حيدر العميدي الناقد الذي قرأ المسرح بجسد الروح

حيدر العميدي الناقد الذي قرأ المسرح بجسد الروح

في مدينة المحاويل، ذات البعد الريفي الوادع، حيث تنشأ الحكايات من جديلة النهر ووشوشات الزرع، ولد حيدر جواد كاظم العميدي في الثاني من تموز عام 1970، ولم يكن يعلم ذلك الطفل الذي شغفته المناظر وسحرته الحكايات، أنه سيكون يومًا عينًا دقيقة ترى المسرح من الداخل، وتعيد ترتيبه على طاولة العقل والذائقة معًا.

منذ أن وطئت قدماه كلية الفنون الجميلة في جامعة بابل مطلع التسعينيات، انطلقت رحلته المتأنية، لا باتجاه الخشبة فحسب، بل إلى جوهرها؛ إلى ما يحدث خلف الأضواء، وفي النسيج الخفي الذي يصنع العرض ويُلبسه الدلالة. حصل على البكالوريوس في الفنون المسرحية سنة 1992، وتابع طريقه العلمي حتى نال الدكتوراه عام 2004، ليصبح بعد ذلك أستاذًا للتقنيات المسرحية، ومؤسسًا لرؤية نقدية متكاملة لا تفصل الجمالي عن التاريخي، ولا تغفل الدور المعرفي للأزياء والإضاءة والديكور، بوصفها أدوات لا تقل تعبيرًا عن الممثل والنص.

العميدي ليس ناقدًا عابرًا أو متابعًا صحفيًا عاديًا للعروض المسرحية، بل هو منظّر حقيقي، استثمر أدوات البحث العلمي ليفتح آفاقًا جديدة في فهم العرض المسرحي، ويجعل من عناصره البصرية فضاءً قرائيًا متجددًا. فقد كتب أكثر من 25 بحثًا علميًا محكمًا في مجلات عراقية وعربية وعالمية، وأشرف على أكثر من 80 أطروحة دكتوراه ورسالة ماجستير، وكان له حضور وافر في أغلب المؤتمرات والمهرجانات المسرحية في بابل وبغداد والبصرة وأربيل.

نقاد المسرح وأساتذته يرون في حيدر العميدي “حارسًا للمسرح الأكاديمي”، لا يترك شاردةً أو واردة في العروض دون تحليل. وصفه البعض بأنه “ذاكرة بابل المسرحية”، فيما يرى فيه آخرون “ضمير الخشبة العراقية”، إذ يتميز بقدرته على إعادة طرح الأسئلة الحرجة في إطار علمي رصين، دون أن يفقد حسه الجمالي أو انتماءه للعروض التي يكتب عنها. ولهذا كثيرًا ما تتسم كتاباته بالموازنة الدقيقة بين المعلومة والتحليل، وبين التراث المسرحي والتجريب الحداثي.

أصدر عددًا من الكتب المهمة التي أصبحت مراجع في حقل المسرح، منها:

“تأويل الزي في العرض المسرحي” (بطبعتين).

“الأزياء المسرحية: المضمون والدلالة في العرض التاريخي”.

“جماليات الأزياء المسرحية”.

“مبادئ التقنيات المسرحية”.

وفيها جميعًا يظهر العميدي بوصفه ناقدًا بصريًا، يستنطق اللون والملمس والخط والظل، ليجعل من الأزياء نصًا ثانيًا موازٍ للنص الحواري. كانت كتبه أشبه بخزائن فكرية، احتوت نظرياته ومشاهداته وتجاربه المتراكمة، وقد كتبت عنها أقلام نقدية كثيرة مشيدةً بفرادتها، معتبرةً العميدي أحد أهم الأصوات النقدية في المسرح العراقي المعاصر.

ولم يتوقف حضوره عند حدود الكتابة والتنظير، بل امتد إلى قاعات التحكيم، واللجان العلمية، ومجالس الأقسام، ليكون صانع سياسات أكاديمية وفكرية في كلية الفنون الجميلة بجامعة بابل. وقد كُرِّم بدرع الجامعة لنيله أعلى تقييم في الأداء الجامعي لعامين متتاليين، وهو ما يعكس الجهد المضاعف الذي بذله في بناء أجيال جديدة من الممثلين والمخرجين والنقاد.

في قراءته للمسرح، لا يفصل العميدي بين الخشبة والحياة، فهو يرى أن العرض المسرحي ليس فقط نصًا يُؤدى، بل خطابٌ يعكس تحولات الإنسان. ولهذا كانت مقالاته حول العروض المسرحية في بابل، وقراءاته للنصوص الحسينية، ومحاضراته في المحافل الثقافية، متشربة دائمًا بروح فلسفية ترى في الجمال وسيلةً للمعرفة، وفي المسرح مختبرًا للوعي الجمعي.

حيدر العميدي اليوم، وبعد أكثر من ربع قرن من العطاء، يقف شامخًا بين نقاد المسرح، لا كباحث محض، بل كواحد من القلائل الذين زاوجوا بين الأكاديمية والذائقة، وبين الرؤية والرسالة، فجعل من النقد فعل إيمان بالفن، ومن المسرح سؤالًا مفتوحًا لا تنضب احتمالاته.

أحدث المقالات

أحدث المقالات