مقدمة
يُعد الفساد في العراق أحد أبرز العوامل التي شكّلت تاريخ الدولة الحديثة،حيث لعب أدواراً مختلفة تبعاً لطبيعة النظام السياسي. ففي الحقبة البعثيةالسلطوية كان الفساد أداة مركزية لتعزيز استقرار النظام وضمان الولاءالسياسي للنظام القمعي، بينما بعد عام 2003 أصبح الفساد مجزأً وطائفياًوحزبياً، مهدداً لبنية الدولة نفسها. ويظهر تحليل هذا الانتقال أهمية فهم الفسادليس كظاهرة اقتصادية أو إدارية فقط، بل كأداة سياسية مرتبطة مباشرةبالسلطة الحاكمة واستقرار الدوولة، وهو ما تؤكده الدراسات كما في بحثسارة شيس (Chayes, 2015) التي حللت انتشار الفساد في افغانستان بعدالاحتلال الأمريكي. وهي حالة مشابهة لما هو حاصل في حالة الفساد المتفشيفي الدولة العراقية ما بعد 2003.
الفساد في العراق ليس ظاهرة عابرة، بل هو بنية سياسية متجذرة. في عهدالبعث، كان الفساد أداة لضبط النظام، بينما بعد الاحتلال الأمريكي، تحولإلى شبكة طائفية–حزبية مهددة لبنية الدولة. هذا التحول يعكس تغيرًا فيوظيفة الفساد من تعزيز الاستقرار إلى إنتاج الفوضى. وهنا نلقي الضوء على مقارنة بين النموذجين في ماهية الفساد في الأنظمة القمعية وما يقابلها في الأنظمة “شبه الديمقراطية”.
أولاً: منظور سارة شيس في كتابها (لصوص الدولة) من التجربة الإفغانية.
تركز شيس في تحليلها عن الفساد الذي تفشى في افغانستان بعد الاحتلالالأمريكي عام 2001 على أنه “فساد منهجي” يقوض العقد الاجتماعي ويولّدعدم استقرار سياسي وأمني. في العراق، الفساد بعد 2003 أدى إلى فقدانالشرعية للطبقة الحاكمة، وانتشار العنف الطائفي، وهو ما يفسر سقوط أربعةمحافظات عن سلطة الدولة والتي تشكل نصف مساحة العراق تحت سيطرةالتنظيمات الإرهابية في الفترة 2014 – 2017. استمرت الحرب نحو 43 شهرًا، خلفت أكثر من 60 ألف قتيل، وفقاً لتقديرات البنك الدولي، كلفت أضراراًتجاوزت 100 مليار دولار،وأدت إلى نزوح بمئات الآلاف من المواطنين عن مناطقهم، وإبادة جماعية للأقليات، وانهيار مؤسسات الدولة في المناطق السنية.
ثانياً: الفساد في النظام السلطوي البعثي (1968-2003)
في كتابنا (العراق إلى أين؟) أشرنا فيه إلى أن النظام البعثي كان يعتمد علىشبكة ريع نفطي مركزية، لشراءء الولاءات السياسية والعشائرية، فيما كانت أيمحاولة للثراء المستقل تحت الرقابة أو القمع الصارم. فقد وضح عصامالخفاجي إلى أن الدولة في عصر صدام احتكرت الفساد، ولم تسمح بأي إثراءذاتي مستقل لا يمر عبر قنوات حزب البعث – وبالخصوص عائلة صدام حسين. فقد وضح الخفاجي أن الدولة العراقية في عهد صدام احتكرت الفساد. وهذا ديدن الأنظمة الديكتاتورية، إذ تتركز السلطة والثروة في القمة ضمن الدائرةالضيقة لرأس النظام، (وفي العراق، عائلة صدام، وعشيرته، والحلفاء المقربينمنه). كان النظام نفسه هو الراعي الأعلى لهذا الفساد. وباختصار: كانالفساد سمة لنظام تحَكّم وحشي لكنه متماسك، يتدفق من أعلى إلى أسفللشراء الولاء وسحق المعارضة.
فالفساد كان تحت إشراف الدولة وعائلة صدام مباشرةً. وحجم هذا الفساد كان مهولاً نسبة لموارد العراق آنذاك. فقد ذكر هيثم رشيد وهاب، رئيس البروتكول فيمكتب صدام في القصر الجمهوري، في كتابه “في ظل صدام” أن السيد(حسام ب) الذي كان يدير محفظة مضاربات البورصة لعائلة صدام والتيبلغت قيمتها 41 مليار دولار في عام 1990″، (أي ما يعادل قيمتها اليوم حوالي105 مليار دولار) وهذا غيض من فيض فهي واحدة من سرقات عائلة صداموحدها.
