تكمن أهمية تشيخوف بالدرجة الأولى في خلقه أشكالا جديدة في الأدب ، ولهذا السبب بالذات لم يستطع النقد الأدبي الذي عاصره أن يضع تشيخوف في مكانه الطبيعي ، لان هذا النقد لم يستطع أن يتقبل ويستوعب تلك الأشكال الأدبية الجديدة ، التي أعطاها هذا الفنان الكبير ، ومع ذلك ، فان بعض النقاد والأدباء الذين عاصروا تشيخوف أشاروا إلى ذلك ، ولعل أبرزهم هو تولستوي (كاتب الأرض الروسية العظيم) ، الذي استطاع بسهوله- عبر تجربته الفنية الهائلة والغنية- أن يجد الشئ الذي لم يستطع النقد آنذاك تحديده ، واعني خلق الأشكال الأدبية الجديدة . فبعد موت تشيخوف عام 1904، أقام الأدباء تأبينا له في موسكو، وكان تولستوي في مقدمة المدعوين، إلا انه رفض المجئ إلى موسكو والمشاركة في تأبين تشيخوف، كما رفض من قبل المشاركة في الاحتفالات بذكرى بوشكين رغم مشاركة أدباء روسيا الكبار مثل دستويفسكي و تورغيينف فيها. وبعد رفض تولستوي المشاركة في التأبين ، سافر احد الصحفيين الروس إلى (ياسنايا بوليانا) ليسأل عن سبب ذلك ، وهل إن هذا يعني عدم تقدير منه لتشيخوف ؟ وأوضح تولستوي في هذه المقابلة انه ضد كل أنواع المظاهرات وحفلات الخطابة ، خصوصا إذا كانت في تكريم الموتى ، وانه لهذا السبب رفض الدعوة . وتكلم تولستوي بعدها كثيرا عن تشيخوف ، واسماه (فنان الحياة) وقال بالنص : ( لقد خلق تشيخوف أشكالا جديدة في الكتابة ، وأوكد أنا بدون أي تواضع كاذب ، إن تشيخوف في تكنيك الفن أعلى مني كثيرا، وانه كاتب فريد من نوعه …) وعلى الرغم من كلمات تولستوي هذه ضاعت في حينها وسط مئات الكلمات وعشرات الكتب التي ظهرت بعد وفاة تشيخوف ، إلا أنها تمتلك ألان أهمية خاصة ، إذ أن الدراسات الكثيرة لنتاج تشيخوف ، والتي ابتدأت منذ خطواته الأدبية الأولى ولم تنته بعد ، والمكانة التي يشغلها هذا النتاج في كل أنحاء العالم ، كل هذا جعل من كلمات تولستوي تقويما حقيقيا اثبت الزمان صحته. وسنتكلم هنا عن شكل واحد من هذه الأشكال الجديدة في أدب تشيخوف ، وهو شكل القصة القصيرة.
كانت القصة القصيرة مزدهرة في الأدب الروسي قبل تشيخوف ، فقد كتب بوشكين بعض القصص القصيرة ، وكذلك ليرمنتوف وغوغول وتورغيينف ، ولكنهم جميعا لم يتفرغوا لهذا النوع في الأدب ، وبقيت محاولاتهم مبتورة ، خصوصا وأنهم اشتهروا بأنواع أدبية أخرى واستمروا بها. أما تشيخوف ، فقد بدأ بالذات
ا
في هذا المجال ، واستمر طوال حياته بكتابة القصة القصيرة ، واستطاع خلال هذا العمل الطويل إن يبلور هذا النوع ويجعله يقف بجدارة جنبا إلى جنب مع الرواية والرواية القصيرة. وتشيخوف يذَكر ببوشكين في الشعر الروسي ، فمن المعروف إن بوشكين هو بداية كل البدايات في الأدب الروسي(حسب تعبير غوركي) فقد قدَم أعمالا في الشعر والمسرحية والقصة والرواية والنقد والصحافة الأدبية ….الخ ، ولكنه برز قبل كل شي في مجال الشعر ، وأطلق عليه النقاد محقين اسم (شمس الشعر الروسي) ، ولايعني هذا بالطبع ، انه لم يكن هناك شعر و شعراء قبل بوشكين ، إذ كان يوجد في روسيا الكثير من الشعراء الكبار ، ولكن بوشكين استوعب تجربتهم ، وعمقها ، ومنحها روحا وأبعادا جديدة بفضل عبقريته وثقافته الواسعة ، وهذا هو الذي حدث لتشيخوف ، إذ انه استوعب التجارب السابقة في القصة القصيرة ، ومنحها روحا وأبعادا جديدة . ولكن الطريق التي سلكها تشيخوف كانت أصعب من تلك التي سلكها بوشكين ،فقد ابتدأ تشيخوف نشاطه الأدبي في بداية ثمانينات القرن التاسع عشر ، أي بالذات في عصر انتصار الرواية على كل أنواع الأدب الأخرى ، إذ تعود القراء ، بعد دستويفسكي و تولستوي و تورغيينف على الرواية ، وأصبحت الرواية المحك الرئيس والأول لعبقرية أي كاتب. ولهذا ، عندما ابتدأ تشيخوف بكتابة القصة القصيرة ، تقبلها القراء والنقاد على حد سواء- على أنها محاولات غير جدية في الأدب. وقد تذَكر تشيخوف في أواخر حياته ، كيف إن محرري الصحف كانوا يتساءلون بسخرية ، عندما كان يقدم لهم تلك الأعمال : (ماذا ، هل هذا أدب ؟ إنها اقصر من منقار الطير.) ولكن إصرار تشيخوف على الكتابة بهذا الشكل جلب أنظار النقاد إليه ، إذ أنهم وجدوا في ثنايا تلك القصص عبقرية متميزة. وبدأت سلسلة طويلة من النصائح والإرشادات : اكتب رواية يا تشيخوف ، اكتب شيئا كبيرا ، اترك القصة القصيرة لان عبقريتك سوف تموت فيها ، وحرام عليك أن تضيَع عبقريتك في هذه الأشياء الصغيرة …الخ…الخ… ولكن تشيخوف لم يستمع لهم ، ولم يكتب رواية خلال حياته الأدبية ، واستطاع خلال هذا (العناد) أن يحصل على اعتراف الآخرين به وبالقصة القصيرة ، واستطاعت القصة القصيرة عبر هذا (العناد) أن تجد مكانها في الأدب الروسي، وربما العالمي أيضا …
ما هي صفات وخواص هذا النوع الذي بلوره تشيخوف وقدمه للأدب ؟
قبل كل شئ ، ألغى تشيخوف البداية التقليدية في القصة القصيرة ، فلا يوجد هناك كلام عن الطبيعة ولا خواطر واسترسالات ، ولا تقديم كبير ومطول ومفصل للشخوص ومكان الحدث وزمانه…الخ . إن بداية القصة القصيرة عند تشيخوف صغيرة ومختصرة ومركزة ، تذَكر بدفتر ملاحظات ليس إلا : ( مستشفى. صباحا. المضمد يستقبل المرضى، لان الطبيب ذهب للصيد) أو: ( الساعة الثانية عشرة ليلا. دخل ميتيا كولداروف إلى شقة أبويه راكضا…) وهكذا بعد جملة أو جملتين يبدأ الحدث. ولكن أي حدث ؟ انه بسيط ، بسيط لدرجة غريبة ، بسيط لدرجة لا يستطيع الناقد حتى إن يلخصه أو يتحدث عنه خارج إطار القصة. في قصة عنوانها (نسى) ، مثلا ، يدور الحديث عن شخص دخل مخزن النوتات الموسيقية ، ولكنه نسي تسمية النوتة التي يريد أن يشتريها ، وبعد أن يأس من التذكر ، خرج من المخزن خائبا ، وفي الشارع تذكَر اللحن ، فرجع راكضا إلى المخزن واشترى النوتة المطلوبة ، وهذا هو كل شئ . وفي قصة (المنتقم) يدور الحديث عن زوج يريد شراء مسدس كي يقتل زوجته وعشيقها ، وفي أثناء عرض البائع لأنواع من المسدسات المختلفة ، يغيَر الزوج خططه ، فمرة يقرر قتل العشيق ، ومرة يقرر قتل الزوجة ، ومرة الانتحار ، ولكنه في النهاية يقرر عدم قتل أي شخص ، ويرفض شراء المسدس ، وتنتهي القصة . وهكذا نرى ، أن الحديث في هاتين القصتين لايمكن أن يثير القارئ الذي لم يطلع على أجواء تشيخوف الأدبية ، إذ انه لايفهم أين تكمن الجمالية في هذه القصص . ومع ذلك ، فان هاتين القصتين لازالتا لحد ألان- مع معظم القصص الأخرى بالطبع- من أحب النتاجات الأدبية لقلوب القراء ، في روسيا ، أو في خارجها .
