23 نوفمبر، 2024 7:14 ص
Search
Close this search box.

حينما ترفض المرجعية الدينية تقاعد الكبار

حينما ترفض المرجعية الدينية تقاعد الكبار

كان موقف المرجعية الدينية في النجف الاشرف واضحا وقويا وحازما حيال اقرار قانون التقاعد الموحد من قبل مجلس النواب العراقي، وتحديدا المادة 37 المتعلقة بمنح الرئاسات الثلاث واصحاب الدرجات الخاصة من وزراء ووكلاء ونواب ومستشارين ومديرين عامين امتيازات وحقوقاً تقاعدية عالية.

   معتمد المرجعية الدينية وخطيب جمعة كربلاء المقدسة الشيخ عبد المهدي الكربلائي تلا في مراسيم صلاة الجمعة قبل الاخيرة (7 شباط 2014) نص رأي المرجعية، والذي جاء فيه “قبل ايام تم اقرار قانون التقاعد في مجلس النواب بعد طول انتظار، وبالرغم مما فيه من بعض الايجابيات اهمها رفع الحد الادنى للراتب التقاعدي الى اربعمائة الف دينار، الا ان من المؤسف ان مجلس النواب اخفق في ان يلبي مطالب المواطنين فأقر لاعضائه وكبار المسؤولين امتيازات واستثناءات بغير وجه حق، وقد كان المواطنون يطالبون باقرار قانون التقاعد بما يحقق العدالة.

   وطالبت المرجعية الدينية التي تعبر عن ارادة الشعب مرارا وتكرارا في البيان الذي اصدره مكتبها قبل ثلاثة اعوام ودعت الى الغاء الامتيازات غير المقبولة ولكن نجد ان اغلب الاعضاء الحاضرين ابوا ان يحترموا الارادة الشعبية، وان هذا الامر يلفت نظر المواطنين وهم على ابواب الانتخابات بان يجددوا النظر فيمن سينتخبون ويدققوا في اختياراتهم في الانتخابات المقبلة وينبغي ان لا ينتخبوا الا من يتعهد لهم مسبقا بالغاء تلك الامتيازات غير المنطقية كما يفترض على المحكمة الاتحادية ان لا تمرر هذه المادة من القانون التي تخالف روح الدستور الذي ينص على ان جميع المواطنين يتساوون دون تمييز”.

   ومعروف ان المرجعية الدينية في النجف الاشرف حينما تتدخل بشكل مباشر وصريح وقوي في قضية ما، فذلك يعني ان تلك القضية مهمة وحساسة وخطيرة، وتحتاج الى تدخل وتوجيه من قبل اعلى المستويات.

   ولا شك ان موضوع الامتيازات والرواتب التي يتقاضاها كبار المسؤولين واصحاب الدرجات الخاصة في العراق هي مثار جدل وسجال في مختلف الاوساط والمحافل الاجتماعية المختلفة منذ عدة اعوام، ومع استمرار المشاكل والازمات السياسية والامنية، وضعف الخدمات، وشعور فئات وشرائح اجتماعية عديدة، مثل المتقاعدين وخريجي الجامعات، وذوي الاحتياجات الخاصة والارامل والايتام، بالاهمال والحرمان والتهميش، اتسعت حدة الجدل والسجال حول تلك القضية، وخصوصا حينما اخذت المواقف المعارضة للامتيازات والرواتب العالية، تتبلور بصورة حملات منظمة من خلال التظاهرات والمسيرات الجماهيرية، ومواقع التواصل الاجتماعي، ووسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة.

