22 ديسمبر، 2024 4:56 م

حيّاكَ يا صاحبي

حيّاكَ يا صاحبي

(المقال مهدى الى روح الشهيد ياسين رشيد الـدلـيمي، الملقب ياسين دقيقة، والذي إستوحيته من رواية قديمة، كنت قد أصدرتها قبل أكثر من عشرين سنة، تحدثت فيها عن سيرته، متــوقفاً عند أهــم وأبـــرز مفاصـــل حياته).

وَجَّهَ له قاضي التحقيق تهمة الإخلال بأمن الدولة وذلك إعتمادا على  ما ورد في بعض فقرات دستورهم، وبعد أن إجتهدوا في تفسير بنوده. الأول تمثل في إعاقته لمسار التحقيق معه إثناء إستدعاءه، حيث رفض الإستجابة للإجراءات الواجب إتخاذها في مثل هكذا حالة. ولقيامه في ذات الوقت بالإعتداء على أحد رجال الدولة المكلفين بإلقاء القبض عليه، بغية إحضاره، وذلك بإستخدامه لآلة حادة، كان قد عُثِرَ عليها في جيبه أثناء عملية التفتيش. وعن التهمة الآنفة الذكر فستثبت الأيام وبالأدلة القاطعة ببطلانها. والسبب الثاني لممارسته مهنة الشعوذة، قبل ما يزيد على العشر سنوات، لما لها من دور في تضليل المجتمع وحرفه عن أداء واجباته الوطنية ورسالتها المنوطة به، وبما ينسجم ويستجيب لمنطق العصر وما وصلت اليه الشعوب المتحضرة، التواقة الى بناء دولها وعلى أسس صحيحة، اسوة بالتجارب التي أثبتت نجاحهها. (يا سلام). وبناءاً على ما تقدم فقد تقرر حبس المتهم لثلاث سنوات، يقضيها في مستشفى الأمراض العقلية، يوضع خلالها تحت إشراف ومراقبة ومتابعة الأجهزة وطواقم العمل وكل حسب إختصاصه.

ومن سخريات هذه المحاكمة ومهازلها، أن طلبوا منه وقبيل البدأ بعقد  جلساتها للنظر في قضيته، العودة الى ممارسة عمله السابق، والذي كان قد أتهم بموجبها في الدعوى إياها والمقامة ضده، وبراتب شهري مغرٍ جدا، فضلا عما يحصل عليه من زبائنه. كل ذلك لقاء بعض (الخدمات) التي يُتفق على تقديمها لهم بين فترة وأخرى، ووفق برنامج وأهداف، يعدونه له سلفاً، مخصصين له في ذات الوقت أحد الأشخاص، ليكون بمثابة عضو إرتباط بينه وبين الجهات العليا، مع توفير كافة الضمانات والتي تحميه وتعفيه من أي تساؤل أو وأي إستدعات لاحقة قبالة إغلاق القضية إياها وإسدال الستار عليها وبشكل نهائي ودون عودة.

الاّ أنَّ هذا المواطن والذي يحمل إسم عبدالرحمن، المتهم حتى اللحظة على وفق قوانينهم، قد رفض العرض المقدم له وبشكل قاطع ومن دون تردد، ولأسباب يعرفونها جيداً وقبل غيرهم، والتي لا تخرج عن الإساءة الى سمعته وما يحمله من أفكار ومبادئ وثوابت، لا يمكنه المساومة عليها وبأي شكل من الأشكال، والتي تتقاطع وبشكل جذري مع ما يسعون الى تحقيق.

وتعليقا على رفضه القاطع للعرض المقدم، فقد أعلن عن إصراره لخياره هذا، بل والتصدي وبكل ما أوتي من عزم وأرادة بوجه محاولات الإستدراج والضغط التي ما إنفك يتعرض لها بين فترة وأخرى، من أجل تليين موقفه ودفعه على التراجع عن قراره. بل حتى ذهب أبعد من ذلك، حيث عبَّرَ عن ندمه لعدم قذفه بشتيمة أو وجَّه إهانة الى أي من رجال الدولة المهمين وحزبها الحاكم، كي يُجبروا على إصدار أوامر القاء القبض عليه والإتيان به الى ما يسمونها بالمحكمة، حيث ستتاح له الفرصة، للقيام بفضح وكشف المترددين والمتذبذبين والمتلونين، لا سيما وأن أعدادا ليست بالقليلة منهم قد إقتربوا من اهل الحكم رغم التقاطعات والتباينات والخلافات العميقة بينهما ورغم ما كانوا يدعون. عجيب أمر هذا البعض، فنحن في زمن وللأسف لم نعد نميّز بين هذا وذاك، وبين مَن هو معك وبين مَنْ يضمر لك العداء.