في هذا السياق، كان الفساد “أداة لضبط الولاء السياسي” وضمان استمرارالنظام، وليس تهديداً له. وكما لاحظت سارة شيس أن الفساد في الأنظمةالسلطوية غالباً ما يُدار من قبل السلطة المركزية للحفاظ على استقرار النظام،ولو على حساب العدالة أو التنمية الاقتصادية والاجتماعية
ثالثاً: الفساد بعد 2003 – عصر المماليك الثاني
ولكن بعد سقوط النظام الديكتاتوري، شهد العراق تفكك مؤسسات الدولةوانتقال الوزارات إلى ما وصفته في كتابي {عصر المماليك الثاني} إلى“إقطاعيات فساد” لكل حزب طائفي وزارته أو مؤسسته الحكومية التابعة لهومنها يستطيع جني أموال الفساد عبر العقود والمقاولات فيختلس منهاحصصته من أموال الدولة بدون رقابة ولا متابعة من قبل هيئات النزاهة والرقابةالمالية. ووفقاً لـ “فنار حداد” فإن المحاصصة الطائفية أسست لتقسيم الدولةإلى اقطاعيات للثراء والسيطرة السياسية.
هذه المرحلة (ما بعد الإحتلال) شهدت “إنهيار المركزية” وأصبح الفساد أفقياًوموزعاً بين الأحزاب الطائفية والمليشيات، حيث كان لكل طرف حصته منالموارد الحكومية. ويشير “يوسف باقر” إلى أن السياسيات الاقتصاديةالنيوليبرالية (الرأسمالية العالمية العابرة للحدود). فالفساد في مثل هذه الأنظمة التي يطلق عليها “شبه الديمقراطية” غير المستقرة ما بعد الاحتلال،يتفشى في كل مؤسسات الدولة وبين أغلب الموظفين فيها، وهذا ما يتسبب في نزع الشرعية عنها ويؤدي لا إلى ضعف مؤسسات الدولة فحسب، بل إلى أنهيارها عاجلاً أو آجلاً.
فبعد سقوط النظام، تغيّرت بنية الفساد بالكامل. فبدلاً من الفساد المركزي،ظهر ما سمبته أنا في كتابي {عصر المماليك الثاني} بـ “إمارات الفساد“، إذتحولت الوزارات إلى ممالك صغيرة توزعها المحاصصة الطائفية – الحزبية. ففي مثل هذا النظام (اللصوصي) تتناثر السلطة بين أحزاب متعددة، يمثل كلمنها مجموعة طائفية أو إثنية (شيعية، سنية، كردية). لا يوجد راعي واحد؛ بلهناك العديد من الشركاء المتنافسين. فقد جرى اختطاف جهاز الدولة بالكامل، وفي هذا النظام يتم التعامل مع الوزارات على أنها إقطاعيات طائفية (مثل: وزارة النفط لمجموعة، وزارة المالية لأخرى). يتم نهب ميزانياتها من خلال عقودمُبالغ فيها وموظفين وهميين وسرقة صريحة لتمويل الأحزاب وقادتهاوميليشياتها. وبذلك، لم يعد الفساد في عهد ما بعد الإحتلال أداة لحفظالاستقرار، بل تحول إلى معول هدم يقوّض شرعية النظام الجديد.
وباختصار، فإن “الفساد هو النظام“، والعملية السياسية هي صراع لا مركزيوتنافسي على الموارد بين النخب الطائفية، حلت فعليًا محل الدولة الرسمية. فالسلطة المؤقتة القائمة على المحاصصة الطائفية والتي كونها بريمر ما بعدالإحتلال ساهمت في ترسيخ هذا الفساد، إذ أصبح جزءاً من البنية الاقتصاديةبعد تفكيك مؤسسات الدولة، واستمر الفساد على هذه الطبيعة ليومنا هذا. وهنايحاجج “دودج“ بأن النظام ما بعد 2003 فشل في ترسيخ أسس الدولة، وتطوربصورة تدريجية إلى شكل جديد من الاستبداد قائم على الطائفية والفساد. فإن «انهيار السلطة المركزية بعد 2003 أدى إلى تفكك مؤسسات الحكم وخلقتنافس بين الأحزاب والمليشيات على موارد الدولة» . وقد كرّس نظام المحاصصةالطائفية هذه البنية، إذ حوّل الوزارات إلى إقطاعيات خاصة.
وبما أن ثروة العراق هي من عوائد تسويق النفط بصورة رئيسية، فثروة النفط الهائلة أصبحت المورد الأساسي لمنابع الفساد، إذ أن الإتفاقات السياسية بينرجال الأحزاب والصراع بيهم هو حول توزيع تلك الثروة. وعملية الفساد فيمثل هذا النظام الريعي تسير بهذه الطريقة:
ونتيجة هذه العملية يجري خصخصة الثروة الوطنية لصالح فئة قليلة، وحينهاتفشل الدولة في تقديم الخدمات، وبذلك تفقد الدولة كل عقد اجتماعي معمواطنيها، ويُنظر إليها ويكأنها قوة معادية تحتلهم، عدو يجب النجاة منه، وليسحكومة يحترمها.
