12 أبريل، 2024 2:52 ص
Search
Close this search box.

حول أشكالية مصدر الأخلاق .. الإنسان أم الأديان ..؟

Facebook
Twitter
LinkedIn

دائماً ما تُطرح هذه الأشكالية بين فريقين .. فريق المتديّنين و فريق غير المتديّنين .. و بينهما فريق متنوّع من بعض المثقفين و الكتاب و الناس العاديين ، تجدهُ متأرجح بين هذا الفريق أو ذاك ..!
و يجري الجدال تحت عنوان رئيسي : ماهو مصدر الأخلاق ..؟ فريق يقول الدين مصدر الأخلاق ولولاه ( لخربت الدنيا ) و عاش المجتمع بلا ضوابط أخلاقية و بالتالي سيحّل الفساد و التعرّي و الأعتداءات الجنسية و الأغتصابات و ما ألى ذلك ..! و الفريق الآخر ينتفض و يُحاجج بقوة بأن الأخلاق وجِدت قبل الأديان ..!
سأتناول هذا الموضوع بشكل مُبسّـط بعيداً عن الطروحات الفلسفية وآراء أفلاطون أو سقراط أو أبن خلدون و ديكارت و نيتشة أو دوركهايم .. و ما شابهَهم من المفكرين الكبار ، حتى لا نُـعقّد الموضوع على القارئ الكريم ..!
—–
الملامح الأولية لفكرة ( الأخلاق ) بدأت مع الأنسان القديم قبل حوالي عشرة آلاف سنة .. لكن لأنهُ لم يكن هناك تدوين و كتابة ، وصلتنا المعلومات من أنسان قبل حوالي خمسة آلاف سنة .. أي قبل ظهور الأديان و بالخصوص الأديان الأبراهيمية ( اليهودية / المسيحية / الأسلام ) ..!
بدأ الأنسان القديم يتحسَّـس بفطرتهِ و شعورهِ الداخلي أن هناك شئ خطأ و شئ صح .. أو شئ مَحمود و شئ مَكروه .. و وصل الى قناعة يقينية أن القتل مثلاً هو شئ خطأ و مكروه .. و أن السرقة عمل خاطئ .. و أن رعاية الأبوين شئ صح و مَحمود .. أو مساعدة الآخرين شئ حَسِن و مَحمود .. و هكذا باقي السلوكيات البدائية الأخرى ..!
فبدأ يتشكّل في هذه المرحلة ( الضمير ) عند الأنسان ، وهو هنا الضمير الشخصي للفرد ، حينَ حصَلَ فرز نفسي في داخلهِ أن هذا السلوك الفلاني صحيح و مرغوب و أن ذاك العمل الفلاني مكروه و خطأ ، بالطبع دون أن يكون حينها أي عقوبات أو روادع سوى ذاتهُ الخاصة ..!
و حين خرجَ هذا الأنسان من كهوفهِ و مجالهِ المحدود بعدد الأفراد الذين يعيش معهم .. الى التفاعل مع الجماعة نتيجة الأستقرار قرب مصادر المياه كالبحيرات و الأنهار والعمل بالزراعة ، كان ( ضميرهُ ) الفردي قد وضعَ الأساس الأوّل لمنظومة الأخلاق .. و عندما بدأت علاقته بالأخر خارج نطاق العدد الضيّق الذي بدأ به ، بدأت تعاملاتهِ تتسّع نتيجة تنوّع الأنشطة المُستحدَثة من الأستقرار و الزراعة و نموّ فعالية تدجين الحيوانات و تربيتها .. و ما أحدَثـتهُ هذا الأنشطة من توفّر ( ثروة فائضة ) كان لابد أن يتصرّف بها سواء بطريقة الأقراض للأخر أو التخزين ، فبرزت في حياتهِ تعاملات جديدة كالديون و التبادل السلعي و المُقايضة و المشاركة مع الآخر في أعمال مشتركة ..ألخ أنتقلت ملامح ( ضميرهُ ) الشخصي بكل ما ترسّـبَ فيه مِن مفاهيم مبسّطة عن ( الأخلاق ) الى ما نستطيع تسميتهُ ( الضمير الجمعي ) أي للجماعة .. هذه الأرضية أسّـسَـت لمنظومة أخلاقية بسيطة تعارَفَ عليها الناس في حينها دون توثيق أو عقد أو قانون أو منظومة حلال و حرام يُحاسب بموجبها المُخطئ أو المُعتدي أو الظالم .. بل أصبحَ أَشبَـه ما يكون بالعُرف الأجتماعي الذي يستنكر و يرفض السلوك الخطأ و يستحسن السلوك الجيّد ..!
يقول العالم الأمريكي و الباحث في التاريخ (هنري بريستد ) في كتابهِ ( فجر الضمير) : وجدتُ برديّـة مصرية قديمة يعود تاريخها الى حوالي خمسة آلاف سنة مكتوب عليها نصاً : ( كنتُ أفعل ما هو ممدوح و أتـجنَّـب ماهو مكروه ..! ).. كذلك نجد في مسلّة حمورابي قبل ثلاثة آلاف و سبعمائة سنة من الأن .. أحدى المواد ألـ ( 282 ) مادة في المسلّـة تقول ما نصُّـه : ( لو رجل ضرَبَ إمرأه حامل و بسبب ضربه لها مات الجنين فى بطنها, تُـقـتل بنت الرجل اللى ضرَب .. كتخليص لنار الامرأة الحامل ..! ) .