بعد قضاءه لنصف فترة المحكومية التي صدرت بحقه، وبعد إتخاذ جملة من الإجراءات والقيام ببعض الفحوصات الدورية، فقد تبين للجان المشرفة على حالته الصحية كذب إدعاء الممحكمة بإصابته بما أسموه بلوثة عقلية أو ما يدخل في خانتها، لذا وعلى إثرها وبعد تلقيهم إشارة من إحدى الجهات المتنفذة، فقد قررت إحدى اللجان المكلفة والمختصة برفع تقرير الى مَنْ يهمه الأمر، تدعو فيه الى وجوب نقله الى مكان آخر لقضاء ما تبقى من فترة محكوميته، أسوة بالسجناء العاديين، وهذا ما عُمِلَ به فعلا.

لكنهم ورغم توصيات اللجنة المكلفة وإيعازها للجهات الأمنية بإتخاذ ما يلزم، الاّ انها سوف لن تترك السجين هانئا متنعما بهذه التي أسموها مكرمة، والتي كان قد أوصى العمل بها وتنفيذها الباب العالي، حيث سيقومون بمشاغلة السجين بغية إفراغ ما جاء بها من جدوى وفائدة، وذلك من خلال جملة من الأساليب كالقيام بنقله بينمن سجن الى آخر وبفترات متقاربة، مفوتين على أهله وأصقاءه فرصة الوصول اليه والإهتداء الى مكان حبسه.

السجين عبد الرحمن من جهته، لم يعر إهتماما لما كان يتعرض له بل راح مكيفا حالته على وفق ما يلاقيه، واضعا في حساباته أصعب الإحتمالات. ومن محاسن الصدف وفي إحدى تنقلاته، فقد توفرت له فرصة الإلتقاء ببعض الوجوه التي كانت قد إختفت وتوارت عن الأنظار ومنذ زمن بعيد، ومن بينها مَنْ فُقَد أمل العثور عليها مرة أخرى، حيث إنقطعت أخبارهم وتقطعت سبل الوصول اليهم، رغم ما بُذل من جهد ووساطات وما دُفِعَ من رشاوي. ومن بين ما سُرَّ به أيضاً أثناء تنقلاته، أن توفرت له فرصة حضورالعديد من الفعاليات والأنشطة التي مكنته من الإعلان عمّا يُفكر به وبصراحة مطلقة، ومن دون أن يحاذر أو يتلفت يسارا أو يميناً، فوق الأرض أو تحتها.

وليس بعيداً عن طبيعة الأفكار التي يحملها السجناء، ورغم أنَّ قسما كبيرا منهم قد حُكم عليه بالسجن المؤبد وربما الإعدام أيضاً، الاّ انهم لم يفقدوا الأمل في إحداث تغيرات ما مستقبلاً والتواصل مع الحياة بثقة والتي قد تساهم في التخفيف من وطأة ما يلاقونه. كذلك لقضاء أوقاتهم وعلى نحو أفضل وأكثر جدوى وفائدة، لذا شرع هؤلاء(السجناء) بإقامة وإحياء بعض الندوات، لتغطي مختلف المجالات، كالإقتصادية والسياسية والفكرية وكذلك الأماسي الشعرية والفنية، وعلى أيدي وعقول ذوي الإختصاص والكفاءات المشهود لها. وبذا ستتوفر لصاحبنا عبدالرحمن، فرصة الإحتكاك بهذه النخبة، التواقة لبناءمستقبل أبهى وأجمل لشعوبها. وعن تلك اللقاءات بهذه الفئات الخيرة، فقد تسنى له إلتقاط بعض الصور التذكارية معهم والتي ستبقى برفقته ما دام حيا. والإطلاع كذلك على بعض الكتب وخاصة الممنوعة منها، والتي كان يتم تسريبها، بتواطئ مع بعض المشرفين على إدارة هذه السجون.

      

                  ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  ليس هناك من أحدٍ في إستقباله لحظة إطلاق سراحه، قد تكون من بين أسبابها، عدم معرفة الأهل والأصدقاء بتأريخ محدد لذلك. وقد تدخل فيها أيضا بعض الإعتبارات التي لم تعد خافية على أحد. ومما يُجدر ذكره هنا، فإن السجين عبدالرحمن قد تم إخراجه من السجن قبل إنقضاء فترة محكوميته المقررة ببضعة أشهر، وذلك لضيق الأماكن ولفسح المجال لــ(ضيوف) جدد، ممن يعدّون بتقدير السلطات الأمنية أكثر خطورة من بعض القابعين في السجون. غير أنَّ تلك الأجهزة، حاولت أن تصور الأمر وكأنَّ ما أقدمت عليه يرتبط بحسن سلوك وسيرة نزلائها. ويأتي أيضاً ولا زال الإدعاء لهم، إستجابة لصوت العقل والرحمة الذي تتميز به قيادات الدولة، ولفتح صفحة جديدة، تدعو من خلالها كل القوى الخيرة من أجل المساهمة في إعادة بناء الدولة وإزالة ما لحق من خراب بالبنى التحتية ومن نقص في القوى البشرية الفاعلة، جراء الإعتداءات الخارجية المتكررة، فضلاً عمّا كان يقوم به الطابور الخامس من نشاطات تخريبية وأعمال تجسسية.

وتعليقا على البيان الصادر والذي تم بموجبه الإفراج عن عدد من المعتقلين السياسيين وبحسب صيغته المنشورة في الجريدة الرسمية، فإنه لم يتطرق لا من بعيد ولا من قريب الى الإعتداءات والإنتهاكات الصارخة التي كان قد تعرض لها ولا يزال الوطن والمواطن والدوس على كرامتيهما، وعلى يد الأجهزة المتحكمة وحزبها الحاكم والمسيطر على مقدرات الدولة، وبأهم وأخطر مفاصلها.

وجد نفسه مضطرا الإنتظار لبعض الوقت ريثما تتوفر إحدى الحافلات التي يمكن أن تقلّه الى مدينته، خاصة وأنه وحتى الساعة لم يكن هناك من أحد في إستقباله وكما هو مُفترض. وبينما لا زال على حالته هذه، ولما يزيد على الساعة من الزمن، وإذا بإحدى سيارات الأجرة وعن طريق الصدفة تمرق من أمامه، فعدَّها فرصة مناسبة، فما كان عليه الاّ أن يؤشر لصاحبها بالتوقف رغم عدم تأكده بأن السيارة لم تكن مشغولة أو مستأجرة لأحد ما، راجيا إيّاه بنقله الى مدينته والتي لا تبعد كثيرا.

أثناء ذلك وما كاد يقطع بضعة كيلومترات، وإثر تطلع سائق الحافلة بالمرآة التي أمامه والتي تعكس صورة الشخص الجالس في المقعد الخلفي، بدأت تظهر بعض المؤشرات المقلقة على محيّاه، تشي بأنه يعرف السجين المطلق سراحه توا. فعلى ما شاع من أخبار وما جرى تسويقه في حينها، فأنَّ الراكب بمعيته، مصاب بلوثة عقلية إن لم يخطأ في التشخيص، لذا لابد من الإنتباه وأخذ الحيطة والحذر حين التعامل معه، خشية أن تصدر منه بعض الحركات التي قد يصعب السيطرة عليها. لذا بقيت حالة الصمت ولما يزيد على الربع ساعة هي اللغة السائدة بين الطرفين.

عبد الرحمن من جهته تنبَّه لما يحصل، مما إستفزه كثيرا وأثار مواجعه، ترافق ذلك ودون إرادة منه مع تساقط بضع قطرات من الدمع، والتي اتت بمثابة ردة فعل لا ارادية على ما بان من السائق إتجاهه. السائق وبحكم طبيعة عمله وما تمر به من حالات صعبة، فقد تنبَّه لما يدور في حافلته من حالة مؤلمة، ولتستدعي منه إتخاذ موقفا ما، والذي سيتمثَّلَ في حسن تعامله وتعاطفه كذلك مع السجين المطلق سراحه، وليدخلا من بعدها في حوار مشترك، إستعادا من خلاله ما كان قد حدث فعلاً وما جرى تلفيقه بحق السجين من تهمٍ. وعلى أثر ذلك، فسيخرج السائق بنتيجة لم يجرؤ على البوح بها، غير أنها تفيد: بأن السلطة الحالية غاشمة ولا ريب في ذلك، وقد جاءت لتبقى على وفق ما تروج له في إعلامها وفي كل مناسبة، حتى وإن تطلب الأمر حرق الحرث والنسل.

ولطوي الصفحة السابقة، ولفتح باب من الفرح والبهجة ونسيان عذابات السجن، إستجاب لرغبة السائق في دعوته له، بأن يقوما سوية وبالحافلة وقبل توصيله الى البيت بالدوران حول المدينة وإختراق حتى شوارعها الداخلية والضيقة وكلما سمح الأمر، كذلك المرور والتوقف عند أهم وأبرز معالمها. وأثناء تجوالهما، فقد تفاجئ عبدالرحمن بوجوه جديدة لم يألفها من قبل رغم انه لم يغب عنها طويلا. ترتدي (هذه الوجوه) أزياء غريبة عجيبة ولا تمت بصلة بأي منطقة من مناطق وطنه المترامي الأطراف، المتعدد المنابع والمكونات، لا من بعيد ولا من قريب. حيث يبدو على الشخص الذي يرتديها كما الذي تمنطق سلاحه، إستعدادا لمعركة حامية الوطيس، ستدور رحاها بعد قليل، ولكن لا أحد يعرف مَنْ سيكون ضحيتها وما أسباب نشوبها.

في آخر المشوار وفي بادرة طيبة وحسنة منه وبعد أن أوصله المكان المتفق عليه، رفض السائق وبإصرار تقاضي أجرته، لقاء خدمته التي قدمها للسجين الذي أطلق سراحه قبل حين من الوقت، إحتراما وتقديراً له، كذلك سيقدم له إعتذارا شديد الحرارة والصدق، لما بدر منه من سوء ظن في بادئ الأمر، معربا في ذات الوقت عن تضامنه الكامل والمطلق والصريح معه ومع صحبه، لما يحملونه من مبادئ وقيم وأفكار وثوابت. وليتوادعا على أمل اللقاء ثانية وبأقرب فرصة ممكنة.