23 ديسمبر، 2024 1:45 م

حول المكان وهويته (بغداد والنجف)

حول المكان وهويته (بغداد والنجف)

ينتظر العراقيون – ولله الحمد – أيّ مناسبة ليمارسوا هوايتهم بالصراخ، وربما أكون أحدهم !. خلال الايام الثلاثة الماضية، إنشغل العراقيين بتصريح نُسب الى محافظ النجف لؤي الياسري يتعرّض فيه لـ (بنات بغداد)!. وبما أني آخر من يعطي المصداقية لمنشورات الفيس بوك ، التي كثيرا ما تعتمد على (نقلا عن فلان ، أو قال علان) فاني لم أصدق ولم أعلق على ذلك التصريح، حتى جاء التصريح على صفحة أحد الإعلاميين ممن أثق بهم، مع شريط فيديو يؤكد براءة الياسري من تجنيه على (بنات بغداد) !، رغم يقيني من أن المحافظ الياسري قد يتفوه بتصريحات أشنع من هذه بعيدا عن الكاميرات !.

ما سأكتبه هنا ليس ردا على سؤال (هل قال الياسري ما نسب إليه أو لم يقله)، فالرجل في الحالتين مدان بقدر تعلق الأمر بموقفنا منه ومن كتلته، وكذا الأمر بالنسبة للمحافظ الذي سبقه ـ الزرفي – وكتلته، كلهم (بزنبيل واحد)!.

ما أريد التطرق له هنا هو الهجمة التي تلت نشر الفيديو من قبل بعض الصحفيين المحترمين، والردود والتعليقات التي تلقوها على صفحات الفيس بوك، او من قبل زملائهم الصحفيين.

أولا: الأمكنة ليست أرض وشوارع ومبانٍ وحسب، الامكنة لها جانب معنوي كجانبها المادي، ولها صيرورة تاريخية تشكلّـت وشكّلت معها قيما وتقاليد وأفكار وميول وينابيع معرفية، وكل هذه تؤسس مجتمعةً لنظام اجتماعي خاصٍ بها، والأمكنة بالتالي لها جانب (روحي) ستبدو قبيحة من دونه.

ثانيا: ما هي المدنية؟ وما هي معالمها؟ وهل هناك قوالب جاهزة تصبُّ بها مجتمعاتنا لتخرج متمدنة جميلة السمت؟ نشرت أكثر من مرة ملاحظة قيمة للدكتور جورج قرم عن طبيعة المدنية، ومنابعها التاريخية، وما قرأته من تعليقات وردود أفعال حول التصريح الذي نسب لمحافظ النجف تبيّن بشكل كبير ان هناك جهات تريد تجاهل اختلاف الطبائع والطباع والانثروبولجيا الخاصة بكل مجتمع، ببساطة يريدون من مجتمعات مختلفة ان تلبس ثوبا واحدا، وتتطور بطريقة واحدة رغم كل الاختلافات البيئية والبنيوية بينها. ثالثا: أكثر ما يضحكني ويغيظني بذات الوقت هو تلك التعليقات الموزعة على صفحات التواصل الاجتماعي من قبل البعض ممنٍ لم يزروا النجف بحياتهم، وربما لا يستطيعون ان يحددوا موقعها على الخارطة، ثم يأتون ليتحدثوا عن طبيعتها الاجتماعية اليوم.

إحدى السيدات المعلقات على منشور الصحفي زياد العجيلي رمتْ الناس هنا بشيوع زواج المتعة، ولو كان الأمر كما تفضلت الأخت لما رأينا هذا الخبل الجمعي نتيجة العوز! رابعا: النجف، هي المدينة الوحيدة في الجنوب منذ 2003 وحتى اليوم التي لديها محلية قوية للحزب الشيوعي، والوحيدة التي تصدر مجلة هي الشرارة، ولديها دار نشر قوية، ومهرجانات دورية عامرة، ومقر للحزب يبعد أمتارا قليلة عن بيت السيد الخوئي في حي السعد!.

أما اتحاد الأدباء في النجف فهو قلعة للمدنية والعلمانية، وحينما حاول صدر الدين القبانجي في ذروة سيطرة المجلس الأعلى على النجف ان يسلب الاتحاد مقرهم فـ (شرشحوه)، وتركهم مذعورا.