نشأة الضمير عند الأنسان البدائي .. أدّت بدورها الى نشوء فكرة العُرف المجتمعي .. و بدورها أسّـسَـت لفكرة العدالة .. و فكرة العدالة تبلوَرت بالنتيجة الى قانون ، نتيجة الحاجة الى عملية ضبط أجتماعي لسلوكيات الأفراد و علاقـة الفرد بالفرد و الفرد بالسلطة ..!
—–
سأتناول هنا جزئيّة واحدة من حياتنا الحاليّة لكنها مهمة في الرؤية لموضوعة الأخلاق ، و أيضاً بعيداً عن التنظير الفلسفي ..! يحصل عند الكثيرين خلط في الرؤية لموضوعة الأخلاق و خصوصاً عند المتديّنين ، أذ حين تُطرَح قضية الأخلاق ينصرف ذهنهم مباشرة الى ( موضوع الجنس و التعرّي و الأباحيّة ) و كأن مفهوم الأخلاق ينحصر فقط في هذه النقطة ، وهي ليست كذلك بالطبع ..!
و من هذا الخلط أيضاً هناك مفارقـة معرفية من الضروري الأشارة لها .. أذ حين يجري النظر للبُعد الأخلاقي لمجتمع ما غير مجتمعنا ، نقوم بتقييم ذلك المجتمع وفقاً لمعاييرنا و قياساتنا الأخلاقية .. و هذا خطأ جسيم لأنهُ لا يمكنني تقييم أخلاقيات المجتمع الدانماركي مثلاً بمسطرة و معايير أخلاقيات المجتمع العراقي ..! فذاك مجتمع رسمَ لـنفسهِ منظومة أخلاقية توافق المجتمع عليها و أرتضاها الفرد الدانماركي .. و هنا منظومة أخلاقية أخرى تختلف تَعارفَ عليها المجتمع و الفرد العراقي ..!!
يمكننا تقسيم القيـَم الأخلاقـية الى نوعين أو مُستويين :
مستوى ثابت تشترك به جميع المجتمعات البشرية من الشرق الى الـغرب و من الشمال الى الجنوب .. أي هناك قيم أخلاقـية أصبحت من صُـلب صفات البشر الأسوياء و الطبيعيين ، كالصدق ، و النزاهـة ، و العدل ، و الأمانـة ، و الشهامـة ، و الـنظافـة ، و رفض الظـُلم ..ألخ أذ لا يمكن أن تجد شخصاً واحداً في العالم يقول لك : أن الصدق مثلاً قيمة أخلاقية سيّـئة أو أن صفة الأمانة صفة مذمومة ..!
هذه القيَم طـَرَحها الفكر البشري عِـبر مسيرتـهِ قبل الأديان .. ثم جاءت الأديان و منها الأسلام لـتؤكـّـد في جوهـر رسالاتـها على عددٍ منها .. و في الحقيقة لا تكاد تخلـوا منها أو بعضها أي نظرية أخلاقية أو فلسـفة أو دين …!!
مستوى مُتحرّك ، نسبي ، مُتغـيّر .. يعتمد على طبيعة المجتمعات ، و نوعـية الموروث الأجتماعي و الأعـراف و المفاهيم السائدة في كل مجتمع و طبيعة الرؤية للعلاقة بين الأفراد و بين الأفراد و السلطة ..! مثل النظرة الى المرأة ، مُفردات السلوك المجتمعي اليومي كأحترام النظام و الأنتظام في المُراجعات لدوائر الدولة ، قيَم الشرف أو مفهوم الشرف ، العلاقات الـبيـنيّة بين الأفراد كالأحترام أو الشتائم ..! القيم العشائرية ، أحترام الرأي المختلف ، و الشجاعـة في قول الحق ، أو أحترام العمل والوقت ، أو القيم الدينية السائدة .. ألخ .
هـذه القيم تختلف من مجتمع لآخـر .. وما هو مقبول منها في مجتمع ما .. تجدهُ غير مقبول أو غير موجود في مجتمع آخـر .. كذلك في المجتمع الواحد نفسهُ قد تتغيّر بمرور الزمن لتصبح مرفوضة أو مقبولة في فترة زمنية أخرى ..!
فمثلاً قـيَم الفصل العشائري و النهوة تختفي و تعود في مجتمعنا لتصبح شيئ مُعتاد .. لكـنّها مرفوضة و مُـستهجنة في مجتمعات أخـرى .. أو مفهوم الشرف في مجتمعنا الـذي يرتبط بـعـفـّـة المرأة .. أي أن الرجل و العائلـة و العشيرة يرتبط شرفهم بـعـفـّة نسائهم .. بينما في مجتمعات أخـرى لكل فرد شرفـهُ الشخصي الخاص بـه سواء رجل أم امرأة ، و الذي لا يعتمد على العفّة .. بل على مدى أقترابهِ أو بُـعدهِ عن المستوى الأوّل من القيَم الثابتة التي وردَت أعلاه .. أي أن الصدق أو النزاهة مثلاً هي معيار الشرف هناك ، بغضّ النظر عن السلوك الجنسي للفرد أو نوعية ملابس المرأة ..!

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب