كان أمجد ينظر إلى الفتيات الثلاثة وهن يهرولن صوب سيارة نقل الركاب المتوسطة الحجم عند تقاطع معسكر الرشيد في بداية الطريق السريع المتجه نحو جنوب العاصمة بغداد وبالتحديد إلى مدينة البياع.لم يحث الخطى على شاكلة الفتيات اليافعات بل ظل يتقدم بهدوء وكأنه صار يتجاهل كل العالم المحيط به بكل ماتعنيه هذه العبارة من معنى.ولسوء حظ الفتيات-الجامعيات- فقد انطلقت السيارة في نفس اللحظة التي وصلن فيها إلى مكان توقف السيارة. شاهد أمجد علامات التذمر على وجوههن وكأنهن يلعنّ القدر الذي وقف كحجر عثرة في طريقهن لحظة وصولهن إلى موقع توقف تلك السيارة. بهدوءٍ تام , وقف أمجد في نفس المكان التي كانت السيارة قد حطت عصا ترحالها فيه قبل زمنٍ قليل.وقفت الطالبات الجامعيات قريبات من بعضهن البعض ورحن يتهامسن بصوتٍ خافت كما لو كًنّ يحاولن التغلب على ضجرهن بعد مغادرة السيارة الوحيدة في ذلك الزمان والمكان.من بعيد تقدمت سيارة أخرى عرف أمجد أنها ستقف في نفس المكان التي كانت السيارة الأولى قد وقفت فيه. ِ
بسرعة البرق قفز أمجد إلى داخلها واستقر في المقعد الذي يتوسطها.كان سريعا جدا في حركتهِ على الرغم من أنه – من الناحية العمرية –يصلح أن يكون أباً لكل واحدة منهن.ظلت السيارة جاثمة في مكانها تنتظر قدوم زبائن آخرون كي تنطلق نحو هدفها المرسوم لها من قبل سائقها.كانت الطالبات الجامعيات يتحدثن مع بعضهن البعض بلا توقف في حين أرسل أمجد نظراتهِ نحو المسافات البعيدة محاولاً الهروب من واقع الحياة الذي كان يعيش فيه في تلك اللحظات .كان أمجد يخفي عينيهِ خلف نظاراتٍ رمادية ويضع كمامة على فمه على الرغم من اختفاء حالة وضع الكمامات على الأفواه منذ زمن بعيد.توقفت جميع الفتيات عن الكلام حينما رن هاتف الرجل الحزين.راح يتكلم بطريقةٍ هادئة في محاولة لتهدئة المتحدث على الطرف الآخر.الغريب أن الرجل جعل سماعة الهاتف مفتوحة يسمعها الجميع كما لو أنه كان يريد جميع من يسكن على هذه الأرض مشاركة معاناته وحزنه في ذلك الزمن العصيب.سرق نظرات خاطفة نحو الفتيات وهو يستمع بأنتباهِ شديد إلى صوت زوجته المتقطع في الطرف الآخرمن المدينة.كانت كل واحدة منهن تنظر نحوه بطريقة غريبة وكأن كل واحدة تريد أن تلتهم كل حرف وكلمة تصل اليه من ذلك الصوت القادم من أقسى مساحات الألم والحزن الكبير.كان الحوار على الشكل التالي:
—“أمجد حاول أن تهتم بنفسك هذه الليلة , كل شيء موجود في الثلاجة, إن شاء الله ستتحسن حالتي قريباَ. ليلة واحدة وسأعود إلى البيت بأذن الله.أعرف أن الزمن سيكون عصيباً وستشعر بالغربة هذه الليلة ولكن أرجو أن تتحمل وتتصرف كأنني موجودة معك.حاول أن تكون هنا –أقصد المستشفى- مبكراً لأنني أخاف أن أكون وحيدة قبل الفحص الشامل.مع السلامة”.كان الرجل لايتفوه إلا بكلماتٍ مقتضبة وكأنه يخشى أن يجهش في البكاء من شدة الشوق والحزن على شريكة حياته التي كانت كل شيء بالنسبة له في هذا العالم.ساد صمتُ طويل حزين على وجوه الفتيات حينما انتهت تلك المكالمة.مسح أمجد عينيهِ بمنديل ورقي ناعم وأعاد وضع نظارته الرمادية واستداربوجهه إلى الجهة الأخرى كما لو أنه كان يريد أن ينسى كل شيء حوله.