في مجتمعاتٍ تصعب فيها التفرقة بين الدين والعُرف، وبين القانون والتسلّط، يسهل أن تتحول الفوضى إلى نظام، والظلم إلى فضيلة، والقتل إلى واجبٍ “مُشرّف”.
ليس لأن الناس أشرار بطبيعتهم، بل لأن الجهل المركّب يغرس فيهم يقينًا زائفًا بأنهم على صواب، وهم في حقيقة الأمر يعيدون إنتاج جاهلية قديمة، ولكن بأقنعة حديثة.

نسمع بين الحين والآخر عن فتاةٍ قُتلت على يد أبيها أو أخيها أو أحد أقاربها بذريعة الشرف.
قصة تتكرّر، ولا جديد فيها سوى الاسم والعنوان، ولكن الجريمة واحدة: وأدٌ حديث، بأدوات أشد بؤسًا من ذي قبل، تُرتكب باسم “الغيرة”، وتُبرّر باسم “الدين”، بينما الدين منها براء.

في أحدث هذه الجرائم، فتاة أرادت أن تتزوج من رجلٍ تكرّر زيارته لمنزل والدها طالبًا يدها.
لم تهرب، لم تعلن تمرّدًا، لم تفضح سرًّا.
كل ما فعلته أنها رغبت أن تختار شريك حياتها، فجاء الرد بالسيف، وليس بالرفض.
لم يكن القاتل مجهولًا، ولا مضطربًا نفسيًّا، ولم يكن تحت تأثير الكحول أو المخدرات.
بل كان بكامل وعيه، وربما صلّى قبل تنفيذ جريمته، وربما قال بعدها: “لقد غسلنا العار”!

العار الحقيقي ليس في قرار الفتاة، بل في صمت المجتمع.
لم تُستنفر المنابر، لم تتحرك الجهات، لم يدق جرس الإنذار، لأن “العنوان” كان كافيًا لتخدير الضمير: شرف العائلة.

في مثل هذا المشهد، يُسجن الدين، ويُستبدل بنسخة مزيفة منه، تُشرعن العُرف، وتمنح الظالم غطاءً شرعيًا.
ويُجمّد القانون، لأنه يعلو صوت “العيب” على صوت العدالة، وتُربط الشريعة بمزاج العائلة وليس بنصوص الحق.

ليست هذه الفتاة استثناءً.
ولا هذه الجريمة نادرة.
نحن أمام ظاهرة اجتماعية خطيرة، تُرتكب يوميًّا في زوايا صامتة، ويُغلفها صمتٌ عام، بل أحيانًا تصفيق داخلي.

هل هذه مجتمعات متدينة؟
الدين، حين يُفرغ من جوهره، ويُستبدل ببعض الشعارات، يتحول إلى مجرد “لعقٍ على الألسن”، كما وصفه الإمام الحسين عليه السلام.

الفتاة التي قُتلت ليست ضحية “فرد”، بل ضحية ثقافة، وأعراف، وصمتٍ طويل.

وحتى نكسر هذا الصمت، يجب أن نُعيد تعريف الشرف.
فالشرف الحقيقي لا يُغسل بالدم، بل يُصان بالرحمة، ويُقاس بعدلنا وليس بقسوتنا.

أحدث المقالات

أحدث المقالات