“خاتم البشر” من فوكوياما إلى ترامب مرورا بزيلينسكي

“خاتم البشر” من فوكوياما إلى ترامب مرورا بزيلينسكي

في صيف 1989 نشر باحث غير معروف على نطاق واسع فرانسيس فوكوياما (1953) مقالا على صفحات مجلة ناشونال إنترست بعنوان (نهاية التاريخ) أعلن فيه على طريقة البلاغات الانقلابية انتصار الليبرالية الديمقراطية المطلق وبأن قيمها في”الحرية الفردية والمساواة والليبرالية الاقتصادية” تمثل آخر مراحل التطور الأيديولوجي للإنسان وأن العولمة تعد الصيغة النهائية للحكومة البشرية.

كانت الشيوعية السوفيتية تلفظ أنفاسها الأخيرة، بانهيار جدار برلين، واستيلاء القوى الموالية للغرب على حكومات (المعسكر الاشتراكي) وقتل واعتقال زعامات “شيوعية” كانت غرقت بالفساد، وتفتت الاتحاد السوفيتي، وتحول موسكو إلى أكبر مركز إيديولوجي لمكافحة الشيوعية، ومن ثم إزالة تماثيل الآباء المؤسسين للدولة السوفيتية في آب/أغسطس 1991 وسحل التمثال العملاق لمؤسس جهاز أمن الدولة السوفيتية فيليكس دزيرجينيسكي خلف شاحنة ضخمة، مطأطأ الرأس بلحيته الوسيمة، ونظراته الثاقبة، يصدر عنه صرير مثل العويل، وسط محاولة الألوف اقتحام مبنى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي وبنايات لجنة أمن الدولة ( كي جي بي) المجاورة، وسعي بضع مئات جاؤوا من بيوتهم يحملون المطارق والحفارات اليدوية “دريلات” أملاً في العثور على سبائك الذهب، كانت الحكايات الشعبية أشاعت أنها مخبأة تحت معطف وقاعدة التمثال البرونزي فارع الطول ( 5.75 مترا) ويزن مع قاعدته 11 طنا.

ذاع صيت الباحث الجامعي فوكوياما بصدور كتاب عام 1992 يحمل عنوان “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” ليصبح في غضون أيام الأكثر مبيعا، تتسابق المعاهد العلمية على اقتنائه في زمن لم يكن الإنترنت واسع الانتشار، بل إن سفارات عربية في موسكو طلبته عبر بريد (DHL)) لقراءة مؤلف معقد استحق عليه الباحث لقب “مفكر وفيلسوف سياسي” حقا أم باطلا في غضون أسابيع.

لم يكن بالضرورة أن تفهم السفارات المعنية مضمون وكنه نظرية الأميركي من أصل ياباني؛ فالمهم أن نهاية التاريخ فسرت على أنها مرثية لنهاية الاتحاد السوفيتي والشيوعية السوفيتية. وكانت غالبية سفراء دول العالم الثالث تراقب بذهول تسارع الأحداث في زعيمة (العالم الثاني) المتحالفة معه والمقصود الاتحاد السوفيتي، زعيم المعسكر الاشتراكي المنفلت من عقالها، والسقوط المدوي للمنظومة السياسية الصارمة في العاصمة الأممية وابتعادها عن الحلفاء بقطع المساعدات والتوجه نحو (العالم الأول) لإعادة ترتيب أوراق؛ تبعثرت في الدهاليز والقاعات الباردة لدولة في حالة موت سريري.

أعلنت الولايات المتحدة على لسان فيلسوفها الشاب انتصارها الليبرالي الساحق على القمع السوفيتي، وجرت بلدان العالم شرقا وغربا إلى حضيرتها جبرا أم طوعا، وصارت نهاية التاريخ عنوانا للهيمنة الأميركية وتبعا الجماعة الانغلوسكسونية على مقدرات العالم خاصة في مناطق الطاقة والمعابر والممرات المائية وأعالي البحار والمنخفضات والبراري. وكان الشرق الأوسط أحد أكثر المناطق مسرحا لمسلسل نهاية التاريخ.

لقد استمر الجذل بالنهاية “السعيدة” وانتصار الليبرالية عقدا وقليل، ليكتشف أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية فرانسيس فوكوياما أن ما اعتبره نهاية؛ صار بداية التاريخ ببروز قوى دولية تقف على النقيض وتناصب عداء سافرا لليبرالية المنتشية بالنصر، وأن التنين الصيني أخذ يستولي على مساحات واسعة في الخارطة الاقتصادية وبالضرورة السياسية في العالم، فيما يستفيق الدب الروسي من سباته الشتوي الطويل وأن فلاديمير بوتين الخارج من معطف دزيرجينيسكي الطويل يقلب الطاولة في مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2007، مطالبا حلف الناتو بوقف تمدده وابتلاع حلفاء موسكو وقد باتوا ألد أعداء روسيا ومنصات للنشاطات التجسسية والتخريب.

