعادة هالتها البيضاء التي أصابتهم بعمى الألوان).. بعدها تدخل عدة حوارات مبهمة لأناس مجهولين، تأخذ طابعا مسرحيا، تستمر لثلاث صفحات متتالية، كان الهدف من هذه الحوارات هو للتأكيد على وجهة نظر الروائي اتجاه البطلة:
– أي جمال يمنحه الحذاء ذو الكعب العالي إلى ساقي الأنثى؟ جمال لانهاية له، هل هي إحدى الحور العين، التي ضلت طريقها الينا؟.
ثم ينفتح النص بإسهاب كبير على وصف مس بيل وحياتها في بغداد، مشاعرها علائقها الاجتماعية والسياسية، شرح دقيق لأحاسيسها، والتداعيات التي تعيشها، يستمر السرد بهذا السياق لعشرات الصفحات، مزيج متجانس بين السرد الروائي والتاريخي، غلب عليه اللغة الأنيقة الشفافة، المنسابة بحرفية وإتقان، واستخدام أسلوب السارد العليم، الذي يروي الأحداث من منظور تاريخي اجتماعي سيكولوجي، إضافة إلى وجود السارد الضمني، الذي تمثل بعدة أصوات تباينت الفترة التاريخية والظروف الاجتماعية والسياسية التي أحاطت بهم، وهم البطل المحوري ( مس بيل).. وأبطال الظل ( يونس كاتب السيناريو، نعمان مخرج سينمائي، هاشم مشغل آلة العرض في سينما غرناطة، منصور حارس مقبرة مس بيل، أبو سقراط المثقف)، وضيفهم الفينزولي فرناندو خبير المكتبات، القادم الى بغداد لتقييم المكتبة الوطنية، بعد أن تم إحراقها ونهبها .. كان هؤلاء الستة نافذة استطاع الروائي من خلالها تمرير أفكاره ورؤاه، اتجاه ما حدث في العراق بعد 9-4-2003 عبر حوارات مشتركة فيما بينهم، استعرضت تاريخ بغداد، ومعالمها الحضارية، واستذكرت أهم محطاتها التاريخية، وقد اختار الروائي لهذه الحوارات، وعي مكتسب، ولغة متقدمة امتلكهما أبطاله الستة، لتكون حواراتهم بمستوى وعي الكاتب وثقافته.. كانت جميع النقاشات التي دارت بينهم هي مقاربات فكرية وتاريخية لرؤى ذاتية، لا يمكن تعميمها، وبالأخص في ما يتعلق بالمقارنة التي طرحت بين الاحتلال البريطاني، الذي أشير إليه على انه منح العراق فرصة لدخول العصر الحديث، وبين والاحتلال الأمريكي الذي أنتج الفوضى والخراب.. واعتقد إن هذه المقارنة غير موفقة، لأن للاحتلال وجه واحد عبر التاريخ، وجه بشع لا يمكن بأي حال من الأحوال تجميله، أو إضفاء صفة التحضر عليه.
شكلت خاتون بغداد وثيقة تاريخية في إطارها العام، لكن دون أن ينوه الكاتب إلى مصادره التي اعتمدها، كما فعل الكثير ممن كتبوا في الرواية التاريخية، حيث يتم وضع ملحق يشير إلى تلك المصادر، كما في رواية (مقامات إسماعيل الذبيح) للروائي العراقي عبد الخالق الركابي، التي احتوت على ملحق يذكر فيها المصادر التاريخية التي تعكز عليها نصه المارثوني .. فغياب الهوامش يثير أسئلة جدلية عدة، منها : هل ما ذكر عن حياة مس بيل هو مذكرات ووثائق استعان بها الكاتب لتعضيد نصه، أم إنها تمثل وجهة نظر شخصية له، في محاولته لإعادة كتابة التاريخ العراقي الحديث؟ ..وهل أراء مس بيل التي طرحت في النص، حقيقة تاريخية موثقة، أم إنها تصورات لفهم تلك الشخصية من قبل الروائي؟.
حيث أخذت هذه الآراء مساحة واسعة من النص، وشكلت مفارقة تاريخية وسياسية، ابتعدت في بعض محطاتها عن الموضوعية والمنطق، وأخذت بعدا استشرافيا استباقيا غير مبرر، وسأتناول إحدى هذه الآراء دون الإشارة إلى التفاصيل، وهو الموقف السلبي لمس بيل من إحدى الطوائف الدينية المهمة في العراق، وخلقها لتصورات كارثية مستقبلية إذا ما حكمت هذه الطائفة العراق في يوم من الأيام، وقد تكرر هذا الانطباع في محطات عدة من الرواية.
إن إحدى وظائف الفن الروائي هي البحث عن الحقيقة وليس الأنا، وهذا ما أطلق عليه الناقد لوكاش ( إشكالية البيوغرافية) أي جعل التجربة الشخصية تهيمن على النص التاريخي، فحالة الشغف الكبيرة التي وقع فيها جميع أبطال رواية ( خاتون بغداد) بالبطلة مس بيل، كانت لا تمثل مزاجا جماهيريا عاما أو جزء من العقل الجمعي العراقي، في أي مرحلة من مراحله، كما حاولت الرواية تصويره.
احتوت الرواية على نصوص جانبية سعت إلى تعضيدها، كونها تصب في نفس الثيمة الرئيسية لها، مثل سيناريو كتبه يونس يصور فيه جزء من حياة مس بيل في بغداد، شكل هذا السيناريو مقاربة ميتاسردية حداثوية، انتشلت الرواية من بعض الرتابة التي اكتنفتها، وذلك باستخدام تقنية القفز عبر عنصري الزمان والمكان، بإيقاع سريع ومرن، وقد رُفد النص بتقارير كتبت عن مس بيل بعد وفاتها، بسنوات قليلة في صحيفة التايمز البريطانية، لكن كل هذا الإثراء التاريخي واللغوي، وتنوع أساليب السرد وتقنياته الذي احتوتها خاتون بغداد، إلا أن هامش الخطأ كان موجودا وواضحا في بعض الأحداث التاريخية، مثل ذكر كلمة ( ملكة) إشارة إلى ملكة بريطانيا الايزابيث الثانية (لم يكن السير بيرسي كوكس ثعلبا ماكرا فحسب، بل هو الطفل المدلل لملكة بريطانيا) ..والحقيقة التاريخية تقول أن الملك جورج الخامس جد الايزابيث هو من عاصر الاحتلال البريطاني للعراق عام 1914.. وكذلك ما جاء على لسان مس بيل وهي تتغزل ببغداد، بأن جنكيز خان قد احتلها ( جنكيز خان فض بكارتها بوحشية) .. والحقيقة التاريخية تشير إلى أن هولاكو حفيد جنكيز خان هو من احتل بغداد واسقط الخلافة العباسية فيها.. إضافة إلى أن مثل هكذا ثقافة غير واردة في البنية الاجتماعية والأخلاقية، التي جاءت منها مس بيل، لتلجا إلى مثل هكذا مقاربة تاريخية للتعبير عن محنة بغداد.
رواية خاتون بغداد، بالرغم من بعض الإشكاليات التي أثارتها، فإنها تمثل إطلالة تحمل بعدا جماليا، تمكن القارئ من التعرف على جزء مهم وحيوي من تاريخ العراق الحديث.