تحركت –الميني باص- وراح صوتها يهدر في الفضاء المشبع باصوات السيارات المزدحمة من كافة الأحجام والأشكال.أخرج “أمجد” سماعة صغيرة ربطها بهاتفه وراح يستمع إلى إحدى الروايات المسموعة في محاولة للهروب من الواقع المرير الذي كان يتخبط فيه منذ الصباح حتى تلك اللحظة التي جلس فيها صامتاً متجهاً نحو بيتهِ في شارع (60) في الدوره.بين فترة وأخرى يسترق النظر نحو الفتيات فيجدهن يتهامسن بكلمات لاتصل إلى مسمعيه فقد كان الصوت المنطلق من هاتفه قوياً يمنعه من سماع أي شيء.بين حينٍ وآخر يغمض عينيهِ لكي يزداد تركيزه على سماع تلك الرواية المسموعة.أحياناً كان الصوت المنطلق من هاتفه يختفي رويداً رويداً ولم يعد يستمع إلى أية كلمة من تلك الكلمات التي يقرأها راوي تلك الرواية المسموعة.كان ذهنه يبتعد عن التركيزويظل يسبح في خيالٍ بعيد جداً.شرعت بعض الذكريات تخرج من زوايا عقلهِ…..ذكريات لم يكن يعرف أنها موجودة متراكمة في رأسهِ على مدار الزمن المنصرم البعيد.كانت تتقافز أو تنبثق على صورٍ متقطعة أو ومضات متعاقبة وكأنه كان يتوق إلى إخراجها على هيئة حكايات وقصص متباينة يهرب عن طريقها إلى عالمٍ وردي من خيالاتٍ لاتنتهي.طفقت الغيوم تتجمع شيئاً فشيئاً في مساحات السماء اللامتناهية وصار النهار مظلماً. على حين غرّه, تنهدت الأشجار على جانبي الطريق مثل طفلٍ مذهول , وشرعت الغيوم الحبلى بالمطر تتصاعد وتنذر بهطول أمطار غزيرة.صار الفضاء داخل السيارة مظلماً خاوٍ تمتد إليه أذرع الوحدة والعزلة واليأس والقنوط.
بدأت السماء ترسل ماءها مدراراً كطوفان يوشك على تدمير كل شيء.قرقعة سقوط المطرعلى سقف السيارة يصيب الجميع بحالةٍ من الخوف من شيء ربما يحدث بلا توقع.فجأةً توقفت السيارة تحت احدى المجسرات وصاح السائق بصوتٍ مرتفع”حدث ثقب في اطار السيارة سنقف فترة من الزمن لتصليح العطب, من يريد الأنتظار فلينتظر ومن يريد الذهاب سأعيد له الأجرة التي دفعها”.ترجل عدد كبير من الرّكاب وراحوا يلوحون بأيديهم للسيارات المنطلقة بسرعة جنونية.كانت الساعة قد اقتربت من الثالثة والنصف من بعد الظهر.ظل أمجد جالساً في مكانه داخل السيارة وكأن الموضوع لايعنيه لا من قريب أو بعيد.كان السائق يعمل بجد ونشاط وكأنه كان قد اعتاد على أحداثٍ من هذا النوع.كان جميع الركاب قد غادروا المكان ولم يبقَ إلا”أمجد” والفتيات الجامعيات.كانت الفتيات يتحدثن بلا توقف عن امور كثيرة تتعلق بالحياة اليومية وعن دروسهن واشياء اخرى .على حين غرة اشتد الجدال بينهن عن امور تتعلق بموضوع مادة اللغة الانكليزية , عرف الرجل انهن يدرسن في قسم اللغة الأنكليزية من خلال الحوارات المختلفة عن مواضيع كثيرة تتعلق بدروسهن المتنوعة.في اللحظة التي شرعت فيه إحداهن تتحدث بصوت مرتفع غاضب نسبياً في محاولة للدفاع فيه عن رأيها حول موضوع يتعلق بقواعد اللغة الأنكليزية في حين راحت الفتاة الأخرى تؤكد لها بأنها بعيدة كل البعد عن الصواب وأن اصرارها ليس له أي مبرر , تنحنح الرجل وهو يستأذن منهن أن يقول رأيه حول ذلك الموضوع.تطلعت الفتيات صوبه وقد ارتسمت على وجوههن دهشة واضحة جداً.قالت الفتاة التي كانت تصر على انها تسير على جادة الصواب.
