23 ديسمبر، 2024 3:36 ص

حول القصة القصيرة جدا

حول القصة القصيرة جدا

روبرت شابرد
ترجمة / عامر هشام الصفّار
في عددها الصادر في (World literature today)  نشرت مجلة الأدب العالمي اليوم الأميركية أو شهر أيلول أو سبتمبر الماضي مقالة للكاتب روبرت شابرد حول القصة القصيرة جدا المعنى وأعادة الأكتشاف. والكاتب شابرد هو محرر المجموعة الكاملة العالمية للقصة القصيرة جدا مع الكاتبيْن جيمس توماس وكريستوفر ميرل. وهو يعيش ويكتب في أوستن بتكساس الأميركية وله كتاب جديد حول القصة القصيرة جدا في أميركا اللاتينية.
يتساءل روبرت شابرد: هل القصة القصيرة جدا هي أكتشاف جديد أم انها تجديد في جنس أدبي قديم؟، وهل يمكن تعريف القصة القصيرة جدا حسب طولها وعدد كلماتها وما يحتاجه السرد ليكون قصة؟.
للقصة القصيرة جدا أسماء متعددة مما يعتمد على طول القصة نفسها وعلى البلد الذي ينتمي له الكاتب. ففي أميركا مثلا نسميها القصة-الومضة، أما في أميركا الللاتينية فهي القصة-المايكرو. وكمعدل فأن هذه القصة هي أقصر عشر مرات تقريبا من القصة القصيرة التقليدية المتعارف عليها، ولكن العدد أو الأرقام قد لا تحكي هنا كل الحكاية.
ولكنني على كل حال أفضّل الأستعارات التشبيهية كما هو الحال عند الكاتبة لويزا فالنيزولا التي تقول: عادة ما أشبّه الرواية بالحيوانات الثديية الضخمة، متوحشة كنمر أو مدجّنة كبقرة. أما القصة القصيرة فهي عندي تشبه الطير أو السمكة ولكنها القصة القصيرة جدا هي التي تشبه البعوضة (ذات الألوان القزحية في أحسن أحوالها).
ولا يخفى فأن شعبية هذا البعوض او هذه الحشرات الوامضة في حالة أزدياد ونمو مضطرد عالميا وخاصة منذ سنوات الثمانينيات. ففي أميركا على سبيل المثال بيع ملايين النسخ من مجاميع القصة القصيرة جدا وبشكل ملحوظ ولو أنه لم يرق الى مستوى مبيعات المؤلف المعروف جون كريشام. ولابد من ان أذكر أن ممثلي التلفزيون والسينما يردّدون القصص القصيرة جدا ويقرأونها لمشاهديهم متعة وفنا أضافة الى أذاعتها في برنامج خاص لعامة الناس بأسم مختارات قصيرة. وكما أن لهذا النوع من القص مؤتمراته العالمية ومهرجانته، ومن ذلك ما شهدته سويسرا واسبانيا والأرجنتين وبلدان أخرى في العالم. وفي بريطانيا مثلا أعلنت جريدة الكارديان مؤخرا عن يوم وطني للقصة الومضة وكذلك الحال في نيوزيلندا.
ولكن يبقى السؤال المهم الذي يردّده الكثيرون هو لماذا أصبح  لهذه القصص-الومضات او النانو القصار شهية بين القرّاء؟ وما هي بالضبط هذه القصص؟ هل هي القصص البدعة بسبب أنتشار الشبكة العنكبوتية أو الأنترنت؟ أم أنها قصص قصيرة جدا بسبب أن تقنيات التويتر أو (التغريدة) والتلفزيون قد حجّما من مدة أنتباه المشاهد أو القارئ المستخدم للتقنية؟. ولابد لي من أن استشهد بالكاتب الروائي الأيرلندي المعروف جوليان كوف والذي يعيش في ألمانيا حيث يعتقد أن كل ذلك يعتبر مفيدا حقا لمسيرة السرد في العالم. لقد نشر جوليان كوف قصة قصيرة جدا في عام 2010 في كتاب تحت عنوان أحسن القصص الأوربية ولاحظ أن جيله وهو من الشباب (ولد عام 1966) والجيل الأصغر سنا يستعملون المعلومات كما يستقبلونها بقصرها وتعدد مصادرها وأهتماماتها. وهي المعلومات الآتية من الشبكة الأنترنت أو من قنوات تلفزيونية متعددة حيث يقرأون كل ذلك في  وقت يستمعون فيه لموسيقاهم المفضلّة من جهاز الأي بود. وهذا بالتأكيد قد غيّر طريقة القراءة للقصة عند الأنسان المعاصر وعليه كان لابد للكاتب من التكيّف فيبدأ بالتغيير أيضا. وهذا كلّه ليس بكارثة أبدا بل أنها الفرصة الحقيقية. فنحن أحرار بما نكتب من قصص قصيرة جدا لم تكن مفهومة قبلا. ولابد من الأعتراف بأن القصة التقليدية أنما تعاني من حالة الأرهاق والتكرار مرات ومرات، فكانت أستجابة الأنترنت والتلفزيون بطريقة سريعة تختلف حتما عن استجابة الأدب السردي التقليدي. وعلى الرغم –والحديث للكاتب جوليان كوف- من أن الأعمال الومضة القصصية هي دليل الحرية لكتّابها ولكن أغلبيتنا لا زال يقرن الخيال الأدبي بالعمل الروائي فحسب. وقد يكون هذا بالذات هو السبب الذي يجعل من النقاد لا يبدون الأهتمام الواجب بالقصص الومضة او الفجأة أو القصيرة جدا.
