22 نوفمبر، 2024 5:37 م
Search
Close this search box.

حول بيلينسكي ورسالته الى غوغول

حول بيلينسكي ورسالته الى غوغول

فيساريون غريغوريفتش بيلينسكي ( 1810– 1848 ) – ناقد ادبي روسي مشهور جدا وعلم من اعلام الفكر الروسي في القرن التاسع عشر , وقد تناول الباحثون العرب افكاره ومواقفه ونشاطاته في مجال تاريخ الادب الروسي والنقد الادبي في العديد من مقالاتهم وبحوثهم واطاريحهم و اصداراتهم , ومنهم الباحثون العراقيون طبعا , اذ كتب الدكتور جميل نصيف التكريتي اطروحته في كلية الاداببجامعة موسكو عنه في ستينيات القرن العشرين , وكتب الاستاذ الدكتور جليل كمال الدين عنه ايضا ضمن اطروحته عن النقد الادبي الروسي الثوري – الديمقراطي في نفس الجامعة  , وأصدرت المرحومة الاستاذة الدكتورة حياة شرارة كتابا عنه ضمن سلسلة اعلام الفكر العالمي في بيروت والذي أصدرت دار المدى للنشر طبعته الثانية في بغداد قبل فترة قصيرة , وقد انطلقالباحثون العرب جميعا في كتاباتهم من الموقف الفكري السوفيتي بشكل عام تجاه بيلينسكي , وهو موقف المؤيد المطلق بشكل كامل وتام لكل ما جاء في طروحاته حول الادباء الروس والاتجاهات والمفاهيم الادبية عموما في تاريخ الادب الروسي ودور الادب واهميته في مسيرة المجتمع …, وهذا ما حدث معنا ايضا– نحن الطلبة العرب في الدراسات الاولية آنذاك –في كلية الآداب بجامعة موسكو , اذ كانت كل الكتب والمصادر المنهجية حول الادب الروسي تشيد به وبمواقفه التقدمية الرائدة وافكاره الصحيحة والثاقبة في مجال تاريخ الادب الروسي وحركة النقد الادبي , وكنا نستمع الى محاضرات اساتذتنا الروس السوفيت وهي تستشهد باقواله وملاحظاته واستنتاجاته حول ابداع بوشكين وليرمنتوف وغوغول وبقية الادباء الروس الذين كتب عنهم في مقالاته وابحاثه وكتبه الكثيرة , وكان هناك قول شائع بين الطلبة آنذاك نوصي به بعضنا البعض ( خصوصا قبل الامتحانات )يشير الى اننا – نحن الطلبة – يمكن ان نقول ونضيف ونستشهد في اثناء الامتحانات الشفهية وتعزيزا لاجاباتنا , ان بيلينسكي اشار الى هذا الاديب او ذاك في طروحاته الفكرية الصائبة والدقيقة  دون ان نخشى الوقوعبالخطأ , لأن هذا الناقد ( اي بيلينسكي ) قد كتب فعلا عن كل شئ تقريبا في تاريخ الادب الروسي منذ بداياته في القرن الثامن عشرواثناء مسيرته في النصف الاول من القرن التاسع عشر والى حين رحيله عام 1848…, الا ان الامر قد اختلف تماما بالنسبة لي عندما انتقلت من الاتحاد السوفيتي بعد انهاء دراستي هناك الى فرنسا عام 1966 لمتابعة دراسة الادب الروسي في قسم الدراسات العليابجامعة باريس , فقد تراجع اسم بيلينسكي كليا , ولم يعد– كما كان –المعلم الرائد و الناقد الادبي الاول الذي يشار اليه بالبنان في تاريخ الادب الروسي , بل وجدتبعض الاحيان حتى انتقادات لاذعة وحادة لطروحاته , فقد اسماه– مثلا –  احد الاساتذة الروس المهاجرين الكبار في احدى محاضراته عن ليرمنتوفب ( الطالب الفاشل ) والذي لم يفهم حتى اهمية ودور بوشكين وليرمنتوف وغوغولفي مسيرة الادب الروسي,  بل والذي كان يبحث دائما عن شخص يترجم له بعض المقالات الاجنبية او في الاقل مقاطع منها الى اللغة الروسية كي يستخدمها في كتاباته النقدية لانه لم يستطع ان يتعلم لغة اجنبية تساعده للاطلاع على ما يجري في الفكر العالمي والنقد الادبي خارج روسيا , وقد أثارني هذا الموقف من بيلينسكي بالطبع , وأجبرني ان أتأمل و ادرس الموضوع من جديد كي استطيع ان احدد – بشكل او بآخر – موقفي الشخصي بالذات تجاه موقع بيلينسكي في تاريخ الادب والفكر الروسي , اذ اني لم استطع ان استوعب كل ما رأيته وسمعته في فرنسا تجاهه مقارنة بما درسته عنه في روسيا السوفيتية , بل اني رفضت الاعتراف بهذه المواقف واعتبرت ذلك ردود فعل سياسية بحتة ومتزمتة وضيقة الافق  ليس الا تجاهه , وهكذا– ونتيجة لذلك –قررت ان ابدأ بدراسة قصة رسالة بيلينسكي الى غوغول مرة اخرى , اذ انها كانت آخر نشاطات بيلينسكي الفكرية واقعيا , وربما يمكن القول انها كانت خلاصة افكاره او وصيته الاخيرة في تاريخ النقدالادبي الروسي كما أشار الى ذلك ألعديد من الباحثين الروس, و لهذا فانهيمكن لهذه الرسالة ودراستها وتحليلها ان تساعدني بشكل عامبشأن توضيح الموقف الفكري تجاهه . لم أقرأ نص تلك الرسالة اثناء دراستي الجامعية الاولية في الاتحاد السوفيتي , بل اكتفيت آنذاك – مثل حال كل الطلبة الآخرين طبعا من روس واجانب– بما سمعته من اساتذتي  في محاضراتهم وما قرأته في الكتب المنهجيةعن غوغول وازمته الروحية وحرقه للجزء الثاني من روايته الشهيرة – ( الارواح الميتة ) وعن اصداره قبل ذلك لكتابه ( السئ الصيت !! )– ( مختارات من مراسلات مع الاصدقاء )( الترجمة الحرفية لعنوان هذا الكتاب هو – أماكن مختارة من مراسلات مع الاصدقاء ) والذي أثار بيلينسكي وغضبه وسخطه على غوغول وبالتالي ان يكتب له رسالته المشهورة تلك, والتي ندد بها بالموقف الفكري ( الرجعي ! ) لغوغول …الخ تلك الاستنتاجات , وكيف ان بيلينسكي كان على حق وان غوغول كان على باطل وانه كان مخطئا كليا في موقفه الفكري , وان تلك المعلومات العامة -بشكل او بآخر- كانت تكفي لاداء الامتحانات الطلابية آنذاك( والسلام !!), ولكني اكتشفتفي جامعة باريس , عندما بدأت بقراءة نص رسالة بيلينسكي الى غوغول من جديد , ان هناك اوليات لهذه الرسالة, ابتدأت في 20 حزيران / يونيو من عام 1847 وانتهت في 10 آب / اغسطس من نفس العام , وان الرسالة التي يدور حولها الكلام هي ما كتبه بيلينسكي بتاريخ 15 تموز / يوليو من عام 1847 جوابا على رسالة غوغول  بتاريخ 20 حزيران / يونيو من ذلك العام , و كان هذا يقتضي بالطبع الاطلاع على كل هذه الاوليات بلا شك , وتبين لي نتيجة تلك القراءة , ان بيلينسكي كتب تعليقا حول كتاب غوغول ( مختارات من مراسلات مع الاصدقاء ) ونشره في مجلة ( سوفريمينك) ( المعاصر ) العدد 2 عام 1847 من ص 103 الى ص 124  , وقد كان هذا