النجف قد تكون المدينة الوحيدة في الجنوب التي لا تزال محال الفرق الموسيقية فيها نشطة، ولم تتوقف إلا أيام سيطرة التيار الصدري على النجف، والمدينة الوحيدة التي تتسم بطابع ديني شديد، ورغم ذلك ستجد في سوق الحويش – وهو سوق كتبها – كل ما يخطر على بالك من كتب، من مؤلفات أساطين فقهاء الاسلام سنة وشيعة، إلى كتب احمد القبانجي، وسيد القمني، ومحمود كسروي، وحتى (الكتاب المقدس للنبي دوكنز).

كل ما سبق ذكره لم يكن وليد مرحلة الزرفي (المحافظ السابق)، لأن الزرفي ببساطة عاجز عن خلق مناخ مدني، ففاقد المعرفة لا يصنعها، المدنية في النجف هي نتاج الجدل الفلسفي الذي لم يغادرها يوما، وللنجف مدنية خاصة بها، ناتجة عن تجربتها الخاصة، ولا أتوقع ان يتفهم هذا الأمر إلا دارسي الاجتماع السياسي والتاريخ وعلم الاجتماع. خامسا: ما فشل به الأحمق الجديد لؤي الياسري بحديثه حول النجف وما كان يفعله الزرفي ، هو أمر متوقع من شخص بمستواه المعرفي المتواضع، فالحقيقة ان عيد الحب لم يكن الأخطر من بين ما شجع الزرفي عليه شباب النجف كما حاول ابن دولة قانون نوري المالكي ان يقوله، لأن عدد من احتفل بـ”الفلنتاين” في شارع الجواهري ـ المعروف بشارع الروان ـ لم يتعدَ العشرات، لكن ما لم يجرؤ الياسري على ذكره هي النشاطات الأخرى التي كان يقيمها الزرفي، منها مثلا التجمعات (لشباب وشابات حركة الوفاء للنجف) في إحدى مزارع الكوفة، ولم يتحدث عن حادثته الشهيرة وصدامه مع وزير التعليم العالي السابق علي الأديب على أثر إخراج حمايته لمجموعة من طالبات الأقسام الداخلية في جامعة الكوفة لحضور حفلة، الأمر الذي سبب أمر الأديب بتغيير مساعدي رئيس الجامعة، وإصداره أمر واضح ومحدد للزرفي وقتها (اذا دخلت للجامعة مرة ثانية اكسر ظهرك) ولا أريد ان استرسل في سرد الكثير من المخازي، التي لن يتحدث عنها الياسري، لأنه كان وكتلته شاهد زور عليها. سادسا: الردود التي تلت التصريح المنسوب للياسري، استخدمت ذات الأسلوب الذي

تنتقده في الياسري، وهو التعميم، والهجوم على بنات النجف، ورميهن بالانحطاط والفصام ، والشيزوفرينيا كما علقت إحدى (المناضلات) على منشور العجيلي ـ ويوضح هذا ان آرائهم ما هي إلا انعكاس لهم في مرآة الإقصائية التي هي مرادف للتخلف مهما غلّفوا أنفسهم بادعاءات المدنية.

المدنية ليست قالبا محددا يجب ان تصب فيه المجتمعات، وليست (ستايل) يجب ان يندمج الجميع ضمنه، المدنية معرفة، حريات شخصية وحريات عامة، المدنية هي ابنة القانون، والقانون هو الحدود، والقانون هو انعكاس لتجارب الأمم، وتجارب الأمم تختلف من مكان إلى آخر. ولا يفوتني هنا من توجيه العتب الشديد على شخص احترمه كثيرا، مثل الاستاذ مشرق عباس، المدني المحترم والمثقف الواعي كيف كتب معترضا على زملاءه الذين ناقشوا مصداقية الخبر، ثم استطرد ليؤكد وقوفه مع مدنيي النجف في المطالبة بحقوقهم، وهو أمر لا أفهمه حقا، لأني لم أسمع من المدنيين الكبار في النجف ذوي التجربة شكوى من حصار على أفكارهم أو متبنياتهم الفكرية.