   وهذا الجو العام الضاغط، فرض على مجمل القوى والتيارات السياسية التماهي معه، لذلك انطلقت قبل عدة شهور دعوات من مختلف الاتجاهات لالغاء الرواتب والامتيازات التقاعدية لاصحاب الدرجات الخاصة، فضلا عن اعادة النظر بالرواتب والامتيازات الممنوحة لمن هم في الخدمة الفعلية، وتطورت الامور الى قيام بعض الجهات برفع دعاوى قضائية الى المحكمة الاتحادية العليا لالغاء رواتب الرئاسات والبرلمانيين، وبعد وقت قصير تمخض ذلك الحراك عن قرار للمحكمة الاتحادية بإلغاء الرواتب التقاعدية لاعضاء البرلمان والجمعية الوطنية، باعتبار ان تشريع قانون تلك الرواتب جاء مخالفا للدستور، وقد استبشر الكثيرون خيرا بتلك الخطوة، التي كان منتظرا ان تتبعها خطوات مماثلة تفضي الى الغاء الرواتب التقاعدية للرئاسات الثلاث والوزراء واصحاب الدرجات الخاصة من المتقاعدين، وتزامن كل ذلك مع تشكيل لجنة من قبل الحكومة برئاسة نائب رئيس الوزراء حسين الشهرستاني لاعداد مشروع لقانون التقاعد الموحد، يعالج عدة امور، من بينها الرواتب المتدنية الى حد كبير لبعض الفئات والشرائح، وتقليص الهوة بينها وبين فئات وشرائح اخرى تتقاضى رواتب وامتيازات عالية، الى جانب الغاء كل القوانين والتشريعات التي تمنح كبار المسؤولين حقوقا تقاعدية خيالية بصرف النظر عن العمر وسنوات الخدمة والشهادة الدراسية، وبعد شهور من الشد والجذب، خارج اروقة البرلمان وفي داخله، صوت اعضاء مجلس النواب الاسبوع الماضي على مشروع القانون الجديد بمواده الاثنتين والاربعين، الا ان المادة 37 فجرت الموقف العام، لانها حددت الرواتب التقاعدية للرئاسات والدرجات الخاصة بـ 25% من اخر راتب ـ ومن ضمنه المخصصات ـ تقاضاه المسؤول، يضاف له مخصصات مئوية بحسب سنوات الخدمة، وبصرف النظر عن العمر والتحصيل الدراسي، وهي بذلك تكون قد شرعنت رواتب وامتيازات باهضة لكبار المسؤولين مقارنة بالفئات الاجتماعية الاخرى.

  وأكثر من ذلك يكون البرلمان قد تجاهل مجمل المطالب الشعبية وتوجيهات وتوصيات المرجعيات الدينية، ورغبات قوى وشخصيات سياسية عديدة، وبقدر ما شكلت المادة 37 من قانون التقاعد الموحد صدمة قوية للرأي العام العراقي بمختلف عناوينه ومسمياته ومستوياته، فإنها فتحت بابا اخر للتشهير والتسقيط والمزايدات السياسية، لا سيما في ظل اجواء التهيؤ والاستعداد للانتخابات البرلمانية المقبلة المقرر اجراؤها في الثلاثين من شهر نيسان/ ابريل المقبل، وراح كل طرف يحاول التنصل من التصويت على تلك المادة، او يطرح مبررات ومسوغات تفتقر الى الاقناع، في خضم استئناف حملات المطالبة بإلغاء الرواتب والامتيازات التقاعدية بشطب المادة 37 من قانون التقاعد بالمطلق.

   لا شك في ان الجدل والسجال الجديد سيُدخل الى المشهد السياسي العام عاملا اخر من عوامل التأزيم والتصادم والتعقيد، وفي ذات الوقت سيزيد من حدة احتقان الشارع العراقي، وغضب المرجعية الدينية والقوى الملتزمة بمبادئها وتوجيهاتها، وسيجد البرلمان ـ وعموم القوى السياسية الفاعلة فيه ـ نفسه امام خيارين، اما المضي بهذا القانون على ما هو عليه، وهذا من الممكن ان يفتح الباب واسعا لاسوأ الاحتمالات، وخصوصا ان تدخل المرجعية وحديثها الصريح بهذا الشأن يشجع جمهورها الواسع والعريض على توسيع مساحات رفضه ومعارضته، وطبيعي ان حراك الشارع لا بد ان تترتب عليه نتائج ومعطيات عملية، ان كان سلبا او ايجابيا، في حين يتمثل الخيار الثاني بالاذعان لتوجهات المرجعية الدينية والرأي العام، واعادة النظر في المادة السابعة والثلاثين من القانون، لكنه في هذه الحال سيصطدم الداعون والمتحمسون لالغاء الرواتب التقاعدية للدرجات الخاصة، بالمواقف الرافضة من قبل قوى اخرى، مثل التحالف الكردستاني والقائمة العراقية وجزء من التحالف الوطني، ناهيك عن ان شطب تلك المادة من القانون، او نقضها من قبل المحكمة الاتحادية، او اي صيغة اخرى يتطلب وقتا واجراءات، وبدائل تمثل حلولا وسطا تكون مقبولة من الداعمين والرافضين معا، والثابت ان الحلول الوسط ( التوافقية) في الوضع العراقي، وعلى ضوء تجربة الاعوام العشرة الماضية لا تأتي الا بعد مخاضات عسيرة، وتجاذبات حادة وخطيرة بين الفرقاء تكاد في بعض الاحيان تنسف كل شيء.
[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات