حينَ يُصْبِحُ الوطنُ بلا أسوار .. فليسَ لأحَدٍ التَشَدُّق والمُزايدة بشعاراتٍ وَطنية فارِغَة ..
مُنذُ غزو وإحتلال العراق في 2003 لَمْ تَعُدْ أسواره منيعة على أي طامع أو معتدي ولكل من هَبَّ وَدَبْ وحتى لِمُهَرِّبٍ تافه بسيط .. وباتت حدودنا “سداح مداح ” ولم يعد سور الوطن عالياً كما كانْ .. ودوما .. وأبواب المدن العراقية باتت مشرعة ومفتوحة أمام تمدُّدْ ايران وداعش وتوغُلِهِم داخل حدود البلاد , وكانت أقمار العالم الصناعية تَرّْعى تقدمهم وهي تجوب السماء من فوقهم تَحْميهِم وتَحْرُسَهم .. وربما كانت تُوجِهَهُم حين يَحيدُون عن خطوطهِم المرسومة والتي ربما يتجاوزنها سهوا ومن دون قصد ؟؟!!
ظلَّت الموصل تحت الحكم العثماني لأربعة قرون 1516-1918 وتعرضت عِبّْرَ تاريخها للكثير من الكوارث والامراض والأوبئة والمجاعات والتي فَتَكَتْ بشعبها مما ادى الى تناقص في أعداد السكان وعانت كثيرا من جراء ذلك .
دخل الجيش الإنكليزي لولاية موصل في 8 تشرين الثاني 1918 ليصبح الكولونيل لجمن أول حاكم عسكري لها , مات في 12 أغسطس 1920 حيث قتل خلال ثورة العشرين ضد الإنكليز على يد الشيخ ضاري بن محمود الزوبعي من بطون قبائل شَمَّرْ , وأولاده خميس وسليمان .
الموصل مدينة حَضَرِيَّة وبسبب تجانس ريفها وقُراها ومُدنها وإعتزاز سكانها بمناطق تواجدهم وانتشارهم عبر التاريخ , لمْ تتعرض لهِجرات كبيرة من الريف كما حصل في بغداد خلال القرن الماضي وبشكل مُخيف وعشوائي من المحافظات الجنوبية , وهذا ماساعدها على الحفاظ على موروثها الثقافي الثري من عادات وتقاليد وأعراف وكذلك نسيجها الاجتماعي والمُتصالح دوما ,بغض النظر عن تفاوت أعدادهم في التركيبة السكانية ووتزيعهم الديموغرافي , وساعدها في ذلك كونها مركزا وطريقا تجاريا وسياسيا مهما في الأقليم , وهذا ما أكسب سكانها وحواضرها إستقلالية وتميزا يعتزون به ويُحافظون عليه ويدافعون عنه ويَفْتَدونه ..
الذي يُميز الموصل وعبر تاريخها الطويل هو الرُقِّيُ في توليفة نسيجها الإجتماعي المُتناغِم دوما عبر قرون , من خلال عُهود وأعراف ومواثيق وعُرى ووشائِجَ صداقةٍ وعيشٍ وثقةٍ متبادلة
وإحترامٍ وحُسنَ جِوار , وكلها غير مكتوبة , ولكنها مفهومة ومُعاشة تَرَبَّتْ وتَتَرَبى عليها أجيال ولازالت ولعقود طويلة في تاريخها الحديث , والتي اعطت وماتزال دروسا للأنسانية والعالم في المحبة والعيش بسلام .
ورغم إحتلال داعش للمدينة ومن قبلهم الحرس الثوري العراقي “المليشيات الشيعية ” إلا أن معظم سكانها أَبَوا الخُروج منها رغم أساليبهم الوحشية وما فعلوه من مآسي ومجازر بحق الأزيديين والمسيحيين والعرب والأكراد وكل الطوائف , ورغم ذلك صبروا على الضيم وإحْتَسبوا ..
بدأت عملية تحرير الموصل لطرد مقاتلي مليشيات داعش الإرهابية والذي دنَّسّوا أرضها وإضطهدوا شعبها ولوَّثوا هوائها .. وحين غاب الربيع عنها لمدة عامين .. وهي المدينةُ المُتَفَرِّدَةُ عبر التاريخ وهي تحمل إسم ” أُمُّ الرَبيعَينْ ” .
المخاوف اليوم تتمثل في هذه القوى والقوات ومن مختلف الاتجاهات ربما هدفها المُعْلَن واحد وهو تحرير الموصل , ولكنهم في الحقيقة وبالتأكيد لكل منهم حسابات وفي الغنيمة عندهم مطامع وأجِنْداتْ , فهل هذا سيكون على حساب وٍحْدَة الموصل وسلامة أهلها , ضَعْ ماشئت من علامات التعجب والإستفهامات ..؟!.
