عقيل علي، عبدالأمير الحصيري، خليل حاوي
ما يدفعني إلى كتابة هذه السطور المتواضعة، هو ما أشاهده بعين حزينة وقلب منكسر، من موت يمضي إليه بقدمين واثقتين، شاعر آخر آثر أن يتخذ لنفسه، مكاناً بين الأموات في دنيا الأحياء الأموات، لا ليعيش بل لينتحر بطريقة طالما راقت للكثيرين من أبناء جيله، وممن سبقوه من الشعراء في ميدان الشعر والصعلكة ، كما حدث مع الشاعر النجفي شيخ الصعاليك عبد الأمير الحصيري وابن الجنوب عقيل علي، أو بطريقة أكثر تهذيباً وعنفاً كما حدث مع الشاعر اللبناني خليل حاوي.
شيء محزن ومؤسف أن يموت الشعراء في مدينة الشعر بغداد، دون أن تكون لنا القدرة لنمد أيدينا لنحميهم من موت محقق، أو لنمنعهم من المضي نحو حتفهم، يرحل شعراء بغداد الشعر منفييّن، ويوَّسدون ثرى غير ثرى العراق، كما حدث لشاعر العراق والعرب الأكبر محمد مهدي الجواهري بعد أن أسقطت عنه الجنسية العراقية، ليس شكّاً بعراقيته بل كيداً بشعره، أو غرباء في أوطانهم، كما حدث لعبدالأمير الحصيري وعقيل علي، كانوا يتسربون من بين أيدينا مثل حبات الماء، فتتلقفهم الأرض الجدباء التي طالما أمعنت في حرمانهم، هكذا رحل السياب1964وعبدالأمير الحصيري1978وعقيل علي2009 في أعمار كانت مازالت في أوج عطائها وتفوقها ونضجها، رحلوا ليس لأن شيطان الشعر مات في أرواحهم، ولا لأن قرائحهم لم تعد سخية وملهمة، بل لأن ناقوس الرحيل دقَّ معلناً نهاية الرحلة القصيرة، التي آن لها أن تتوقف بالمكان الذي لم يختاروه، بل حثوا الخطى إليه مختارين، بتلك الرغبة الجامحة بالفناء، بعد اليأس الذي انتاب أرواحهم المعذبة من جدوى هذا العالم.
(الشعر حزين في بلادي) كما يقول الناقد العراقي حسين سرمك في دراسته القيّمة عن الشاعر غزاي درع الطائي المنشورة في جريدة الزمان في 2009 لكنّه لن ينكسر فهو عنصراً بارزاً من عناصر أسطورة الخلود العراقي، ومبرراً من مبررات وجوده كما نقرأ ذلك للناقد حسين سرمك : وصحيحٌ أن الشعر حزين في بلادي ، إلّا أنه ينتظر منقذه ومَنْ يعيده إلى الناس ؛ إلى قلوب الأرامل المفجوعات، ووجوه اليتامى الشاحبة . قد يكون الشعر بلسماً للقلوب الموجوعة في أي مكان ، لكنه في العراق سبب عناد من أجل الحياة ودافع بقاء مستميت.
نعم فالشاعر يبقى صوت الناس وضميرهم ولقد كان السياب مجيداً وبليغاً في تصويره لهذه العلاقة الإنسانية والثورية بين الشاعر وأبناء بلده في قصيدته (النهر والموت) :
أود لو غرقت في دمي إلى القرار لأحمل العبء مع البشر و أبعث الحياة ، إن موتي انتصار.