-” هل حضرتك متخصص في هذه المادة ؟أقصد اللغة الأنكليزية, هل تستطيع أن تقول لنا ماهو الصواب؟”.
بهدوءٍ تام راح يوضح لها بأنه كان قد أنهى المرحلة الجامعية-قسم اللغة ألأنكليزية- في بداية الثمانينيات وأن الموضوع الذي كانت تناقشه مع زميلاتها يتعلق بكذا وكذا وكذا.ران صمت رهيب على وجه الفتاة ولم تكن تتوقع أن تجد حلاً لتلك المشكلة وبهذه الطريقة السهلة.في غضون نصف ساعة كانت الفتيات يتحدثن مع أمجد حول مواضيع مختلفة تتعلق بطرق التدريس وعن الحياة الجامعية بصورة عامة.شعر الرجل وكأنه يتحدث إلى فتيات يعرفهن منذ زمن بعيد.قطع صوت السائق الشاب حديثهم وهو يعلن بأنه كان قد أصلح إطار السيارة المثقوب.نظر السائق إلى الوراء ليتأكد من وجود بقية الزبائن في ذلك اليوم النحس بالنسبة له.صمت الجميع لحظة انطلاق السيارة.بعد مرور دقائق قليلة توقف السائق مرة اخرى وهو يتكلم بصوت مرتفع”يبدو ان هذا اليوم سيكون طويلاً جداً”.كان الشارع السريع مكتظاً بالسيارات من مختلف الأحجام والأشكال.اختناق مروري رهيب.حينما تأخرنا في الوقوف عند إحدى المستديرات تذمر السائق بصوت مرتفع كأنه يريد أن يطلق صرخة مكتومة تمزق سكون هذا الأنتظارالمرير, الأنتظارالذي يكاد يمزق كل معنوية من بقايا معنويات الروح الأنسانية ضمن صراعات الزمن الصعب, في بلدٍ يكاد يلفظ انفاسه بين عشية وضحاها.
–“كلما اراد مسؤول أن يمضي من هذا الشارع تتوقف حركة الحياة هنا في هذا الشارع وفي شوارع اخرى,هل ان ذلك المسؤول يتحكم في حياة الأخرين أم أنه ينتمي إلى عالمٍ آخر؟”.الفقير المسكين هو الذي يدفع الثمن,ثمن العذاب الذي لاينتهي على مدار الأيام والسنين”.صمت بعض الوقت وحينما طال الأنتظار ولم يشترك معه في الحوار أي شخص استطرد قائلاً”أيةُ حياةٍ هذه التي أعيشها على المستوى الشخصي؟كل الأبواب أغلقت في وجهي.حاولت الهجرة إلى خارج البلاد ولكن لم أتمكن.حاولتُ أن اجد وظيفة ومع هذا ذهبت كل محاولاتي ادراج الرياح وكأنني لستُ من هذا البلد.لا فائدة من الحياة في هذا الوطن الذي لايحترم أبناءه”.شعر أمجد أن الشاب كان حاقداً على كل شيء في هذا الوطن أو كأنه كما لو كان يريد أن يثور على كل شيء في هذا العالم الفسيح.بلا مقدمات وجه أمجد عدة أسئلة للشاب الساخط .سأله عن والديهِ وهل هما على قيد الحياة.أراد أن ينقل الحوار إلى جهةٍ أخرى أو يجعل الشاب يتحفز لقول أي شيء يفرغ من خلاله غضبه الدفين.
