حين يصبح الوطن غنيمة: عن اغتصاب الدولة انتخابيًا في العراق

حين يصبح الوطن غنيمة: عن اغتصاب الدولة انتخابيًا في العراق

في ظل التوترات السياسية المزمنة في العراق، تعود إلى الواجهة واحدة من أخطر الظواهر التي تهدد بنية الدولة ومفهومها الحديث الا وهو توظيف موارد الدولة وممتلكاتها لأغراض انتخابية من قبل مرشحين أو قوى سياسية. ففي حين يُسخَّر العدل لأهواء الأقوياء، فلا عجب أن تنقلب الدولة إلى قناع يخفي أنياب الغنيمة. فالدولة التي تُختزل في دعاية مرشح أو مصلحة حزب، تفقد وظيفتها الأخلاقية بوصفها حارسًا للعدل وممثلاً لإرادة الجماعة.

وهذا التوظيف السياسي لمؤسسات الدولة لا يخرق فقط مبدأ حيادية المؤسسات العامة، بل ينتهك جوهر المساواة السياسية، ويُعيد تشكيل العلاقة بين المواطن والسلطة على أساس الولاء لا على أساس الحق، مما ينتهك قوانين حقوق الموطنة بشكل سافر، حيث تقف الدولة عاجزة عن حماية ابناءها. إن القوانين لا تعني شيئًا ما لم توجد مؤسسات تحرسها، وشعوب تحترمها أيضا.

فوفقًا للدستور العراقي، وقانون الأحزاب رقم (36) لسنة 2015، يُمنع استخدام ممتلكات الدولة أو موظفيها أو أي موارد عامة في الحملات الانتخابية، لكن ما نراه على أرض الواقع يفضح هشاشة هذا الإطار القانوني أمام سطوة النفوذ الحزبي. لقد تمّ توثيق حالات نصب مولدات كهربائية متنقلة من قِبل مرشحين بوصفها “مبادرات انتخابية”، فيما صرحت وزارة الكهرباء رسميًا أن هذه المولدات جزء من خطتها الطارئة، منفّذة من قبل ملاكاتها، دون تمويل أو تدخل سياسي. إنها الصورة ذاتها التي تتحدث عن الكم الهائل من انواع الأحتيال السياسي بأسوأ أنواع الكذب، هو الكذب السياسي الذي يختطف جهد الجماعة ويمنحه لاسم فرد.

حين يطلّ مرشح بخدمة حكومية على أنها منجز شخصي، فإننا لا نواجه مجرد دعاية انتخابية بل عملية نهب للرمزية السياسية للدولة، واختطاف معنوي لثقة المواطنين. فما من خطر أكبر على فكرة الدولة من أن يتحوّل الموظف العام إلى وكيل دعاية لحزب، والوزارة إلى بوستر انتخابي. وهنا نستدعي بمرارة كل عبارات الآسى ، إذ تحولت الدولة إلى شركة، والوزارات إلى وكلاء دعاية، فمن الطبيعي جدًا أن نفقد فكرة الوطن.

ما يدعو للقلق أكثر، هو أن تقديم الخدمات العامة – كالكهرباء – بوصفها مكرمات انتخابية، لا استحقاقات مواطنية. وهذه من أخطر آليات الزبائنية، حيث تتحول الحقوق إلى أفضال، والواجبات العامة إلى مَنّ شخصي. كما قال أمبرتو إيكو: ” المنة تقتل الحق. حين يُطلب من المواطن أن يشكر بدل أن يطالب، فإن العدالة تصبح هزلاً.” هذه الحادثة، وإن بدت “عابرة”، فهي تلخص مأساة عراق ما بعد 2003: دولة بمؤسسات تُختزل بمزاج السياسي، وتُستعمل بسلطة الحزب، وتُصادر بيد المرشح، وكأنها غنيمة حرب أو إرث شخصي. لم يعد واضحًا من يحكم، ولا لصالح من تعمل مؤسسات الخدمات، إذ أصبح السؤال الأهم: من الذي يملك مفاتيح الكهرباء، والماء، والدواء، والتعليم؟ ومن الذي يسمح لنفسه بتوزيع ما لا يملك على من لا يعرف؟ أليست هذه جريمة سياسية مكتملة الأركان؟

المشكلة الأعمق ليست في المُرشّح وحده، بل في البيئة الاجتماعية التي لا تزال تقع في فخ “الامتنان” للمسؤول حين يؤدي أبسط واجب عليه، فتستبدل حقوقها بتوسّل خدمات. هنا تتداخل أزمة الثقافة السياسية بأزمة بنية الدولة: مواطن لا يشعر بملكيته الفعلية لمؤسسات الدولة، وسياسيّ يتعامل مع هذه المؤسسات وكأنها ذراع حزبي يخدم بها نفوذه، ويُشيد بها سلطة فوق الدولة نفسها.

لا يعود الأمر مجرد خرق قانوني، بل انهيار في الإدراك الجماعي لوظيفة الدولة. الدولة هنا لا تُرى كضامن محايد، بل كأداة خاضعة. وهي الصورة التي نبه لها ماكس فيبر عندما فرّق بين الدولة كمؤسسة قانونية والدولة كغنيمة بيد القوى النافذة.

وبنظرة تحليلية أبعد، فإننا أمام ما وصفه ميشيل فوكو حين قال : ” الدولة لا تُعرّف فقط بما تفعل، بل أيضًا بما تسمح بحدوثه.” فحين تصمت المؤسسات، وتغضّ السلطات الطرف، فإنها تشارك ضمناً في هذا الانحراف. ويُصبح السكوت شكلاً من أشكال الفساد البنيوي، الذي لا يحتاج رشوة بل يكتفي بالإفلات من المحاسبة.