ويبقى تذكّر التاريخ في هذا المجال مفيدا. فالكتّاب العظام بدأوا بكتابة القصص القصيرة –القصيرة قبل ان يكتبوا الرواية بزمن طويل. وتذكر كتب التاريخ الأدبي أن بترونيوس الروماني كتب القصة القصيرة –القصيرة في روما القديمة. وكذلك الحال مع ماري دي فرانس في القرون الوسطى. واذا كنا نقرّ بأن الرواية هي الغالبة في عالم الخيال الأدبي فيجب ألاّ ننسى أنه في القرن العشرين الماضي أختار كتّاب كبار كتابة القصة القصيرة جدا ومن هؤلاء بورخيس، كافكا، بوزاتي، دينيسين، كواباتا، كالفينو، كواتزار ووالسر. تقول الكاتبة جويس كارول أن الشكل الأيقاعي للقصة القصيرة جدا أنما يشبه غالبا  الأيقاع الشعري أكثر ما يشبه النثر التقليدي والذي يشير الى درامية الحدث مثيرا مشاعر القارئ. حتى اذا كان المجال صغيرا ومحددا ضيقا كانت خبرات الشخصية في الحدث هو ما يمكنه أقتراحه أو أستنتاجه فلا مجال للأسهاب أو الأطناب.
وقد تمكنت في عام 1985 مع جيمس توماس من جمع وأعداد مجموعة القصص القصيرة جدا، فأطلعت على خبرات وتجارب في مجالات أدبية عديدة وعلى مدى عقد كامل من الزمن. وكانت التجربة تلك مفاجئة حقا لي ومثيرة للتحديات. ومما لاحظته هو أستعمال البعض لواقعية السرد الروائي في قصصه القصيرة جدا ولو على مستوى يختلف اختلافا جذريا مما تكون عليه الرواية. في حين راح البعض الآخر من الكتّاب يكتبون قصة القصة أو ميتافكشن كما هو الحال مع قصة الأم المضحكة للكاتب كريس بالي حيث يبدأ السارد بالقول “انها دائما تريد أن تنهي القصة بنهاية -واخيرا ستموت هي- ويا للغرابة فبعد ما يقرب من صفحة واحدة فقط تأتي النهاية مفاجئة و”أخيرا ستموت هي”.
كما قد يسرع كتّاب في قصصهم كما هو الحال مع روبرت فوكس في قصته الومضة والمعنونة “خرافة” حيث تتحدث عن شاب سعيد بيومه الأول في العمل في المدينة فقرر أن يقع في حب فتاة جميلة كانت جالسة قبالته في القطار حتى أنه تزوجها قبل أن يصل لمحطة القطار القريبة من عمله. ويبقى بعض الكتّاب يلهثون للخلف أذا صح التعبير. ففي قصة التيارات لهنا فوسكول يستعمل الكاتب جملا قصيرة للحديث عن رحلة تتعمق وتتعمق بعيدا في الماضي دون أن يكون لتقنية الأسترجاع مكانا يذكر. وهذه القصص ببنائها الأسلوبي ودلالاتها ليست الاّ تجديدا وليس أسترجاعا لأسلوبية قديمة من قرون وسطى.
وكلما توغلنا أكثر أنا وجيمس توماس في عملية جمع القصص القصيرة جدا ومن مختلف أنحاء العالم كلما لاحظنا أن صغر القصة أنما يثير السؤال حول الشروط المتوقعة للقص القصير والقصير جدا. وأذكر أن جيمس بدأ بالسؤال كم قصيرة يجب أن تكون القصة لتظّل حقيقة قصة؟.
كما لابد من الأشارة الى جهد الكاتب جيروم ستيرن في جمعه للقصص القصيرة جدا وأصدارها في كتاب القصة المايكرو والصادر في عام 1996. فمن الملاحظ أن ما جمعه جيروم من قصص لا يتعدى حجم كل قصة منها نصف القصص الأخرى القصيرة التي جمعها جيمس توماس. ومع توسّع أستعمال الأنترنت صارت القصص أكثر قصرا مما تحتاجه المجلات الصادرة على الأنترنت. وهكذا ولد أدب جديد ذي القواعد والضوابط الجديدة والأسم الجديد بالضرورة فبزغ الخيال السريع والقصة النانو والقصة-اللمحة.