بعد انتظار طال زمنا طويلا حيث تغلب ارادة الموت على ارادة الحياة في عراق اليوم, بزغ ربيع حياة جديد في بغداد عبر استعادة الفرقة السمفونية بعضا من شبابها المفقود الذي ضاع جزء منه نتيجة لسنوات الصراع التي عاشها العراق ما بعد العام 2003.
و من جملة هذا الربيع ان الفرقة السمفونية العراقية عادت لتصدح بأدائها و موسيقاها من جديد, لتعيد العراق الى جو ثقافي رفيع يتفوق فيه الجمال الى جانب الذوق, جو افتقدناه منذ زمين طويل و تلاشى في خضم رائحة الموت التي خنقتنا من سنين.
لكن الفشل يضل شبحا يقتل الكثير من الاشياء الجميلة حولنا.
و من جملة جرائم هذا الفشل ما حصل مع حفلة الفرقة السمفونية العراقية يوم الخميس المصادف للرابع و العشرين من كانون الاول الجاري.
فحينما اعلنت الفرقة السمفونية عن حفلها لشهر كانون الاول, اعلنت كذلك ان بطاقات الحفل ستباع دون حجز مسبق, و ستباع قبل ساعتين من بدء الحفل ابتداء. لكن الصدمة التي ذبحت الكثيرين ممن حظروا كانت تتمثل في ان البطاقات بيعت قبل ذلك الموعد بساعات, اضافة الى عدد كبير من بطاقات الدعوة الخاصة التي وزعت للبعض ممن يملكون سيارات الدفع الرباعي مع حماياتهم, و لا حاجة لتسمية هؤلاء رغم بعدهم عن الفن و الجمال و الموسيقى.
لكن عدد الحضور كان هائلا, و هو ما يعكس رغبة عظيمة عند العراقيين بالحياة و تذوق الجمال عبر اذانهم, حتى ان الكثير منهم اوقف سيارته في الشارع العام مجاور المسرح دون ان يأبه لذلك لمجرد انه يريد الحضور. كما ان عودة الفرقة السمفونية الى الحياة من جديد ليست سوى بذرة جميلة لابد ان نسقيها بانتظار ان تكبر و تطرح ثمارها الطيبة في مستقبل نسأل الله ان لا يكون بعيدا. لكن منظر الناس الذين حظروا حسب موعد الاعلان لشراء التذاكر و الدخول, و انتظارهم في اجوال الليل و البرد القارس, و من ثم خيبة الامل الكبيرة التي شعروا بها بعد ان فشلوا في الحصول على البطاقات فعادوا مطرقي رؤوسهم, انما تعكس فشل و سوء الادارة العميق للمسرح الوطني, هذه الادارة التي فشلت في ان تبيع البطاقات قبل ايام كي تعلن انتهائها في وقت انتهائها, فتجنب بذلك الناس القدوم و العودة خائبين محبطين.
لقد تحدث الكثيرون عن ذلك الاحباط, و كالعادة كان لأوصاف الفساد و تهم المحسوبية و المنسوبية نصيب كبير في ازدرائهم لما حصل. فمتى نتعلم ان الفن اكبر من البرلمانيين و دعوات الشرف التي تقدم لا لشيء الا لشراء المجاملات و حسب؟
متى نتعلم ان نقدم بسمة و فرحة لأنسان يريد الحياة عوضا عن تقديم مجاملة لمن لا يفقه من الثقافة شيئا؟
و من اللافت ان هذه الحفلات ليست بالحدث المستمر و المتكرر كي يقول من خابت ظنونهم “خيرها بغيرها”. لذلك كانت خيبة الامل مضاعفة و كبيرة و تركت الما في صدور من جاؤوا و فشلوا, و المتحدث من بينهم, حيث بقي بعض هؤلاء عشقا للفن و الجمال في الليل و البرد بانتظار ان يسمح لهم بالدخول حتى بعد مضي ساعة على بدء الحفل, ذلك الامر الذي لم يتحقق.
لقد قال لي احد المحبطين مثلي انه جاء مضطرا ذات مرة لشراء التذكرة في الساعة الرابعة عصرا, حيث كان الوقت صيفا. و بطبيعة الحال, كان عليه ان يتحمل الوقوف في الحر اللاهب بعد شراء التذكرة من اجل ساعتين يقضيهما مع موسيقى خالدة تنسيه ذلك الحر, و يا لها من سخرية.
و من نافلة القول ان احد القائمين على ادارة المسرح كان يروح و يجيء قائلا ان المسرح امتلئ, رغم انه كان يخرج بين برهة و اخرى حاملا جهاز هاتفه و هو يسال “اين فلان الفلاني؟” ليصرخ احد الموجودين “أنا” فيدخل امام انظار الجميع. و بعد عدة “دخولات” عظيمة من هذا النوع, و حينما نودي على احد ذوي الحظ العظيم الذي كان اسمه فلان الفلاني, قلت له ساخرا “كلنا فلان الفلاني!” لكن سخرية القدر كانت اكبر بطبيعة الحال, واضطررت لترك المكان قبل الساعة السابعة بعد يأسي من الدخول ولو وقوفا كي اطرب اذني بما جئت لاستمع له. و حينما غادرت المسرح, كانت الغصة في قلبي اليمة لاني انتظرت هذا الحدث منذ اسابيع. و الله وحده يعلم كم سأنتظره مرة اخرى.
و برغم مغادرتي للمسرح و توجهي الى سيارتي التي كانت تبعد بعض الشيء عن المسرح, و هو ما تطلبني اكثر من 10 دقائق حيث تعدت الساعة السابعة, اي مضي اكثر من نصف زمن الحفلة التي بدأت في السادسة, كان هنالك بعض الذين وقفوا بانتظار ان يدخلوا ولو لوقت قصير هناك, حيث مررت بالقرب منهم و شاهدتهم بنفسي.
و عندما عبرتهم, تمنيت لي و لهم ان نحظى بفرصة اخرى في وقت قريب, فرصة لا تشوبها شائبة سوء ادارة كما حصل في تلك الليلة و حسب.