لقد كتب تشيخوف مئات القصص القصيرة ، وشملت مواضيعها كل شئ تقريبا ، لدرجة أن احد النقاد قال عنها ، بأننا نستطيع إعادة روسيا- في حالة اختفائها من الوجود- على أساس قصص تشيخوف . وعلى الرغم من هذه السعة ، فإننا لانجد في تلك القصص أشياء غير اعتيادية أو غير طبيعية ، أو أحداثا تتناقض مع الوتيرة اليومية للحياة الإنسانية ، ولعل البساطة- وهي صفة استمرت عند تشيخوف طوال حياته الفنية- هي ابرز صفات هذه القصص . وقد كتب كوبرين في ذكرياته ، كيف أن تشيخوف كان يؤكد له دائما مايأتي : (لماذا يكتبون هذا ؟ ….شخص ما يسافر إلى القطب الشمالي ليبحث عن تعاطف ما مع الناس ، وعندما تسمع حبيبته ، ترمي بنفسها وتنتحر …. ان كل هذا كذب ، ولا يحدث في الواقع . يجب الكتابة ببساطة ، كيف أن بيوتر سيمونوفتش تزوج ماري ايفانوفنا ، وهذا كل شئ.) وقد طالب احد النقاد أن يؤخذ القلم من أيدي تشيخوف ، وإلا فانه سيوصل الأدب إلى أن فلان تزوج فلانة وتزوجا ، وعاشا بشقاء . وضحك تشيخوف عندما قرأ ذلك وقال : ( ولكن ، ما العمل ، إذا كان هذا هو الواقع فعلا ؟) وأكد ناقد آخر أن تشيخوف يقف على حافة الفن ، وان خطوة واحدة صغيرة ويصبح فن تشيخوف لا فنا . ولكن تشيخوف استمر يسير ، وبجرأة نادرة ، على هذه الحافة وهو يسخر من نقاده واستطاع ألان فعلا أن يقودهم إلى مواقف لايحسدون عليها . إن الحديث عن بساطة تشيخوف حديث طويل ، ولايمكن لهذه الملاحظات السريعة أن ترسم صورة متكاملة لها ، ولكني سأحاول اختتام هذه الملاحظات بمثال من قصة تشيخوف الساخرة الموسومة (البدين والنحيف) والتي تعتبر مثالا نموذجيا لفن تشيخوف القصصي شكلا ومضمونا ، وقد نشرها عام 1883 ، عندما كان عمره 23 سنة ، وهي تتحدث عن لقاء عابر في إحدى محطات القطار بين بدين(خرج لتوه من مطعم المحطة) ونحيف(خرج لتوه من القطار) ، ويتذكر الواحد الأخر ، إذ أنهما كانا يدرسان سوية في المدرسة . ويصف تشيخوف بسرعة ومن خلال حوار معبَر حرارة هذا اللقاء وبساطته وصدقه . ويبدأ النحيف بتقديم زوجته وابنه ، ويذكر للبدين انه موظف صغير ، وانه منقول إلى الدائرة الفلانية ، التي يقال إن رئيسها حيوان ، وهنا ينتفض البدين (مثل الديك الرومي) ويقول بلهجة آمرة :(هذا إذن أنت الموظف المنقول إلى دائرتي . لماذا تأخرت بهذا الشكل في الالتحاق بالعمل؟) ويبدأ النحيف بعد هذه المفاجأة باللف والدوران ، وتختفي الكلمات البسيطة عن ذكريات الطفولة والصداقة ، وتحل محلها جمل طويلة عريضة مليئة بالاعتذارات (لصاحب الفخامة) وفي إطار هذا الموقف المحرج ، لايدري النحيف كيفية التصرف ، فيقدم زوجته وابنه مرة أخرى بلهجة رنانة ، وبصورة مضحكة للقارئ ، إذ لايستطيع النحيف من كثرة الجمل الاعتراضية أن ينهي الجملة ، ويتركها هكذا وينتقل إلى جملة أخرى ، وهكذا ينتهي اللقاء- والقصة بالتالي- بوداع فاتر بين أصدقاء الطفولة . ولكن تشيخوف بعد ثلاث سنوات من نشر هذه القصة ، وعندما كان في مرحلة إعداد مجموعته القصصية الثانية ، أبدل هذا الافتعال الواضح في لقاء الموظف المنقول لرئيس دائرته بالذات ، وجعل اللقاء يتم ببساطه بين النحيف الذي أبقى على خواصه تلك مع حذف الجملة عن رئيسه الجديد ، وبين البدين الذي جعله موظفا كبيرا وحسب ، بدون أي علاقة بدائرة النحيف . ومع هذا ، فعندما يسمع النحيف بوظيفة البدين(يتحجر) ، ويبدأ الحديث رأسا بتلك الكلمات الرنانة مع (صاحب الفخامة) بعد بساطة وصدق الحديث أول اللقاء ، على الرغم من أن البدين يعلن عدم رضاه ويذكَره بأنهم أصدقاء الطفولة ، لكن النحيف يرفض ذلك ويستمر بحديثه المفتعل ويعيد تشيخوف نفس نهاية القصة . إن نموذجية هذه القصة تأتي بالذات من هذا التعديل الذي ادخله الكاتب ، والذي حذف فيه لقاء الموظف الجديد برئيس دائرته ، جاعلا الأحداث تسير بشكل طبيعي وقد عكس هذا التعديل كل متطلبات تشيخوف تجاه القصة القصيرة وطريقة بنائها ، والتي يمكن تلخيصها بما يلي :
بداية مركَزة ومختصرة ، ثم تطوَر لحدث بسيط دون افتعال ، أما خواص الأبطال فإنها تتبين للقارئ عبر أحاديث هؤلاء الأبطال وتصرفاتهم دون تدخل من جانب الكاتب ، عدا إيماءات صغيرة هنا وهناك ، يعطيها القاص في وقت ملائم ومحسوب ، ثم نهاية لا تتعارض مع تطور الحدث البسيط ولا تشكل خرقا لما يحدث أو يمكن أن يحدث في مثل هذه الأحوال، على الرغم من عدم توقع القارئ لها في كثير من الأحيان.
إن قصص تشيخوف القصيرة ، التي ابتدأ بها حياته الأدبية تعتبر جزءا هاما في مجمل إبداعه ، وقد كان الكاتب الروسي الكبير ايفان بونين /أول أديب روسي حائز على جائزة نوبل للآداب /محقا عندما قال , بأنه حتى لو أن تشيخوف لم يكتب شيئا عدا قصصه الأولى تلك , فأنه سيكون باستطاعتنا أن نقول : إن عبقرية مدهشة أضاءت في سماء الأدب الروسي , وانطفأت قبل أوانها.