23 ديسمبر، 2024 9:31 ص

حياة هشة .. دادائية بلغة جديدة

حياة هشة .. دادائية بلغة جديدة

 في عام 1916 دار حديث بين الفنانين الأوربيين النازحين من أتون الحرب الكونية إلى سويسرا، وكان مقهى فولتير بزيورخ معقلا ومطحنة لأفكارهم. وعلى إحدى طاولات المقهى، كانوا بعضا من الفنانين المحبطين من تبعات الحرب، يتساءلون عن كيفية اختيار اسم لهذا الحراك الفني؛ فأجاب أحدهم ببساطة؛ الأمر لا يحتاج الى عناء! ثمّ أخذ سكينا كانت على المائدة وغرسها في قاموس فرنسي- ألماني فوقعت، السكين، على كلمة دادا التي تعني (حصان خشبي متأرجح باللغة الفرنسية يستخدم للأطفال). لم يكن ثمة اعتراض على التسمية على الرغم من تعدد معانيها طالما جاءت هي الأخرى بشكل عشوائي ينسجم مع التخبط الإنساني وفوضوية الحرب وكان بين أولئك الفنانين الشاعر الروماني كرستيان تزارا الذي تلا البيان الأول للحركة:
 “لقد فقدنا الثقة في ثقافتنا، كل شيء يجب أن يهدم، سنبدأ من جديد بعد أن نمحوَ كل شيء، في ملهى فولتير سيبدأ صدام المنطق، الرأي العام، التعليم، المؤسسات، المتاحف، الذوق الجيد، باختصار كل شيء قائم” لقد تزعم هؤلاء الفنانون فن التمرد او الفن الإحباطي، إذ آل بهم إحباطهم الى تبني لون جديد في تشكيل لوحاتهم الفنية من بقايا الاستهلاك البشري؛ فولدت الدادئية. 
  في معرضه الذي أقيم في قاعة جمعية الفنانين التشكيليين بالبصرة، تراصّت أعمال الفنان هاشم تايه على جدران القاعة وهي تحمل دادائية بصرية يتعذر على المتلقي فك شفراتها ورموزها إلا بعد أن يغور في أعماق المعاني الصورية ليجد روحاً تتحرك فتستمد طاقتها من ربط الأشياء بلمسات فنية ضمن قواعد التشكيل المبني على أساس الاعتناق والظواهر وهو يولد تأثيراً تفاعلياً نفسيا لدى المتلقي بسبب الإشارات الصورية المنبعثة من عالم اللوحة الدادائية، التي جاءت كمدرسة ترتكز على المعنى المعروف (كل شيء لا يعني شيئا، بل اللاشيء هو كل شيء) ويقول الفنان الفرنسي الدادائي فرنسيس بيكابيا: “إن الجمال يمكن أن يولد من اتحاد أشياء غير متوقعة أكثر من غيرها بشرط أن تكون اليد التي تجمعها يد فنان”.
ما ان ترمق لوحات الفنان هاشم تايه في معرضه الأخير الموسوم بـ “حياة هشة” بنظرة حتى تتولد جملة من الاستفهامات والمعاني اللامتناهية التي تدعونا إلى أن نحول طيات الورق المقوى التي طويت بيد فنان عودنا على تفاعله بحساسيّة بيّنة مع  محيطه المؤلم. لقد دعتنا تلك اللوحات الى تحويل ما وجد من ربط بين المتناقضات إلى قوالب لفظية لكي تتفاعل مع النفس وتحرك بوصلتها ضمن سياق الفن المضاد الذي يتماهى مع نسق الدادئية الأوربية، وهنا لا أريد ان أضع الفنان هاشم تايه في قالب الدادائية بمفهومها السلبي،  بل أن هذا الفنان استطاع ان يشكل سيميائية تحاكي الفوضى وتحاكي المهمل، ليضع فيها روحا بعد ان سلبت من قبل مستخدميها من خلال لمسات فنية بارعة، واستطاع أيضا أن يترجم روح المثقف العراقي وترسباتها، انه التمرد بعينه، انها لوحات تصرخ بصمت، ينهل صوتها من أجواف قناني المياه وعلب الزيوت الفارغة، ذلك الفراغ الذي يشبه إلى حد ما فراغ أرواحنا الرافضة للواقع من جهة،  والعاجزة عن تحريك الساكن من جهة أخرى. إن خصوصية لمسات هاشم تايه الفنية التي عودنا عليها في معارضه السابقة، ولمسات أنامله تترجمان إحساسه النابع من أعماق ذاته كاشفتيْن عن قدرته على التحكم بخاماته الجاهزة المرذولة وتطويعها فنيّاً لتتحوّل إلى لغة صورية تمتع المتلقي وتستثير بصره وتجعله يتأمل ويبحث عما خبأته العلب الفارغة بعد أن تحولت إلى لغة كونية على سطح الورق المقوى لتدب الروح فيها وتحاكي بعضها البعض في تمثيل صُورِي لحياةٍ هشّة. استطاع هاشم تايه أن يوظف مخلفات حياتنا اليوميّة المرذولة التي صدئت بفعل زمننا الراكد، وأن يحولها إلى لغة باعثة، مستثمراً ما أنجزته الدادائية برؤية خاصّة تنتمي إلى تجربته عبر تحولات معارضه السّابقة.
أخيراً: تعكس أعمال الفنان هاشم تايه، التي يبدو كما لو أنّها تقع خارج تخوم الفن التشكيليّ بأعرافه التقليديّة، تعكس حياتنا الرخوة بمادتها الهشة التي يمكن أن تطيح بها أية زعزعة.