20 يوليو، 2025 10:09 ص

حين كانت النار أرحم من الدولة

حين كانت النار أرحم من الدولة

تصوّر أماً تحتضن طفلها في لحظة الرماد، وقد أحاطت بها ألسنة اللهب، فكانت آخر ما فعلته في الدنيا أن جعلت جسدها درعاً له… تفحّمت هي وبقي هو شاهداً على خذلان دولة، وعلى طهر أمومةٍ لا تحترق.

يا لهذا البلد الذي تُبنى فيه العمارات كما تُبنى الأكاذيب، ستة طوابق نبتت كالفطر السام في غفلةٍ من بلدية، من محافظة، من دولة لا ترى إلا ما يُدرّ عليها مالاً، ولا تسمع إلا نداءات الفاسدين.

ثم يخرج علينا المسؤولون بوجوه من رماد، يذرّون على أعيننا كلمات لا تطفئ ناراً ولا تعيد حياة. وكل بيان رسمي بعد كل فاجعة لا يزيد عن كونه طعنة ثانية في قلب الضحية… فالعذر، كما يقول الموجوعون، أقبح من الجريمة.

يا سيادة رئيس الوزراء، قبل عامين قلتها بصراحتك: “المواطن لا يثق بأي حديث عن محاربة الفساد”… فلماذا تُرهق الحكومة ببيانات المحاسبة، وتُتعب الورق بقرارات بلا روح، تُقرأ ولا تُنفذ، وتُعلن ولا تُصدّق؟

ما حدث لم يكن حريقاً… كان مشهداً من مسرحية سوداء عنوانها “الدولة الغائبة”، وأبطالها جثث محترقة، وضحايا تُكتب أسماؤهم في قوائم الموت الجماعي، لا لأنهم خالفوا قانوناً، بل لأن القانون غاب عن أماكن البناء، وتغاضى عن الفساد، وتواطأ بالصمت.

ما حدث فضيحةٌ لا تُطفئها المياه، ولا تُرمّمها التعازي الرسمية.

ما حدث لم يكن حريقاً… بل لحظة انكشفت فيها كل الأقنعة، واحترقت فيها البلاد مجازاً وحقيقة.
في ستة طوابق، كان الموت يصعد بهدوء، يتنقّل من غرفةٍ إلى أخرى، يقرع الأبواب بلا استئذان، لا ليأخذ الأرواح فقط، بل ليأخذ معها ما تبقّى من ثقة بهذا الوطن، بهذا النظام، بهذا الخراب المتماسك على هيئة دولة.

الطفلة التي اختبأت خلف أمّها لم تكن تحتمي من النار، بل من خذلان العالم، من جدرانٍ شُيّدت بالغش، من شبابيك لا تفتح للنجاة، ومن أبواب وُضعت لتُغلق لا لتُفتح في الكوارث.
الأم التي ارتمت فوق رضيعها لم تكن تقاوم الاحتراق، بل كانت تضعه في تابوتٍ آمن من جمر هذه البلاد، تهبه موتًا أخفّ من حياةٍ تشبه الجحيم.

كان الناس يهرولون في الدرج وكأنهم يصعدون نحو الله، أو يهربون من وطنهم في لحظاته الأخيرة.
لم يجدوا طفاية حريق، لم يسمعوا إنذارًا، لم تفتح نافذة، لم يُسعفهم أحد.
النار كانت أسرع من الدولة، وأصدق من التصريحات، وأكثر رحمة من بيانات العزاء.

كأن كل شيء تواطأ على قتلهم: العمارات التي نبتت بالرشوة، المسؤول الذي لم يقرأ تقرير السلامة، المفتش الذي غضّ البصر، الموظف الذي وقّع دون تدقيق، والإعلام الذي سيكتفي غدًا بعنوان باهت: “الحكومة توجّه بفتح تحقيق”.

أي تحقيق هذا الذي سيعيد للأم جلدها المحترق؟ أي لجنة ستنتشل صرخة طفل احترق في حنجرة أبيه قبل أن تبلغه النار؟
أي مسؤول سيجرؤ على النظر في عيون الناجين وهم يجرّون ظلّ أرواح لم تخرج من النار، بل تذوّبت فيها؟

ما حدث لم يكن حريقاً…
بل مشهداً يُعرض في مسرحٍ بلا جمهور، لأن الجمهور احترق، والممثلون لا يزالون على كراسيهم، يصفّقون لبعضهم البعض، ويدخنون فوق رماد الضحايا.
ما حدث لعنة لن تطفئها حتى الأمطار، لن تغسلها دموع النادمين، ولن تبرّرها بيانات رسمية مكتوبة بنفس الحبر الذي وُقّعت به تراخيص القتل.

لقد ماتوا مختنقين، محترقين، مطمورين بالنار… لكن الحقيقة أن ما قتلهم هو الغياب.
غياب القانون، وغياب الضمير، وغياب الدولة.
وكل ذلك، كان أبرد من النار.

أحدث المقالات

أحدث المقالات