منذ سقوط نظام صدام عام 2003 حتى ساعة كتابة هذا المقال، لم تغب عن مخيلة العراقيين مأساة حكمه لحظة واحدة، إلا أن الذي غاب هو الفرحة والسرور والاستقرار والطمأنينة، وحل محلها الحزن والألم والقلق أضعافا مضاعفة، وهي تزداد مطّردة مع ما يفعله ساستنا المتربعون على كراسيهم العاجية، وما تنتجه بنات أفكارهم من مشاكل وقلاقل وتداعيات، أودت بنا وبالبلاد إلى حيث لا يحسد عليه مخلوق على وجه المعمورة.
لقد حازت البلاد من جرّاء سياساتهم على الدرجات الأولى في الفساد، ونالت الدرجات الدنيا في توفير أبسط حقوق المواطن، وتجمهرت الأكف والأيادي العاملة باحثة عن لقمة تسد رمقها في “مسطر” أو على أبواب معمل أو شركة، تشكو بدورها فقدان السيولة النقدية وجمود حركة العمل في البلاد، ونتج عن هذا كله كساد وفقر ونكوص حاد في مستوى البلد الاجتماعي والاقتصادي، فضلا عن الأمني، وصارت لكل عراقي قصة مأساوية سوداوية في ظل هذي التداعيات، والأمثلة بهذا الخصوص لاتقف عند رقم أقل من ثلاثين مليون قصة.
وقطعا لم تأت هذه المأساوية، إلا من واقع الحال المعاش الذي أطبقت فيه أسباب الحزن والأسى كلها على العراقيين إطباقا شديدا، حتى لجأوا -من حلاة روحهم- الى دول المشرق والمغرب بهجرات عشوائية، غير مضمونة النتائج، بل أنها محفوفة بالمخاطر وأدنى خطر فيها هو الموت. وما الهجرات الانتحارية التي قامر بنتائجها الشبان العراقيون قبيل سنوات عبر بحار الموت، أو غابات الهلاك، أو صحارى الضياع، إلا شاهد حي على عظم معاناتهم في بلدهم الغني بالثروات، ولكن لسوء حظهم أن حكامه على تعاقبهم واختلافهم خلال العقود الخمسة الأخيرة، شطوا عن الحكمة في القيادة أيما شطط، ونأوا عن النزاهة والأمانة أيما نأي، وتمادوا في الإساءة الى تأريخ البلد ماضيه وحاضره أيما إساءة، الأمر الذي أضاع الأمل بالمستقبل لدى هؤلاء الشباب، فارتأوا الانتحار سفرا، بعد أن انحسرت خياراتهم في ثلاث مهلكات لارابع لها، فإما الموت غرقا، أو الموت لظروف مناخية، أو الموت على أيدي مافيات المتاجرة بالأعضاء البشرية. هذا كان واقع الحال في العراق الجديد قبل عامين أو ثلاثة، واليوم، هو ليس بأحسن مما كان عليه، بل هو يسجل درجات دنيا بالأمل، وأخريات عليا بالألم.
ولو عدنا بالزمن الى العراق (العتيگ) واستذكرنا البطش والقمع الذي يتعرض اليه العراقيون يوميا على أيدي النظام الحاكم آنذاك، لوجدنا أن الثلاث المهلكات كانت تحاصر العراقيين أيضا، ولكن بثوب مختلف وأسلوب مغاير، فكان الخيار الأول هو الموت على أعواد المشانق، أو في أحواض الأسيد، أو ضمن مقابر جماعية، أما الخيار الثاني فالموت مرضا وفقرا وفاقة، ولم يبق إلا الخيار الثالث، وهو الموت غربة وغصة وحسرة على بلد أضاعه حاكمه، وبدد ماتحت أرضه من ثروات، وفرق مَن فوقه مِن سكان.
اليوم -كما هو بالأمس- وقد سُدت أبواب الخلاص من السياسات المتبعة بوجه العراقيين، إراهم ينادون بما نادى به البحتري قبل 1150 عاما حين قال:
يا من يماطلني وصلي بإنكار
ماذا الجفاء وما بالوصل من عار
إني أعيذك أن تزهو على دنف
حيران قد صار بين الباب والدار
أو مستجيرا بوصل منك ترحمه
مثل الذي قال في سر وإجهار:
“المستجير بعمرو عند كربته
كالمستجير من الرمضاء بالنار”