إن تطبيع هذا النمط من السلوك هو أخطر من الجريمة ذاتها فالفساد الأكبر ليس في الجريمة، بل في تطبيعها. إذ تتحوّل الدولة إلى واجهة مستباحة، وتُفقد قدسيتها بوصفها كيانًا فوق المصالح الفئوية.

وهنا يكمن دور المواطن. فإذا لم يتحرّك الوعي الشعبي لمساءلة هذا التواطؤ، فإن الاستبداد لن يأتي بصفعة، بل بزمن طويل من التراخي. وكما حذّر علي شريعتي: “حين يصبح الصمت موافقة، والموافقة خضوعًا، فلا تلُم الاستبداد.”

كيف يمكن لمرشح أن يُقدّم كهرباء هي من مال الدولة، ويضع اسمه عليها كأنها ملكية خاصة؟ من خوّله؟ من سمح له باختطاف جهد وزارة كاملة؟ إنها، ببساطة، عملية سطو رمزية تُعيد تعريف الدولة كملكية حزبية، لا كجهاز سيادي. وبرتراند راسل لخّص هذا الخطر عندما كتب : “الدولة تبدأ بالانهيار عندما يبدأ المواطن يهاب الحقيقة.” فإذا خاف الناس من قول “هذا غير شرعي”، وانشغلوا بالمنفعة المؤقتة، فإنهم يغذّون دولة الظل، لا الدولة العادلة.

وفي قلب هذه الأزمة، تُهمَّش الكفاءة، وتُكافأ الطاعة لا شيء يدوم تحت نظام يُكافئ الولاء ويُهمّش الكفاءة. وتُستنسَخ طبقات سياسية فاسدة تحت شعار الخدمة، بينما تُدفن الكفاءات تحت أنقاض التهميش. وقد يصل الأمر إلى أن تصبح السرقة مغلّفة بالشرعية، فالدولة التي تسمح بسرقة شرعيتها باسم الانتخابات، ليست دولة، بل وهمٌ خادع. فكل صوت يُمنح لمرشح سرق منجز الدولة، هو مسمار في نعش السيادة.

في الدول الديمقراطية، وفي حالات اقل بكثير عما يحدث في العراق تُسقط الحكومات بشبهة استغلال، في حين الدول الضعيفة والهشة، كالعراق، تُنتخب من جديد بفضل هذا الاستغلال. هذا هو العراق، حين يبتلع المرشحون الدولة ويعيدون بيعها للناخب. لكن الأمل لا يُقتل. ما نحتاجه اليوم، هو ليس فقط إصلاح قانون الأحزاب، بل ترميم الوعي الجمعي بفكرة الدولة. إن تطالب نخب المجتمع رئيس الدولة ــ الحاضر الغائب! بالسهر الحقيقي على الدستور وحمايته مع اطياف المجتمع. فالسيادة لا تُقاس بعدد الكلمات في الدستور، بل بقدرة الشعب على قول: لا!

علينا أن نعيد تعريف الدولة لا كموزع للمكافآت السياسية، بل كعقد شرف بين مواطن ومؤسسة. أن نقول لكل من يعتدي على موارد الدولة: من أين لك هذا؟ أن نعيد لمفهوم الخدمة هيبته، وللوظيفة العامة استقلالها، ولصوت المواطن سلطته. فالدولة ليست جسدًا بلا روح، كما قال أمين معلوف، “الروح هي وعي الناس بحقوقهم.” ووعي الشعب هو آخر ما يمكن أن يُختطف.

إن المقال لا يطرح مجرد وصف لحالة فساد انتخابي، بل يُحمِّل المعنيين مسؤولية مباشرة: على المرشحين الذين اختطفوا منجز الدولة، وعلى الحكومة التي صمتت، وعلى السلطات القضائية التي لم تُحرّك الدعوى، أن يُجيبوا بوضوح:

قانونيًا: من منحكم الحق في استخدام ممتلكات الدولة، أو خدماتها، أو موظفيها لأغراضكم الانتخابية؟ أين النص الذي يشرّع هذه الاستباحة؟ ولماذا لم تتحرك مفوضية الانتخابات والسلطة القضائية للتحقيق والمحاسبة؟ وهل تمّ فتح أي ملف يُعاقب فيه المسؤول عن هذا التعدي الصارخ على المال العام؟

أخلاقيًا: بأي وجه تقفون أمام الناخب وأنتم تسرقون من ماله وتبيعونه عليه مرة أخرى؟ هل تعتقدون أن اختطاف جهد جماعي ونسبه لأنفسكم هو بطولة انتخابية أم خيانة أخلاقية؟ ألم يكن من واجبكم الأخلاقي أن تعيدوا الفضل إلى من أنجز، لا أن تُزوِّروا رمزية الإنجاز؟

اجتماعيًا وسياسيًا: هل تدركون أنكم بذلك تؤسسون لعلاقة مشوّهة بين المواطن والدولة؟ هل تعون أنكم تُسهمون في تدمير ثقة الناس بالمؤسسات، وتحويل الوطن إلى سوق للمِنح المشروطة بولاء سياسي؟ ماذا تقولون لطفل يرى اسم مرشح على باب مولد كهربائي ويظنه “بابا نويل”؟ كيف تُعلِّمون الأجيال احترام الدولة وأنتم تضعون اسمكم على جهدها؟ إن الصمت بعد هذه الأسئلة لم يعد ممكنًا. ففي الدول الحيّة، تُجبَر السلطة على الإجابة، لا يُسمَح لها بالهروب.

أحدث المقالات

أحدث المقالات