هناك أصوات أخرى لبعض من أبناء جيلي من المثقفين يدفعها الحماس في الحديث أكثر مما يدفعها فهم التجربة الاجتماعية وطبيعة المكان، وهو أمر أتفهمه من شاعر لم يشتغل بالدراسات الاجتماعية والتاريخية ويتخذ من عاطفته معيارا للقياس، لكنه ليس موقفا سليما يصح ان يكون معيارا للتعامل مع حالة اجتماعية، ورغم ان الاستاذ مشرق أوضح ضرورة ان ننتج خطابنا المدني الخاص، لكنه للأسف بذات الوقت انطلق من مرتكز مظهر معين للمدنية بدا وكأنه المظهر الوحيد، وكأن المدنية نقيض للدين، مما يعزز خطاب الأحزاب الإسلامية ضد المدنية والمدنيين، فقد كتب أ. مشرق:

(المدنية ليست ضد الدين لكنها ضد استخدام الدين لفرض نمط حياة على أي مجتمع عراقي .)

بذات الطريقة أقول له ان المدنية أيضا ضد استخدامها لفرض نمط معين من تفسيراتها على أي مجتمع عراقي، المدنية ليست ضد الدين لكنها ضد استخدام شعار المدنية نفسه لفرض نمط حياة على اي مجتمع عراقي . سابعا: زبدة القول وملخصه، ان تجاهل تاريخ المكان ومفرداته، ومحاولة إلباسه ثوبا جديدا بمعزل عن التطور التدريجي للقيم هو أمر بالغ التسطيح، ولا يُصلح مجتمع، ولا يقيم دولة، وعلى سبيل المثال وبعبارة مبسطة جدا فإن الدعوة إلى فتح بارات في النجف هي بالضبط مثل الدعوة إلى تنظيم مواكب العزاء في شارع أبي نؤاس، دعوة حمقاء تماما ولا تصدر عن شخص فهم التاريخ والتطورات الاجتماعية. أنا مع التطور التدريجي، مع ان يترك المجتمع بمفرده ليطوّر قيمه، وإذا أجيز

للسلطة ان تتدخل فذاك لحماية حركة التطور وحسب.، لا أن تكون القيّمة عليها، خصوصا إذا كان ممثلوها ـ أي السلطة ـ هم عدنان الزرفي أو لؤي الياسري!.

ونقولها بصراحة : مثلما عدنان الزرفي غير قادر على صنع مدنية، فإن لؤي الياسري غير قادر على إقامة مجتمع فاضل بحسب ما يدعيه، لأن الاثنين لصوص، واللصوص لا يصنعون قيما إيجابية، ولا يجيدون بناء مجتمع متماسك، ولأن الاثنين جهلة، يمثلان انعكاس للجهل والتخلف، وتنصيبهما محافظين للنجف – بكل تاريخها الفلسفي والمدني – هو من فضائح التاريخ التي لا تغتفر. ان الدعوة إلى جعل بغداد مقيدة بالحدود الدينية المتشددة هي دعوة حمقاء بقدر مساوي الدعوة إلى تجريد النجف من كونها مدينة دينية، لأن هذه العملية تمثل تجاهلا تاما لتاريخ المكان، وهويته وتطوره، لا بغداد تصلح لأن تكون كما يريد لها عتاة المتدينين المتطرفين، ولا النجف تصلح لأن تكون كما يريد لها عتاة العلمانيين المتطرفين، المدنية لا تكمن بالمظاهر، المدنية سلوك معرفي، تعايش وتقبل للآخر، وما بين أقصى الطرف الأول وأقصى الطرف الثاني مسافة كبيرة، هي التي يجب ان نكون ضمنها، ينظمها القانون، بضمانه لحرية كل فرد في حده الفردي، وليس أمزجتنا أو الفهم الخاص لكل فرد للمدنية، لأن هذه الطريقة ستكون مجرد فوضى، وانعكاس مكافئ لداعش وعدم قدرتها على قبول الآخرين. واختم سطوري بواقعة من تجربتي الخاصة، فحينما تم قبولي في كلية العلوم السياسية بجامعة النهرين سنة (2005 – 2006) قال لي أبي نصيحة واحدة، على غير عادته طيلة حياته، وأبي رجل تقليدي بمعيار (المثقفين) :

(شوف يا إبني، انت رايح لبغداد، راح اكلك شي مهم، العفة مالها دخل بالعباية والربطة، ولا بالسفور، العفة حاجة بالروح، بالتصرفات، والحجاب ماله علاقة بذلك) أبي لم يغادر العراق، ولم يغادر النجف إلا إلى الجيش، مرورا ببغداد، أبي نجفي، وهذه هي النجف.