حُكم القيصرية هو مزيج من السلطة العلمانية والسلطة الدينية، حيث يديرُ في هذا النظام الرئيس أو الملك البلاد بقوانين علمانية بجانب رجال الدين وقوانينهم الدينية. الحاكم في هذا النظام يكون أعلى سلطة في الدولة، ولا يعلو سلطة رجل الدين على سلطة الحاكم.
لعل أقدم تاريخ مُدوّن عن حُكم القيصرية يرجع إلى زمن البيزنطينيين والروم، حين تحولت امبراطورات الروم إلى الديانة المسيحية للسيطرة على الشعوب المتدينة من طرف ولإرضاء القساوسة والباباوات من طرف آخر. بعد أن أحتل الروم الشرق, أصبحت إدارة الدولة المسيحية بيد الامبراطور أولاً، ثم بيد رجال الدين ثانياً، بعد إن كانت حصراً بيد الأخير، وغيّر الروم من قوانينهم العلمانية ودساتيرهم الوثنية إلى مزيج من القوانين الدينية والعلمانية.
اما حُكم القيصرية عند المسلمين، فلعله بدأ من أواخر العصر الأموي وبدايات العصر العباسي، الذي كان فيهم الأمير أعلى سلطة في الدولة وأحكم الناس في القضاء، لا صوت القاضي ولا صوت الإمام كان مسموعاً إن كانت متضادة مع ما ينطق به الحاكم. إلا إن حُكم القيصرية أصبحت واضحة جداً في العصور العثمانية، حين كان السلطان هو الذي يُعين الإمام والعالم ورجال الدين حوله، ويختار حفنة منهم الذين يساندوه في كل قضية من قضايا السياسة والاجتماع.
واليوم، كما نرى، أن جميع بلدان العربية خاصة والمسلمة عامةً تدار تقريباً بطريقة نظام الحُكم القيصرية. يتواجد فيهم أئمة ومشايخ مُطيعين للسلطة الحاكمة بجانب الرئيس، مستعدين لإصدار شتى الأحكام والفتاوي من أجل تبرير تصرفات وتحركات الحاكم والحكومة، حتى لو كانت متناقضة مع ما يقوله الدين.
حكم القيصرية جعل دولة واحدة مُدارة من قبل نظامين مختلفين، سياسياً واقتصادياً وقضائيًا، مما أدت إلى انشقاقها وضعفها وفسادها. وأنا لا أقول هنا أن الثيوقراطية هي المسؤولة عن ذلك، بل الانقسام الى نظامين هو الذي يجعل الدولة كذلك. ينفصل نظام القضائي في عدة دول عربية إلى قسمان: القضاء العلماني الذي يحكم بقوانين مُعترفة دولياً، والقضاء الإسلامي الذي يحكم بشرائع إسلامية. وإنطلاقاً من تلك المحاكم المزدوجة, يستطيع الجاني أن يهرب من تُهم الفساد والقتل والاعتداء بسهولة عن طريق تحوله من قضاء اسلامي الى قضاء علماني ومن قضاء علماني الى قضاء اسلامي. كلما تغيرت تفسيرات العدالة والحرية وما هو حق وفضيلة، كلما أصبحت الهروب من قبضة القانون سهلة. فالمرأة التي تمارس الجنس مع غير زوجها ليس عليها اي تُهمة في القضاء العلماني، لكنها متهمة بالزنى في القضاء الاسلامي ومحكوم عليها بالقتل، وقاتلها (قد يكون عشيرتها او اهلها المقربين) ليس عليه اي ذنب او حتى لوم، بذلك نرى ان القاتل يستطيع الهرب بسهولة من القتل عن طريق تحوله الى قضاء اسلامي بدلاً من القضاء العلماني. وكذلك الأمر عندما يختلف تعريف الفساد الاداري والسياسي بين القضائين. يقدر الفاسد ان يتهرب من قضاء واحد الى آخر بسهولة عندما يُقبض عليه بتُهم اهدار مال العام، وذلك لان اهدار مال العام يختلف تعريفه من قضاء الى آخر.
اما النظامان السياسيان المختلفان، ففيهما من المآسي الكبيرة، لأنه هناك فارق عظيم بين السياسة العلمانية المدنية وبين السياسة الاسلامية، حيث لا نجد في النظام العلماني إطاعة الحاكم أو الأمير في كل شيء، بينما يفرض السياسة الاسلامية ذلك على الشعوب المسلمة، وإن أبوا عليه، فالقمع مسموح للسلطة. والحاكم غير المختار من قبل الشعب يمكنه تبرير حكمه بشرائع الدين, ليتحول الدولة من الديموقراطية الى الدكتاتورية.
النظام الاقتصادي المزدوج هو النافع الوحيد في حكم القيصرية. أموال الزكاة والأماكن الدينية المُزارة تثري الحُكام ورجال الدين والدولة من دون اجتهاد أو تقديم سلع وخدمات. الأمر الذي لا يستطيع الاقتصاد العلماني فهمه وإجادته، لكن تستفاد الحكومة أيضًا من الاقتصاد العلماني عن طريق فرض ضرائب للمسلمين، الشيء الذي لا يوجد في الاقتصاد الاسلامي.
نحن الآن في مفترق الطرق، علينا أن نختار واحداً من السلطات، أما سلطة الدينية المطلقة أو السلطة العلمانية المطلقة. وعندما أقول “سلطة دينية مطلقة” أعني به أن نظام الحكم يكون خالياً من القوانين العلمانية التي تتعارض مع الشرائع الدينية أو تسبدل بعضاً منها.
لإنهما في تضاد مع بعضهما في القيم والمبادئ والمعاني والتعاريف والدساتير، فُتمزقان الدولة مع وجودهما معاً في نفس الوقت. في الحكم القيصرية، السلطة العلمانية اثرت على الدين بقدر ما اثرت السلطة الدينية على العلمانية، فرؤساء وأمراء العرب مضطرون أن يتبعوا بعض من قواعد الدين في عدة قضايا اجتماعية، وكذلك المشايخ والأئمة والعلماء مضطرون أن يتلاعبوا بالدين من أجل العلمانية ومن أجل الحاكم المستبد.
حُكم القيصرية هو حكم فاشل لا يرضي أياً من الشعوب سوى بعض من الحُكام الإنتهازيين ورجال الدين الفاسدين.