لكن الشاعر حين يموت، لايشغل موته العالم، ولن يكون موته إلا خبراً عابراً في وسائل الأعلام المتخمة بالعاجلات المتلاحقة، وهي تحمل بين طياتها مئات بل آلاف الميتات غير
المشرفة والمنكرة، وفي سجلات المدن المٌدمّات بالوجع اليومي، لحروب الأخوة الأعداء، وهي تنتظر من يخلصها من عناء ما احتملت من موت، وحين يموت الشاعر (لا) يختلُّ إيقاع القصيدة وتعلن الموسيقى الحداد، فقط ، كما يقول الشاعر الفلسطيني محمود شقير، بل أن على العالم أن يستحي لأنه فقد ركناً مهماً من أركان برائته، فالشاعر بين حياتين بين الإنسان والشاعر في بلاد لا تقرأ إلا لغة الجلادين، يتحول إلى دمية عليها أن تطيع أو تصمت، ربما هذه هيّ الحكمة في موت الشاعر قبل موت شعره، فليس للشاعر من حرية غير ماتبيحه له سطور الصفحة البيضاء، التي عليه أن ينضدها وجعه وتبرمه من هذا العالم الذي لم يعد يحتمل نزقه العاطفي والثوري، كما حدث للشاعر الروسي فلاديمير ماياكوفسكي (1893- 1930) حين أدرك في لحظة مبكرة أن مبررات وجوده لم تعد مهمة، بل أصبحت معدومة، حين فرض عليه النظام الستاليني الإقامة الجبرية ومنعه من السفر، لأنه لم يعد في وفاق مع النظام، فلا لاءاته الأربعة شفعت له ولا الغيمة النبوءة في السروال، زكَّت له تاريخه النظالي والشعري، فلقد تحول إلى ثوري مضاد يجب إسكاته، ولم يعد مرغوباً به من لدن النظام، الذي خلقه وعاش في كنفه صبياً، فأطلق الرصاص على نفسه بعد أن كتب وصيته الأخيرة : إلى الجميع لا تتهموا أحداً في موتي، وأرجو أن لا تنمّوا. فالراحل لم يكن يطيق ذلك.
وكذلك حدث نفس الشيء مع الشاعر اللبناني خليل حاوي(1919-1982 ) فكلاهما قررا التوقف بعد أن استنفدا كل ما يملكان من حصاد التجربة المرة، وفي اللحظة التي لم يعد فيها مفترق للطريق غير الغياب القسري.
حين يموت الشاعر لايترك ورائه غير أصداء متفرقة هنا وهناك، على قارعة شتات ذاكرة تتقاذفها، الحسرات مرة واللعنات مرة ومحاولة تفسير موت لم يكن بالحسبان مرة أخرى. مات الشاعر وعلى وقع موته كانت الحياة أكثر جرأة، في أنها منحته قليل من الإنتباه، وأعارته قليلاً من صخبها لتعلن حداداً رسمياً موشى بالإبتسامات الخجولة، في قاعة مغلفة بالرياء والشماتة، أن الشاعر مات.
فموت شاعر لايحتاج إلى طقوس رسمية، فموته لايشبه موت الرؤوساء والملوك والسلاطين ولا حتى أولادهم وزوجاتهم، هو موت يولد في اللحظة العسيرة بين العبور الحر بين المرئي واللامرئي، بين الشخصي والعام.
تلك اللحظة التي أجاد أمير صعاليك الشعر العراقي عقيل علي( 1949 -2005 ) تصويرها أفجع تصوير في قصيدة الديوان(طائر آخر يتوارى): الآن ، ذات يوم ، وعلى نحوٍ ما .. طائرٌ آخر يتوارى في السُّهاد .
مع عقيل علي لم تكن تلك اللحظة مارقة في حياة الشاعر، بل هي اختزال لكل ماكان وكل ماجادت به الحياة من نعمة، منذ لحظتها الشعرية والزمانية (الآن)، التي لاتملك من نفسها إلا أن تكون هنا، وهناك أيضاً كان عقيل، ملهماً بسحر الشاعر أن (ذات يوم) لم يكن ظرفاً لزمن مضى بل هو نبوءة الزمن القادم، بأن شاعراً سوف لن يكون غيره، يتوارى لكن ليس بالسهاد المفترض، لشاعر يتوسد غنائمه وأذرع بيضاء شهية تٌمسّد للنعاس، بل بالوجع العراقي لمن جعلته أقداره ساعياً، يحمل بريد المدراء المرفهين بنعيم السلطة وبهرجها.
