في زاويةٍ مظلمة من المشهد العراقي، تشتعل منصة “تيك توك” بمحتوى لا يمتّ للثقافة أو الإبداع بصلة.
فتيات يافعات، نساء في مختلف الأعمار، وقاصرون، بل وحتى من يظهرون سلوكيات منحرفة، يُعرضون في مقاطع لا تخلو من الإيحاءات أو الإشارات المباشرة، ما يُحوّل حياة العائلة العراقية إلى مشهد استعراضي مبتذل، لا يعرف للخصوصية ولا للحياء طريقًا.
في بلد أنهكته الحروب، والدمار، والفساد، تحوّلت المنصات الرقمية إلى وسيلة تنفيس، لكنها اتجهت نحو منحى خطير، إذ أصبح الجسد “رأس مال”، ووسيلة جذب، وبابًا مفتوحًا للتواصل مع أثرياء الصدفة، من المنتفعين بعوالم الفساد وصفقات الكانتونات.
اللافت في هذه الظاهرة أنها لم تعد سلوكًا فرديًا، بل اتخذت طابعًا اجتماعيًا مقلقًا. بعض الأمهات – في مشهد صادم وغير مسبوق – يروّجن لبناتهن القاصرات عبر مقاطع تتناول تفاصيل حياتهن اليومية، وتمزج بين مظاهر الإثارة النهارية، والمشاركة في الشعائر الحسينية ليلًا.
ومع اقتراب شهر محرّم، سنشهد مزيدًا من هذه التناقضات، في مشاهد تعكس انفصامًا قيميًا حادًا، يكشف خللًا أعمق في منظومة الوعي، والقدوة، والرقابة.
•أين الدولة من كل هذا؟
رغم أن عدد مستخدمي تيك توك في العراق يتجاوز سبعة ملايين مستخدم، معظمهم من الفئة العمرية بين 13 و30 عامًا، لا توجد حتى الآن أي استراتيجية واضحة من الجهات الرسمية لاحتواء هذه الظاهرة المتفاقمة.
-وزارة الاتصالات، رغم امتلاكها القدرة الفنية على الحجب أو التقييد، لابد لها من الإفادة من تجارب دول اخرى بفرض معايير وضوابط على هذا التطبيق.
-وزارة الثقافة غائبة تمامًا. لا برامج توعوية، ولا محتوى بديل، ولا مواجهة جادة لغزو ثقافي يُفرغ المجتمع من روحه، ويهدد هويته وقيمه.
-وسائل الإعلام الرسمية تعاني من الجمود والتقليدية، ولا تواكب التحولات الرقمية، تاركةً الساحة فارغة لصُنّاع محتوى يروّجون للتفاهة، ويستثمرون في الانحلال.
– رجال الدين، وبوجود رمزية عاشوراء والشعائر الحسينية، يُنتظر منهم موقفٌ واضح وصريح من هذا الانفلات الأخلاقي، عبر منابرهم، بخطاب مسؤول يحرّم الاستعراض الجسدي، ويواجه الترويج العلني للانحطاط باسم الحرية.
-القانون العراقي، رغم تفعيله المحدود لمحاسبة بعض صناع المحتوى الهابط، لابد من قرارات اخرى اكثر صرامة تشمل كل من يروّج للتحرش، أو يستدرج القاصرين، أو يتربّح من التسويق الإيحائي.
– تشير تقديرات غير رسمية إلى أن بعض المؤثرين العراقيين على تيك توك يحققون أرباحًا تتراوح بين 200 و2000 دولار شهريًا، دون محاسبة، ودون رقابة على نوعية المحتوى أو مدى تأثيره السلبي على الأطفال والمراهقين والأسر.
•ما يحدث لا يُبرَّر بـ”حرية التعبير”
الإسفاف الذي نشهده لا يمكن اختزاله في “فضاء مفتوح” أو حرية شخصية. نحن أمام انهيار تدريجي لمنظومة القيم المجتمعية، تغذّيه منصة عالمية، وتغضّ الدولة الطرف عنه، بينما تتآكل الهوية، ويتراجع الحياء، ويُختزل الإنسان إلى جسد معروض مقابل تفاعل رقمي أو “هدايا إلكترونية”.
• المسؤوليات الغائبة… والدولة الصامتة
ما نشهده على “تيك توك” ليس مجرد تصرفات فردية منحرفة، بل انعكاس لفشل مؤسسات كاملة في أداء دورها الرقابي والثقافي والقيمي. وقد وقفت عاجزة، أو مغيّبة، عن التصدي لهذه الكارثة الأخلاقية… (إلا إن تعلق الأمر بمنتقد للسلطة).
إن استمرار هذا الوضع دون تدخل عاجل ينذر بكارثة تربوية واجتماعية، تهدد جيلًا كاملًا.
وعليه، فإننا ندعو الحكومة العراقية إلى:
-فرض ضوابط قانونية واضحة على المحتوى الإلكتروني.
-تقييد أو حجب منصة “تيك توك” إلى حين تنظيم المحتوى المحلي، وفق معايير تحترم خصوصية المجتمع العراقي.
-دعم منصات وطنية بديلة، ذات طابع تربوي وثقافي.
-سنّ قوانين صارمة تحاسب من يتربّح من الانحلال العلني، أو يروّج للتحرش، أو يستغل القُصَّر مقابل المال أو الشهرة.
“تيك توك” لم يعد تطبيقًا ترفيهيًا. لقد تحوّل إلى مرآة تعكس واقعًا مأزومًا في الأخلاق والهوية والرقابة. وإن لم نتحرّك اليوم، فلن نملك غدًا إلا التفرّج على أطلال مجتمع كان يومًا يحترم نفسه.