وصل العقل إلى رأس فوكوياما لكنه لم يدخل عقل البيت الأبيض المنتشية جماعاته بالانتصارات السهلة وحيازة قيادة العالم.
أما أوروبا المتعالية على حملة فوكوياما “التبشيرية” الفخورة بإرثها الفلسفي القائم على الشك ونبذ الصياغات الجاهزة والنهائية، ولا تؤمن ب “خاتم البشر” كما يفتي الباحث الأميركي، فقد أخذت تلتفت إلى اليمين وترى في العيارات الثقيلة لليبرالية بلا حدود نبيذا رخيصا يصيب المجتمعات بالصداع، وبدأت تنحسر موجة الهستيريا الأميركية في مختلف مظاهر الحياة والإبداع. وأخذ اليسار الأوربي المنهزم بفعل الأخطاء القاتلة والتبعية للمركز الأممي، يلملم شتاته ويتحول إلى أحزاب اشتراكية ومنظمات للدفاع عن البيئة والحفاظ على ما تبقى من مكاسب للشغيلة التي لم تسمع بنهاية التاريخ لكنها شعرت بمطبات المسيرة المتعثرة والصعبة للزمن في العقدين الأخيرين.

نادى فوكوياما بالقضاء على العالم القديم لتعبيد الطريق أمام العصر الأميركي، وكان العراق ودول أخرى في الشرق الأوسط ساحة أولى لتجارب المحافظين الجدد في البيت الأبيض والبنتاغون المتأثرين بالمعلم فرانسيس.
وأقامت الدبابات الأميركية وحفنة من الخدن والعملاء العراقيين أول “برج” لبداية التاريخ الأميركي في الشرق الأوسط، فيما كانت قاذفات بي 52 تحرق جبال أفغانستان وتقتل دون تمييز كل من يتحرك في وديان تورا بورا.

كان الإعلان مبكرا عن نهاية التاريخ، فقد أدرك فوكوياما في السنوات الأولى من الألفية الثالثة؛ وهو يرصد صعود الإسلام السياسي والحركات الراديكالية في العالم القديم المتجذر بالموروث غير القابل للزوال. وأدرك قبل أن يكمل مع لفيف من المتحمسين لمشروع العصر الأميركي الجديد، مشاريع تكسرت على نصال العنف والإرهاب وبات الصخب والعنف عنوانا لما بعد نهاية تاريخهم.

لم يكابر فوكوياما؛ فاعترف بعد 22 عاما من حملته التبشيرية بنهاية التاريخ، ليفاجأ دور النشر بكتاب “بداية التاريخ.. منذ أصول السياسة إلى الآن” الصادر عام 2012، يفهم منه أن فرانسيس فوكوياما يعترف بصعود اليسار في أميركا اللاتينية والحركات الأصولية في العالم الإسلامي وانتصارات اليمين الأوربي وغيرها من الأحداث الكبرى التي تبدو أمامها مقولة نهاية التاريخ والنصر النهائي بخاتم البشر الليبرالي، حملا كاذبا.

انتهت الشيوعية السوفيتية وانفرط عقد الاتحاد السوفيتي وظهرت 15 دولة على أنقاضه، بينها ثاني أكبر دولة بعد روسيا من حيث المساحة في أوروبا؛ أوكرانيا، وكان القوميون المطالبون بدولة مستقلة عن روسيا وعن الاتحاد السوفيتي لم يلقوا السلاح إلا عام 1954، وكان زعيمهم بانديرا قاتل الجيش الأحمر سنوات الحرب الوطنية العظمى (الحرب العالمية الثانية) طمعا في دعم ألمانيا النازية والحصول على دولته المستقلة بعد إنتصار هتلر. لكن الفوهرر الذي ما كان لينتصر بفضل التضحيات الأسطورية للشعوب السوفيتية وفي المقدمة الروس والبيلاروس والأوكرانيين، اعتقل بانديرا ولاحق فلوله لشعوره بأنهم صاروا عبئا على قواته المتهالكة.

عاشت أوكرانيا قبل انهيار الاتحاد السوفيتي أكبر كارثة نووية في تاريخ البشرية بانفجار مفاعل محطة توليد الطاقة الكهروذرية في تشيرنوبيل.
عجلت الكارثة وقبلها حرب أفغانستان في نهاية الاتحاد السوفيتي، وعززت الروح الانفصالية لدى القوميين الذي تحالفوا هذه المرة مع “خاتم البشر” الليبرالي الأميركي وصارت لكييف قبلتان، طائفة من الأوكرانيين تتجه نحو موسكو وأخرى نحو بروكسيل وحلف الناتو، وعاشت الدولة الغنية بالمعادن النادرة والثمينة انقلابات وتقلبات دورية، واستولت كما في روسيا، الأوليغارشية المتعاونة مع الشركات العابرة في الغرب على الثروات الوطنية، وتفجرت صراعات وحروب مافيات وتصفيات؛ وصلت أخيرا إلى خشبة مسرح يعرض أعمالاً كوميدية في مدن أوكرانية ولا يسلم من نكاته اللاذعة كبير أو صغير في السلطة. وكان رئيس روسيا فلاديمير بوتين يكاد ينقلب من الكرسي ضحكا على قفشات فلودومير زيلينيسكي ويرفع إبهامه إعجابا.