التعليق حادا وشديد اللهجة جدا جدا , هاجم فيه غوغول هجوما عنيفا لاصداره كتابه المذكور , ولم يرغب غوغول ان يجيبه علانية وفي نفس المجلة او في اي مجلة روسية اخرى ( وكان غوغول يستطيع ان ينشر في اي مجلة روسية باعتباره اديبا مشهورا ومعروفا جدا آنذاك في روسيا ), لهذا كتب له رسالة بتاريخ 20 حزيران / يونيو 1847 , ذكر فيها انه قرأ بحزن وأسى تلك المقالة والتي رأى فيها ان بيلينسكي قد أساء اليه علنا وامام الجميع  وانه كان  غاضبا جدا, وانتقد في رسالته تلك بيلينسكي لانه اعتبر النقاد الذين كتبوا حوله غير محقين كليا , رغم انهم – كما يرى غوغول – انطلقوا من مفاهيم عميقة في الفن , ويختتم غوغول رسالته الى بيلينسكي بتذكيره انه يسخر منه وان هذا الموقف مؤلم له شخصيا وبشدة , وهكذا كتب بيلينسكي رسالته الجوابية الى غوغول , وهي الرسالة المشهورة في  تاريخ الفكر الروسي , والتي أشاد بها السياسيون  المؤيدون للنزعة الغربية في روسيا كافة طوال القرن التاسع عشر, بما فيهم لينين في نهاية ذلك القرن ,( واستمرت هذه الاشادة في العصر السوفيتي كله , وانعكس هذا الموقف سلبيا بالطبع في اوساط المثقفين الروس الذين لم يتقبلوا ثورة اكتوبر 1917وهاجروا من روسيا ).لقد وجد السياسيون والمثقفون الروس من ذويالنزعة الغربية فيها– قبل كل شئ – برنامجا سياسيامحددا و مضادا للنظام السياسي والاجتماعي لروسيا القيصرية, وفي هذه النقطة بالذات تتبلور و تكمن اهمية هذه الوثيقة البارزة في تاريخ الادب والفكر الروسي , والتي أدٌت الى شهرتها الواسعة , اي في تأكيدها على الاهمية السياسية والاجتماعية للفنون  ودورها في هذا المجال ( بما فيها الاداب طبعا ) , وفي هذه النقطة بالذات ايضا يكمن الخلاف الجوهري والحاد جدا , بل والتناقض الكبير بين مفاهيم غوغول وبيلينسكي , اي بين غوغول الكاتب الابداعي وبيلينسكي الناقد الذي يبحث عن السياسة قبل كل شئ في ثنايا الادب الابداعي , وفي هذه النقطة بالذات ايضا وايضا يكمن التباين والتنافر في المعادلة الكبيرة والخالدة حول علاقة الفنان بالناقد , وهي التي يمكن تلخيصها بما يأتي – هل الفنان نفسه يمتلك حق تفسير اهداف فنه وابداعه ام ان الناقد  هو الذي يمتلك حق التفسير هذا بغض النظر عن موقف الفنان وافكاره ؟ و بشكل عام من هو الاعلى والاهم في عملية الابداع الفني – الفنان الذي يبدع ام الناقد الذي يفسرمن وجهة نظره اهداف هذا الابداع ؟ , والجواب بالطبع , ان الفنان هو الاعلى والاهم في العملية الابداعية من الناقد . ومجمل هذا الكلام  (والتساؤلات و النقاشات و الاستنتاجات المختلفة حوله ) هو الذي يوضح  المسألة التي أشرنا اليها في سياق هذه المقالةحول افكار بيلينسكي واهميتها والموقف المتباين جدا منها هنا وهناك .
بيلينسكي وغوغول او غوغول وبيلينسكي – موضوع كبير ومهم وحيوي جدا ولا زال مطروحا لحد الآن في تاريخ الادب الروسي ومسيرته و تاريخ الادب العالمي ومسيرته ايضا .

أحدث المقالات