–“وجود والداي على قيد الحياة هو الذي ربطني للبقاء هنا والعيش في هذا الوطن الجريح,ليس لديهما سواي وها أنا اعمل ليلاً ونهاراً من أجل توفير حياة كريمة لهما.راتب والدي التقاعدي لايكاد يكفي لأدوية الضغط والسكر لكلاهما,كم تمنيت لو استطيع السفرمعهما إلى أي مكان آخر من هذا العالم ولكن كيف وطريق السفر محفوف بالمخاطر وكيف استطيع مرافقتهما في البحر او الغابات المرعبة كما يحدثني أصدقائي كل يوم عن طريقة سفرهم المخيفة”.قال أمجد بصوت هاديء كما لو أنه كان يريد استفزاز الشاب الساخط على كل شيء”وماذا ستجني من السفر إلى خارج العراق؟ستتعذب أكثر.سيتحتم عليك العمل ليلا ونهارا اكثر بكثير من ساعات العمل التي تعملها هنا.سيتغير الحال في هذا الوطن مهما طال الزمن.لابد أن يتغير الحال.نحن نعرف أن البعض يعمل بطريقة محكمة لأبقاء العراق على هذا الوضع,كل شيء يحدث من خلال إطار مرسوم بعناية فائقة لتدمير كل شيءعلى هذه الأرض الطيبة.أشياء مرعبة حقاً على غرارالجهل’الجرائم المتباينة,الفساد المهول,أطفال غير شرعيين يولدون كل يوم’اعدامات على الأسم أو الهوية,حجج واهية كثيرة تحصد الأرواح كل يوم.ترهيب للبعض من أنَّ الطائفة الفلانية ستسحق الطائفة الأخرى,والأقلية الأخرى يجب ان تموت لأنها لاتنتمي إلى الدين الأسلامي.صار الدين الأسلامي للبعض منهم وسيلة للخلاص من الطرف الآخر.هم يمتلكون السلطة والسلاح الآن لذلك هم من يكتبون التاريخ,تاريخ هذا البلد الجميل.يضعون مفاهيم في مناهج الدراسة,كلمات مكتوبة وما على البعض الآخر إلا ان يرددها على مسامع الأطفال الذين يدرسون عاما بعد آخر لتنمو معهم أشياء مزيفة مخيفة كأنها حقائق لاشك فيها يتوارثونها جيلا بعد جيل ولكن سيظل لكل إطارٍ ثقوبه.لكن ذلك الإطار- ومن ينتمي إليهِ لم يضع في الحسبان أنَّ هناك من سيتعلم بطريقةٍ ما ويُعلم ألآخرين ويضع أول خدش في كل هيئات الإطار.من يدري قد تكون أنت أو هذه الفتاة أو هذه الآخرى أو تلك.متى شعرت انت وبقية الشباب بالفخر كونكم تعيشون على هذه الأرض المقدسة ستواصلون طريقكم بفخر واعتزاز تام.أعرف أنهُ سيسقط منكم الكثير ولكن هناك صغار قادمون ستعلمونهم أنتم حب الوطن وسينشأوون على هذا الفخر.سيكون لك دوراً كبيراً في إخراج الأجيال الأخرى من جبروت ذلك الإطار المخيف وستجدون لكم-أنت وبقية الشباب مخرجاً يوفر لكم كل متطلبات الحياة.حينما يأتي ذلك اليوم عندها لن تسمحوا لأحدٍ أن يضع حولكم أي إطار مهما كان نوعه”.
سكت أمجد قليلاً كما لو أنه أراد أن يلتقط أنفاسه أو يعيد ترتيب أفكاره التي راحت تحاصره بطريقة غريبة كأنها تطلب منه أن يسهب في تثقيف هذا الشاب الذي لايعرف سوى لغة التحسر والنحيب على الأطلال وغفل عن أشياء جميلة في هذا البلد الواسع المحاط بالخيرات من كل حدب وصوب.راحت الفتيات الجامعيات يحدقن بوجه الرجل بطريقة لايمكن وصفها,أما السائق الشاب فقد عدّل من وضع مرآة السيارة ليتمكن من خلالها النظر إلى الجهة التي يجلس فيها أمجد.عدّل الرجل وضع نظارتهُ الرمادية وشعر بشيء في صدره يدفعه لقول أي شيء ربما يؤثر ولو بشيء قليل في روح الشاب الساخط على كل شيء” صدقني لقد جاء الوقت لنستغل عدالتهم المزيفة, أقصد انهم يطلقون بين الحين والآخر انهم مسلمون يحاولون خدمة هذا الشعب وتقوية أواصر العقيدة والمذهب وما إلى ذلك من الأشياء التي صارت معروفة للجميع.