فالفساد في مثل هذا النظام تفقد السلطة الحاكمة شرعيتها – حسب أطروحةشيس – لأنه هو الدافع رقم واحد لعدم الاستقرار، وما التطرف الطائفي إلا من العوارض الجانبية لظاهرة الفساد. ولكن زعماء الأحزاب الطائفية يتعاملون مع هذا الفساد وعوارضه على قضية منفصلة عن الأمن والاستقرار. ولكنه في الواقع نابع من بنية الدولة، فلا يمكن هزيمة التطرف المجتمعي دون تفكيكالأنظمة الكليبتوقراطية [نظام اللصوص] التي تنتجه.
رابعاً:المقارنة التركيبية
|
في النظام السلطوي |
في النظام شبه الديقراطي (ما بعد الاحتلال) |
|
|
العراق في عهد حزب البعث |
العراق ما بعد 2003 |
افغانستان (سارة شيس) |
بنية الفساد |
مركزي، هرمي، مُحتَكر |
مجزأ ، موزع بين الطوائف والأحزاب |
انهيار العقد الاجتماعي، فبقيت طالبان تنعم بشرعيتها الشعبية |
من يتحكم بالفساد |
بيد العائلة الحاكمة وحزب البعث |
بأيدي أحزاب طائفية ضمن نظام المحاصصة |
بأيدي السلطة التي عينتها قوات الاحتلال الأمريكية |
الدور الوظيفي للفساد |
أداة لضبط الولاء والاستقرار |
أداة للثراء الشخصيوتمويل الأحزاب |
عامل مولّد للعنف والتطرف، فتح الباب أمام الفوضى والتمرد |
آثار الفساد |
استقرار استبدادي نسبي |
تفكك الدولة وفقدان الشرعية |
انتاج أزمات أمنية مستدامة |
خاتمة:
يظهر من التحليل أن الفساد في العراق تغيّر من كونه “أداة بقاء سلطوي” إلىكونه “سبباً لإنهيار الدولة“. ففي عهد صدام حسين، عزّز الفساد السلطةواستقر النظام على حساب قمع الحريات وإنعدام حقوق الإنسان، بينما بعد2003، ومع تفكك الدولة وانتشار المحاصصة الطائفية، أصبح الفساد وسيلةللإثراء والتمويل السياسي، مدمراً لبنية الدولة وشرعيتها. وكما تشير له سارةشيس، فإن هذا النوع من الفساد لا يهدد الاقتصاد فحسب، بل يهدد الأمنوالاستقرار السياسي، ويولّد فجوة واسعة بين المواطنين والدولة، وهذا ما يفسرموجات الاحتجاج الشعبي العارمة ضد الطبقة السياسية بين 2015 و 2019،ومنها انتفاضة تشرين.
فالفرق الجوهري بين طبيعة الفساد في النظامين “السلطوي/الديكتاتوري” و“شبه الديمقراطي” هو أن فساد نظام صدام نابع من سيطرة مُحكمة، فهومنظماً بصورة وحشية ويخدم هيكل السلطة مركزي. فماهية الدولة افتراسية،ولكنها متماسكة. أما فساد ما بعد 2003 فهو نظام نهب غير منظم يمنع قيامدولة متماسكة. فالفساد في النظام القائم الآن هو تدافع حر تنافسي يزدهرعلى الانقسامات الطائفية ويعمقها، مما يجعله أكثر تدميراً لمفهوم الدولة الوطنيةالعراقية الموحدة على المدى الطويل.
ونتيجة هذا الفساد هي تراكمية ومدمرة؛ إذ لا ينتج عنه استقرار سياسيواجتماعي، بل يسبب خللاً بنيوياً دائماً في الدولة. وقد خلصت منظمة الشفافيةالدولية إلى أن «العراق ما زال من أكثر الدول فساداً في العالم، حيث لا يقتصرالفساد المنهجي على نهب مليارات الدولارات من عائدات النفط، بل يقوضأيضاً ثقة المواطنين بالديمقراطية». وكما بيّنت سارة شيس، فإن هذا النوع منالفساد هو الشرط الموضوعي لاندلاع الفوضى والتمرد.
الفساد في العراق اليوم ليس خللاً في النظام… بل هو النظام ذاته. وعليه، فإنمستقبل العراق السياسي لا يمكن أن يتحقق من دون تفكيك هذه البنيةالفاسدة، واستبدالها بعقد اجتماعي جديد يعيد الثقة بين المواطنين والدولة.
المراجع