كنا ولازلنا نتسائل ونتمنى ونرجو من العالم المُتَكَأكِأ حول الموصل اليوم بكل قواته ومختلف اسلحته الجبارة وجبروته , وبدل أن يبذل كل هذه المليارات , كان الأولى بهم أن يُدَرِّبوا شباب ورجال الموصل والمدن والقرى التابعة لها ويشكلون منهم جيش وقوة وطنية لتحارب وتطرد داعش كما فعل اخوانهم في الفلوجة حين طردوا تنظيم القاعدة من مدينتهم منذ سنوات .
مما لاشك فيه إن الملايين من الوَطننين والشُرفاء في العراق والذين ليس لديهم مطامع ولا أَهواء وهُم عامة الشعب والبسطاء , ومن بينهم رجال الموصل الأشداء والمشهورين ببسالتهم ووطنيتهم ففيهم جنود وضباط وقادة خاضوا حروبا أكثر ضراوة طيلة سنوات , هم قادرون على طرد داعش لو توفرت لهم الظروف ووجدوا الدعم لدَحْرِ هؤلاء الشرذمة من المرتزقة والمُدَّعين , ولكن الأمور باتت لاتجري على هذا المنوال فالوطني أصبح منبوذا ومطاردا في العراق في هذا الزمان , والوطنية أصبحت بضاعة راكدة كَصَوابٍ مَهْجورْ ..
لامكان اليوم للتَمنيات فالغرب يريد مهرجاناً من القصف والرَجْم والدمار ليَسْتعرضَ قوته ويجرب فاعلية أسلحته والتي باتت عبئاً على مستودعات ترسانته.. فليس من سوقٍ لها خيراً من
هذا المهرجان , ومثلما فعل بليبيا وسوريا ومن قبلهم مدن العراق , هذه هي عقليتهم وعقيدتهم والتي بتنا نعرفها جيدا ” من كُثُر مادَگَّتْ على الراس طبول ” نعم طبولهم التي بتنا نمييزها على بعد آلاف الاميال .. واليوم جاء الدور على الموصل ليتم تدميرها كما دُمِّرت من قبلها بسنوات العاصمة بغداد ..
إن كل القوانين التي وضعها البشر من خلال الأمم المتحدة وكل المواثيق والأعراف الدولية تُحَّرِم وتمنع إستخدام القصف والقنابل والمدافع في عمليات تحرير المدن من عصابات ومليشيات لاتملك سوى أسلحة خفيفة خشية وقوع كوارث بحق المدنيين وأرواحهم وممتلكاتهم , ولكن عقلية وشهوة الإستعراض الغربية لاتعمل وزناً لا للإنسان وليس عندها رحمة ولاتحترم قانونا ولاتحفظ عهدا .. ياليتكم تشاهدوا حجم الدمار نتيجة القصف الجوي والمدافع والراجمات في مدن الرمادي والفلوجة وديالى وتكريت وغيرها لقد محيت احياء باكملها ونسفت جسور وصوامع للحبوب ومدارس وجوامع وكنائس ومستشفيات وكل مظاهر الحضارة والبناء .
وتظل الموصل والملايين من سكانها ونازحيها ومشرديها تنتظر برعب مثل هذا المصير , ويعيشون بين نارين , أنتقام مليشيات داعش وهمجيتهم , وبين بطش وحقد قوات الحرس الثوري العراقي “مليشيات الحشد الشيعي” والتي لم يرصد الامريكان ولا السفير الامريكي ببغداد ستيوارت جونز انتهاكات لها ضد حقوق الانسان ؟؟!! وطالبهم يوم الاثنين 17/10 بالعمل تحت إمرة الحكومة والتحالف وأعرب عن مخاوفه من تعرضهم لضربات جوية “من دون قصد”اذا لم تتحرك ضمن هذا التنسيق .. ونامت تلك المخاوف مع الضمير الغائب تجاه سكان الموصل العُزَّلْ من القصف الكثيف والذي ينهال فوق رؤوسهم كما نام هذا الضمير من قبل عن انتهاكاتهم وجرائمهم بمدن أخرى ؟؟!!
هاهو التاريخ يعيد نفسه ومالذي سَيَتَمَخَضُ عنه مؤتمر “مارك سايكس و فرانسوا بيكو” بمكوناته الجديدة والمتنافرة , ينتظرون بعد تحرير الموصل وحين يجلس الفرقاء حول طاولة المفاوضات , وتحت أي ثوب وذريعة هذه المرة , أطماعهم وما يَبْغيانْ , سوف يُخْفيانْ ..؟!
نَيّْنَوى إِبْشِدَّة ياهَلي ..وبْكُلْ صَلاة إدْعُولها ..