الى زينب سميسم ابنة حياة شرارة,التي لا اعرف اين هي الآن وهل ستقرأ هذه السطور.
ض.ن.
تعرفت اليها عام 1961 في كلية الاداب بجامعة موسكو ,وافترقنا نهاية الستينيات قليلا ثم التقينا مرة اخرى في قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد,وبقينا سوية الى عام رحيلها التراجيدي (1997), ولا يمكن اختزال كل هذه السنوات الطوال بعدة اسطر, لهذا فاني اكتب الآن لقطات – ليس الا- من ذكريات اختزنها القلب, واتمنى ان تسنح لي الفرصة لاحقا لكتابة كل ما اعرفه عن هذه المرأة المتميزة والمتفردة.
اللقطة الاولى
القيت محاضرة عام 1988 في كلية اللغات حول الشعر الروسي بترجمة أ. د. حياة شرارة ضمن موسم (المنبر الثقافي), الذي اقترحته واشرفت على مسيرته عندما كنت معاونا لعميد كلية اللغات آنذاك. حضر الكثير من زملائي الاساتذة وبعض المهتمين بالموضوع ومجموعة من الطلبة طبعا, وكان على رأس الحاضرين المرحوم أ. د. حسين محفوظ, الذي كان من أبرز اساتذة قسم اللغة الفارسية في كلية اللغات.تحدثت في تلك المحاضرة عن كتاب المرحومة حياة الموسوم – ( من ديوان الشعر الروسي) الذي صدر في بيروت, والذي ضم اكثر من 200 قصيدة مختارة من الشعر الروسي منذ القرن الثاني عشر الى القرن العشرين مع مقدمة تحليلية معمقة عن الشعر الروسي ومراحله المختلفة, اضافة الى معلومات وجيزة عن كل شاعر من الشعراء الذين ترجمت مختارات من قصائده, والقيت مجموعة من افضل القصائد في ذلك الكتاب المهم جدا في تاريخ ترجمة الشعر الروسي في العراق والعالم العربي عموما ( وهو الكتاب الذي اشادت به مجلة الادب الاجنبي السوفيتية عندما صدر في حينه), واذكر باني قلت قبل القاء احدى القصائد الوجدانية – مازحا- انها قصيدة لشاعر روسي بترجمة أ.د.حياة شرارة وليست قصيدة من الشعر الوجداني العربي المعاصر. بعد انتهاء المحاضرة والمناقشات حولها اقترب المرحوم أ.د. حسين محفوظ وقدم لي التهنئة على هذه المحاضرة حول ( ابنتنا حياة شرارة) كما قال. تعجبت انا من ذلك التعبير الغريب وقلت له ان حياة شرارة هي ابنة قسم اللغة الروسية في كلية اللغات بجامعة بغداد, وانها رائدة كبيرة في مجال دراسات الادب الروسي في العراق, وانني رغبت التذكير باسمها بعد رحيلها ,لأن هناك من يحاول نسيانها.ابتسم حسين محفوظ مؤيدا ولم يعلق.
اللقطة الثانية
احتفلنا عام 1999 لمناسبة مرور قرنين على ميلاد الشاعر الروسي الكبير بوشكين في كلية اللغات بجامعة بغداد, وكنت انا عريف الحفل, وادخلت اسم المرحومة حياة شرارة ضمن منهاج الحفل دون استشارة احد ودون الاعلان مسبقا حول ذلك , لان اسمها اصبح في تلك الفترة شبه ممنوع بعد الضجة الكبيرة حول انتحارها في الصحف ووسائل الاعلام المختلفة خارج العراق آنذاك , واخترت مجموعة من قصائد بوشكين بترجمتها وطلبت من احد الطلبة الروس الذين كانوا عندنا من معهد شعوب اسيا وافريقيا بجامعة موسكو ان يلقيها وقمت بتدريبه على الالقاء. حضر الحفل جمهور كبير ومهم , وكان من بينهم وزير التعليم العالي والبحث العلمي عبد الجبار توفيق , البعثي الكبير بملابسه العسكرية الخاصة بكبار البعثيين محاطا بحرسه والسفير الروسي ببغداد مع مجموعة كبيرة من موظفي السفارة والجالية الروسية ورئيس جامعة بغداد أ.د. عبد الاله الخشاب ومجموعة من عمداء الكليات والاساتذة والصحفيين والطلبة, وقدمت الطالب الروسي المذكور واعلنت انه سيلقي مجموعة من قصائد بوشكين بترجمة المرحومة الاستاذة الدكتورة حياة شرارة من قسم اللغة الروسية في كلية اللغات بجامعة بغداد. ألقى الطالب الروسي تلك القصائد بشكل رائع وبلغة عربية سليمة ذات نكهة روسية جميلة , وقد صفق له الجميع, واعتبرت انا هذا التصفيق لحياة شرارة – مترجمة تلك القصائد, وتكريما وتحية لها.بعد الحفل,تحدث بعض اصدقائي ومعارفي معي حول ذلك , وقالوا لي انهم انتبهوا الى ما كنت اقصده , فقلت لهم باني كنت سعيدا بذلك لاني اردت ان اقول ان حياة شرارة – رغم رحيلها التراجيدي- لا زالت معنا في قسم اللغة الروسية بكلية اللغات في جامعة بغداد.
اللقطة الثالثة
قالت لي حياة مرة انها انجزت ترجمة مسرحيات بوشكين الى العربية وتخشى تقديم تلك الترجمة للنشر الى وزارة الاعلام والثقافة لان الوزارة يجب ان تقدم كل ترجمة الى مراجع , وغالبا ما يكون المراجع هذا محدودا او غير ملٌم بالموضوع ويبدأ بالعرقلة واللف والدوران ووو.., وسألتني هل اوافق ان اكون انا هذا المراجع؟ قلت لها نعم وبكل سرور , وانني مستعد للموافقة على هذه الترجمة حتى دون التدقيق فيها لانها ترتبط باسم حياة شرارة اولا, و ثانيا لاني اعتقد ان الترجمة اجتهاد شخصي للمترجم وانه هو المسؤو ل عنها وعن كل ما فيها بما في ذلك الاخطاء, وذكرت لها ان جبرا ابراهيم جبرا كان يشترط عدم مراجعة ترجماته , وقلت لها ان حياة شرارة يجب ان تشترط ذلك ايضا. وهكذا صدر كتاب ( مسرحيات بوشكين) بترجمتها وبمقدمتي.
اللقطة الرابعة
جئت مرة الى القسم ورأيت حياة قد خرجت لتوها من غرفة رئيس القسم وهي متوترة جدا جدا. حييتها وسألتها – ما الامر يا ام مها؟ فاجابت بانفعال واضح, انها تحدثت لتوها مع رئيس القسم حول تدريس مواد الادب الروسي من رواية ومسرحية وشعر وتاريخ الادب ,فقال لها رئيس القسم باستهزاء ان تلك المواد لا قيمة لها بتاتا في مناهج التدريس في القسم.ابتسمت انا وسألتها – وهل سمع بوشكين ودستويفسكي و تولستوي بذلك؟ضحكت حياة وقالت – الحمد لله لم يسمع احد, وضحكنا كلانامن اعماق القلب, ولكنه كان – بالطبع- ضحك كالبكا..