من منّا آلمه المنظر المروع لشاعر الصعاليك، أو صعلوك الشعراء عقيل علي جثة هامدة، على قارعة رصيف مهجور، في ليلة بغدادية كل ما فيها كان ينبيء بموت شاعر واندحار مدينة، تأنّ تحت وجع موت فصّله لها أعدائها وزمانها الديمقراطي لتكون مناسبة لمقاسات شاعر وليس سياسي، شاعر بحجم عقيل علي لاغيره وهو يرثي صعلوكاً آخر قذفت به المدن القصية، في أحضان بغداد المثيرة المغرية الناصبة فخاخها، لصعاليك زمن آخر من أزمنتها الجاحدة، عبدالأمير الحصيري : كان يطيل الترقب في وداع حضوره. أيّ نبوءة أفجع وأكثر إعجازاً منها، أن يطيل الشاعر ترقبه لوداع حضور سيختفي قريباً.
عقيل علي في مرثيته تلك كان يرثي نفسه أيضاً، بعد ان فقد القدرة على التواصل مع الآخرين، بعد أن توفر له القدر على بعض الأصدقاء الذين حاولوا إنقاذ ما يمكن إنقاذه، من جنائن آدم أو عقيل علي، لكن الزمن كان أكثر حيلة منه، وسبقه إلى هناك إلى حيث اللقاء، الذي لم يكن بمستوى العطاء الذي بذله في جنائن آدم ولا طائر آخر يتوارى، كان موتاً بل قل انتحاراً مصحوباً بالسخرية من كل زيف هذا العالم ومقته، رحل عقيل علي بمشهد كان يستحق أن يكون قريناً لجنازة تموز، رحل عقيل علي بموت كما يصفه الناقد علي الفواز: موت عقيل علي كان هزيمتنا الشعرية والأخلاقية، نعم موت الشعراء بهذه الطريقة المفجعة، هو هزيمة لكل الثقافة الوطنية والإنسانية، في بلاد اعتبرت واحة الشعر وديوان الشعراء.
مع عبدالأمير الحصيري شيخ الصعاليك كما كان يسمي نفسه( 1942- 1978 ) النجفي المولد والذي سبق عقيل علي بسنوات الصعلكة والإبداع، أنتهت لحظة الذهول الأولى في بغداد، التي سمرت قدميه كما يصفها عبدالأمير في معلقة بغداد:
ياجنة الاطياف.. نادية السنى فيها العيون ترودهن مناسب ..
يا كوثر الاحلام.. تورق فضة أمواجه, ويفيض شهد ذائب.
وبعد أن تلاشى سحر المدينة وأفٌل بريقها، هاهيّ تفتح له كوات دهاليزها وسراديبها الليلية، المتخمة بالإهانة والجحود والتردي، والتي حتماً لن تكون إلا ملاذاً لمن هم بمرتبة عبدالأمير، وفي فوضى مأساته حاول الشاعر أن ينتحر أكثر من مرة كما يقول المقربون منه بعد ان أتلفت روحه المدينة والفقدان، فقدان الأسرة والإحساس بالإستقرار والأمان، فقدان الإنتماء لمدينة يشعر معها بالثقة، أنها لن تخونه، وكانت لحظات الصحو عند عبد الأمير أكثر إيلاماً من لحظات السكر، ففيها ينتبه من غفلة السكر إلى وحشة المكان والوجوه، والعوز والفاقة، فيلوم ما بقيّ من ذات منكسرة في قصيدته (إلى القلق) :
قد بت امضغ أعراقي وأوردتي .. وارتوي من جراحاتي وانسحق
عريان يكسو الدنا ألبسة .. عطشان في راحتيه الكوثر العبق
فهل كسوت جفون الناس الف دجى .. أم هل تبسم في احداقه الغسق.
لكن يبقى السؤال حائراً كما يصوغه صديقه الشاعر العراقي سعدي يوسف: ماذا تبقى لنا من عبدالأمير الحصيري؟
مير ، عامل الأمن عبد أن أسطورةَ الشاعر ( لا الشاعر ) هي ما تبَقّى لنا أزعُمُ ثم يجيب : المطبعة الشيوعيّة الفتى ، حِلْسِ الليلِ ،
وأمير الحانات الرخيصة، الذي لم يُرِحْ رأسه إلاّ في مقهى حسن عجمي، وفي وادي السلام حيثُ يثوي.