ثم انهمرت المصائب كالمطر ، الناطقون بالروسية ينادون بالانضمام إلى الوطن الأم، وبوتين يلحق شبه جزيرة القرم بروسيا، المنطقة الحيوية التي كان نيكيتا خروتشوف صنفها وحدة إدارية تابعة لجمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفيتية، وتوسعت في الدونباس الحرب الأهلية، وقدمت موسكو دعما عسكريا للمقاتلين الناطقين بالروسية، ووصل ممثل المسلسل التلفزيوني الكوميدي “خادم الشعب” زيلينيسكي إلى رئاسة الدولة عن طريق فوز الحزب الذي يحمل عنوان المسلسل الكوميدي في الانتخابات النيابية.
كانت فيكتوريا نولاند، الأميركية من أصول أوكرانية، مساعدة وزير الخارجية لشؤون الساحة السوفيتية السابقة توزع علب الشكولاتة على المعتصمين المطالبين في ساحة “الميدان” باستقالة الرئيس يانوكوفيتش المتوجه نحو القبلة الروسية وإجراء انتخابات مبكرة.
قد لا تكون شكولاتة نولاند سببا رئيسا في سقوط يانوكوفيتش وهروبه إلى موسكو؛ إلا أن رجلها كانت خفيفة على أوكرانيا. فقد سارع بوتين باستعادة القرم قبل أن تهبط قوات الناتو في المنتجع الساحر ومرفأ أسطول البحر الاسود الروسي، وأجريت انتخابات مبكرة حملت الممثل الكوميدي إلى القصر الرئاسي وبدأت أوكرانيا مسيرة شاقة تتوسل الانضمام إلى الاتحاد الاوروبي وحلف الناتو.

وصلت المباحثات ببن موسكو وكييف وخلفها الناتو وتبريكات “خاتم البشر” في البيت الأبيض إلى طريق مسدود، فكان فجر 26 فبراير/شباط 2022 والهجوم الواسع للقوات الروسية جوا وبحرا وبرا في حرب أطلق عليها الكرملين اسم “العملية الخاصة لنزع سلاح أوكرانيا واجتثاث النازية الجديدة”، لتدخل العملية هذه السنة عامها الرابع.
قدمت إدارة بايدن دعما عسكريا تقنيا ولوجستيا استخباريا إلى القوات الأوكرانية إضافة، إلى أموال على شكل هبات، يقول خليفة بايدن، إنها تزيد على 350 مليار دولار.

لكن زيلينيسكي، ناكر الجميل حسب وصف دونالد ترامب، يقول إن حجمها لا يزيد عن 125 مليار دولار وإن نصفها تعود إلى واشنطن على شكل خدمات تدفعها كييف لشركات النقل، فيما ترفض الولايات المتحدة أن تستخدم كييف طائرات وسفن الشحن الخاصة بها لنقلها، وغالبا ما ردد زيلينيسكي، الذي اختفت الابتسامة عن وجهه منذ أخر مشهد كوميدي قبل أن يصدق نفسه ليصبح رئيسا، إن لا فضل للولايات المتحدة والغرب على أوكرانيا، ويقولها بالقلم العريض: “نحن ندافع عن ليبراليتكم وقيمكم”!
بمعنى أن الممثل الذي صدق نفسه ظل يدافع عن نهاية التاريخ حتى يوم الجمعة الماضي حين دخل إلى عرين ترامب الذهبي، مرتديا بنطالا عسكريا وحذاء عمل، ليجد نفسه أمام فرعون يفتح بداية التاريخ وأن الليبرالية كلمة لا توجد في قاموس حاكم مطلق يعتزم البقاء في البيت الأبيض دورتين أخريين، وأنه يستعد لتوريث عرش أميركا لنجله.

لعل فلودومير، الذي استغربت المتحدثة باسم الخارجية الروسية أن ترامب ونائبه لم يصفعاه أو يضربانه على قفاه؛ لم يقرأ فوكوياما؛ لكنه بالتأكيد عاشق لليبرالية العم سام، خلافا لماريا زاخاروفا التي تعرف طباعهم بحكم معايشتها للأميركان منذ نعومة أظافرها حين كانت رفقة أسرتها في الممثليات الروسية.
لم يجد فلودومير في البيت الأبيض “خاتم البشر- last man” بل أصل الإنسان بحسب داروين!

أحدث المقالات

أحدث المقالات