إنَّ تغيير مصائب الناس لن يحدث بين عشية وضحاها ولكن سيرافق ذلك التغيير معاناة كثيرة ولكن مهما طال العذاب لابد أن يزول يوما ما وعندها ستشرق الشمس من جديد.أعرف أنك قد تحملت الكثير-كما تحملنا نحن-ولكن ليس معنى هذا انك سترضخ بهذه السهولة وتطلب السفر إلى خارج العراق.”شاهد أمجد إحدى الفتيات تمسح دمعة كانت قد سقطت على خدها.أراد الرجل أن يصمت هو الآخر ويترك هذا الكلام الذي يعتبره في قرارة نفسه كلاماً مستهلكا يصلح لبعض الندوات التلفزيونية الفاشلة.مع هذا وذاك أراد أن يذكر أي شيء هنا أمام هذا الشاب الساخط ويزرعهُ في الفراغ.من يدري لعل بذور هذه الكلمات تثمر يوما ما وتحيل جميع فراغات الوطن إلى مزارع غنّاء تُسر الناظر في كل مكان.عاد أمجد ليذكر آخر ماكان قد تحفز في قرارة روحهِ”اسمع ايها الشاب الساخط,يحتاج الفرد سنوات طويلة لتعويض أشياء كثيرة مفقودة ولكن ليس معنى هذا أن يتخلى الفرد عن الصراع من أجل انجاز مايريد أن يصل إليه.على المستوى الشخصي كنت شديد الأحلام كثير التأمل للحصول على أشياء كثيرة ولكن بعد تقدم العمر راحت تلك الأحلام تذبل في داخلي وشرعت اكرر كل يوم من أن الزمن لم يعد له بقية- وهذا اكبر خطأ ممكن ان يرتكبه الإنسان في حق ذاته.كل يوم صارت حالات التوتر تموج في ذهني من أن الناس سيعيشون في قلق مزمن جراء الحروب التي صارت على الأبواب وسنتعذب ,نحن الفقراء اكثر واكثر بينما ينام الاخرون المتخمين بأموال الحرام برفاهية دون أن تمر أنت أو أنا على أذهانهم لحظة واحدة فهل من المعقول تهرب أنت أو أنا إلى دول أخرى ونترك الفاسدون يتنعمون اكثر واكثر ويتمادون في سرقة هذا البلد الجميل.هذا مرعب حقاً كلما فكرتُ فيه.هذه مسؤوليتك ايها الشاب الساخط ومسؤولية كل من يعشق هذه الأرض الطيبة”.
ران صمت رهيب داخل السيارة.كان السائق يتطلع إلى العم أمجد من خلال المرآة المثبتة أمامه دون أن يتفوه بكلمة واحدة.شعر وكأن كلمات الرجل قد سحرته إلى الأبد.تنحنح أمجد ثم أضاف كلماتهِ الأخيرة بهدوء تام”صدقني ياعزيزي,أنهم جميعاً يقفون على حافة الهاوية وأن ضربة واحدة كفيلة بأن ترمي بهم جميعاً إلى وادٍ سحيق لايستطيعون الخروج من ذلك الوادي مهما حاولوا على شرط أن يتحد كل شباب العراق أمثالك من البنين والبنات وعندها ستجد كم أن أساسهم هش”.تحركت السيارة وتحركت معها جميع المركبات بكل أحجامها وأشكالها وفُتِحَ الطريق السريع.كانت الفتيات الجامعيات ينظرن إلى الرجل وكأنهن ينظرن نحو مخلوق بشري جاء من خلف خارطة الزمن.على حين غره قال أمجد للسائق”لطفاً, توقف لقد وصلتُ إلى شارع 60 كانت فرصة لطيفة أن نتظرق إلى مواضيع كثيرة وإن كانت عقيمة”.
في اللحظة التي توقفت فيها السيارة ترجل أمجد عند جسر المشاة بداية شارع 60. قفز السائق من خلف عجلة القيادة وركض نحو العم أمجد وهو يطوقه بذراعيه ويعانقه بحرارة ويقول”قريباً سأجمع كل شباب المنطقة ونحدث ثورة عارمة.سأقود كل تلك المظاهرات وسنطالب بحقوقنا بكل قوة”.صمت قليلاً ثم قال ساخراً”حينما اصبح رئيساً للوزراء سأجعلك مستشاري الخاص”.ربت العم أمجد على كتف السائق وهو يقول بطريقة ساخرة”لا أريد منك أي شيء سوى أن تجلب أجهزة إشعاع لكل مستشفيات العراق وعندها ستقدم للشعب الفقير في العراق أكبر خدمة عرفها التاريخ”.انطلقت السيارة وظل العم أمجد يلوح بيدهِ نحو السائق الساخط والفتيات الجامعيات قبل أن يعبر الشارع السريع بأتجاه منزلهِ عند الطرف الآخر من شارع 60.