بطريقة ما كان انتحار خليل حاوي الشاعر والأديب والمفكر اللبناني(1919 – 1982) أشبه ما يكون بالطريقة التي انتحر بها ماياكوفسكي، وهو يطل من شرفته على بيروت، وقد تحولت جسورها إلى معابر تحمل جنود المحتل الإسرائيلي العابرين من :
من مستنقع الشرق إلي الشرق الجديد.
كما يصفهم خليل حاوي في رائعته الجسر، فما كان منه وهو المحاصر بالأزمات الشخصية والقومية المستعصية والخسارات المتراكمة، إلا أن يوقف كل هذا التداعي الذي بات يحاصره كما يحاصر المحتل مدينته بيروت، فانتحر بصمت وعزلة، مخلفاً ورائه كم هائل من الأسئلة المبهمة عن وظيفة الشاعرفي خضم صراعات الوطن والمواطنة، فخليل حاوي اليساري التقدمي صاحب الإنجاز المهم في ساحة الشعر العربي، آثر الإختفاء في لحظة مهمة من لحظات الصراع الايدلوجي والقومي، حين اجتاحت اسرائيل بقوتها العسكرية بيروت عام 1982 محاولة إخراج المقاومة الفلسطينية من لبنان، ربما كان الأجدر بمحمود درويش أو سميح القاسم، أن يقررا نهاية مثل هذه في خضم تلك الاحداث، التي كشفت عن عورة النظام العربي بأجمعه، أمام صفاقة إسرائيل واستهتارها، بكل القيم والموازين الدولية والإنسانية، ربما فهم خليل حاوي المخزى، من دخول دبابات إسرائيل بيروت بطريقة أكثر أستشرافاً ونبلاً من الآخرين، فلقد امتلاً غيضاً وهو ينصت إلى نشرة الأخبار المسائية، في منزل صديقه شقيق عطايا، كما يذكرالكاتب محمود شريح، وأنشد قصيدته (في الجنوب) ثم قال لصديقه: الجنوب في قلبي، من سيمحوالعار عني؟ الأفضل أن انتحر!
وبعد ساعات من تلك الحادثة اطلق خليل حاوي، الشاعر والتدريسي في الجامعة الأمريكية النار على رأسه، ليموت منتحراً.
وكما يقول الناقد العراقي حاتم الصكر: كان دوي الطلقة أشد من دوي قصائده التي حفلت بالرهان على الانبعاث والتجدد التموزي الذي أخذ هيئة رمزية لافتة في شعره.
رحل خليل حاوي كما سبقه الكثير من الشعراء في قوافل شعراء المحنة والتحدي، وربما كان موته صدمه لكل من حلم بمشروع خليل حاوي الأهم من مشاريع (الأحزاب)، والأكثر ديمومةً من كّل الخطابات السياسيّة كما يقول الكاتب لفلسطيني رشاد أبو شاور، فإنه برحيله المفاجيء هذا قدم لنا صورة أخرى من صور موت الشاعر، مقابل نتهازية الواقع وغفلة السياسة.
ربما وجد خليل حاوي في محنة الانتحار، ما لم يجده في كل ما تعلمه خلال رحلته الأكاديمية والشعرية والسياسية، للسؤال الي ظل عالقاً لعقود حين سأله أول مرة في ديوانه (نهر الرماد) في قصيدة(ليالي بيروت) :
من يقوّنا على حمل الصليب
كيف ننجو من غوايات الذنوب
والجريمة؟
موت الشاعر يتشابه إذا كان هنا أو هناك، في بغداد أو بيروت أو دمشق، أو حتى في موسكو، إنه موت متفرد وصارخ لا يكون إلا لشاعر متمرد، وجد خلاصه في الفناء بعد ان أعياه البحث الدؤوب، عن حقيقة ليس لها وجود إلا بين سطوره، التي ربما لايفهمها إلا القلة القليلة من الناس، تعبير صارخ عن الرفض لكل ما هو افتراضي ومزمن،
سلاماً أرواحكم الطيبة، عقيل علي، عبدالأمير الحصيري، بحجم الحزن الذي تأن به بغداد الشعر والشعراء، سلاماً لروحك خليل حاوي، في الموت أيضاً مكان للهدوء مثلما للهروب، لكنه أبدي.