بعد الهبات الجزيلة التي طلت علينا بغياب النظام القمعي في نيسان 2003، صار العراقيون يتعاطون مع مفردات حياتهم بأنماط جديدة، لاينكر أن بعضها كان غريبا بغرابة العجائب السبع، من تلك الغرائب التعددية، وأقصد بها تعددية الأحزاب، بعد أن تعود العراقي على حزب تجسد في كل مفاصل حياته، فالبعث أولا والبعث ثانيا والبعث عاشرا ولاشيء غير البعث. ومن الغرائب أيضا التصريحات التي يدلي بها ماسكو المايكروفونات من الساسة والمسؤولين، إذ يطل علينا بين الفينة والأخرى بطل من أبطال مجالسنا الثلاث، او مسؤول من مسؤولينا الذين تسنموا زمام أمور الرعية عن طريق صناديق الاقتراع، من على شاشة إحدى الفضائيات من خلال لقاء او برنامج يهدف الى وضع المواطن في موقع الرقيب، على من خولهم في أمره وأمر بلده بما يحتويه من خيرات. وقطعا تكون الأسئلة المزمع طرحها عليه مهيأة قبل أوانٍ محسوب حسابه، بقدر يكفيه لتحضير الإجابات كما يشتهي ان تكون، ولايفته حتما ان يتأبط مستندات لها من صحة الصدور ثلاث درجات من المصداقية، أولها متدنية والأخرى متدنية جدا والثالثة معدومة تماما!.
لكن الذي يحدث عادة ان يتشعب الحديث ويخرج من مبتغاه وهدفه المرسوم، ليتحول الى تهجمات بحق زملائه في المهنة، ورفاقه في الدرب، إذ يبدأ بكيل الاتهامات عليهم من دون (وجع گلب) ويأتي بالقديم والجديد من ماضي صحبه وحاضرهم، وكأنه موكل بفضحهم ونشر غسيلهم على مرأى السامع والمشاهد والقارئ على حد سواء. وقطعا سيلقي هذا بظلاله على ما يخص المواطن من الحديث او اللقاء، فيُبعد مصلحته عما يدور فيه ويهمشه أيما تهميش، فيصبح هدف اللقاء هو تسليط الضوء على ذاك النائب او المسؤول، ليسلط الضوء بدوره على شخص ثانٍ يعلق عليه سيئاته وإخفاقاته في واجباته.
في بلد الحضارات والنفط، لاينكر ان مفردات الحيادية والإنصاف كانت مغيبة عقودا خلت، في وقت كانت تحل محلها أضدادها، الى ان اشرقت شمس الحرية التي كنا نظن انها غير قابلة للكسوف، وبها انطلقت الحريات بأشكالها، أولها التعبير عن الراي، وحرية النقد وغيرهما من نعم الديمقراطية، الأمر الذي أطلق العنان للسان الشعراء والكتاب والنقاد في البوح بما يختلج بخواطرهم من آمال وما يعتمل في نفوسهم من آلام، وكان بذلك متنفسا لهم. فمنهم من أعاد توثيق احداث كان فوه مكمما عن البوح بها، فأطلقت الحرية فاه فاستذكرها بتفاصيلها وحيثياتها، وأرخها كشاهد للتاريخ، ومنهم من وجد في الحرية ضالته بعد كبت خانق، وإحساس حانق، ففتحت قريحته في البوح بمسميات جماليات الحياة، ومايهوى وما يعشق. ومنهم من اتخذ لنفسه موضع الرقيب وموقع الناقد، فأصبح رقيبا على أفعال معيته. لكن الأمر المنكر أن تتخذ الحرية اتجاها تتبلور فيه الأحقاد الشخصية والغايات النفعية الخاصة او الفئوية، وتحتل الدور الاول في اهتمامات هذا المسؤول او ذاك، وبذا تبعد الهوة والفجوة بينه وبين أداء واجبه المكلف به إزاء المواطن. كما تفقد اللقاءات والاستجوابات والمساءلات فحواها، فتتشظى الغاية المرجوة منها والتي قد تكون تصويب خطأ، او تقويم خطل، او تعديل نهج كان قد انحرف عن جادته بتأثيرات عديدة، وإعادته الى الاتجاه الصحيح بما يصب في مصلحة المواطن.
هو اقتراح يشاركني فيه العراقيون نطرحه أمام المسؤولين عنا في مفاصل البلد، مفاده وفائدته تصب في مصلحة الجميع، خلاصته: لاتربطوا حبل غسيلكم بمايكروفونات الفضائيات، ولاتجعلوا اللقاءات المتلفزة معكم منصة لإطلاق صواريخكم الهجومية ضد بعضكم، ولاتطلقوا تقيحاتكم وسهامكم من المحطات الاذاعية، لتصيبوا بها زملاءكم في المهنة، فهي اولا وآخرا لاتقع إلا على رأس المواطن، أما أنتم فكما قال المثل؛ (البربوكـ مايغركـ)..! و (البربوكـ) لمن لايعرفه، هو القنينة الزجاجية التي تسد فوهتها بإحكام ثم ترمى في الماء، إذ يلاحظ أنها تبقى على سطح الماء، متخذة وضعا شاقوليا دون أن تغوص او تغرق في الماء.