حوكمة التسويق السياسي.. مبادرة العراق في شيتام هاوس نموذجا

حوكمة التسويق السياسي.. مبادرة العراق في شيتام هاوس نموذجا

في عالم تصغر مساحته في شاشة هاتف نقال، بات من المطلوب ابتكار أفضل الأساليب في التسويق السياسي ونقل الأفكار وتبادل الرؤى مع العالم المحيط بالعراق، هذه المهمة ليست سهلة في سياقات واقع العملية السياسية اليوم، والنهوض بها يتطلب روافع فعالة في التأثير والإقناع لتغيير القناعة الذهنية الأولية السلبية عن عراق ما بعد 2003. ويمكن ملاحظة أن القيام بمثل هذه العملية من خلال ندوات لمراكز البحوث والدراسات تستعير النموذج الغربي في تشكيل جماعات التأثير والضغط الإيجابي بعد جلسات حوار متعمقة بين مختصين في مختلف المجالات البحثية السياسية والاقتصادية. وهذا ما حاول العراق فعله خلال الأعوام الماضية في ندوات نوعية تنظم مع مراكز دراسات أوروبية وأمريكية، كان آخرها يوم الأول من تشرين الثاني 2025 في عقد ندوة “مبادرة العراق” للمعهد الملكي البريطاني “شيتام هاوس” والتي شارك فيها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني عبر برنامج الزوم، بما يؤكد توفر الفرص والفرضيات لمثل هذا الحوار المنتج في تسويق رؤية العراق على منصات بيوت التفكير الغربية. وخلال متابعتي لمسار الندوة في جلساتها المتعددة، يبدو من الممكن القول:
أولا: هناك فجوة ربما انتبه إليها المشاركون العراقيون، تتمثل في الحاجز بين الفهم الغربي لقصص النجاح وفق منظومة الحوكمة وأدلة العمل في الدول الغربية وحتى العربية، وبين نتاج تفاعلات مجتمعية واقتصادية نتيجة الخروج من نظام شمولي إلى نظام أوليغارشية،، يتعامل مع مصالح أحزاب المكونات وليس مع بوصلة عراق واحد وطن الجميع. وهذا حاصل نتيجة عدم استكمال البوابة الدستورية للحوكمة في استكمال القوانين مثل قانون النفط والغاز أو تأسيس مجلس الاتحاد، الغرفة التشريعية الثانية، مما يسقط كل ذلك حتى عند بعض الشخصيات العراقية التي تتعامل مع معطيات الواقع العراقي بعيون وقائع أجنبية حسب ما شهدته في دول المهجر. لذلك قصص النجاح هناك لمشاريع الشباب خاصة، أيسر بكثير من أي قصة نجاح للشباب العراقي، والسبب واضح في تلك التحديات الكبرى التي تكتنف أعمال أي مشروع ريادي جديد.
ثانيا: نموذج القرار السيادي في أي نموذج غير عراقي، يختلف كليا عما يحصل في العراق طيلة عقدين ونيف، لأن نقاط الارتكاز حتى في الجوانب البيروقراطية التي تتعامل على سبيل المثال مع الحكومة الإلكترونية تختلف عما هي في العراق، كون الفارق الواضح ما بين سلطة الدولة في الشراكة مع القطاع الخاص، وبين تطبيقات هذه الشراكة غير واضحة المعالم حتى اليوم في إدارة الاقتصاد العراقي ما بين بقايا المنهج الاشتراكي في القوانين النافذة وبين الميول نحو اقتصاد السوق الاجتماعي كنموذج يسعى العراق إليه. وفق هذا التصور، هناك اختلال بنيوي في تطبيقات الحوكمة حتى في مجال التسويق السياسي، لأنه ينقل حال أحزاب المكونات، فيما المطلوب أن ينقل تصور رؤية 2050 في عراق واحد وطن الجميع. هذه الرؤية ليست للتنمية المستدامة اقتصاديا فقط، بل تمثل الإعلان الدستوري الجديد لبناء دولة مدنية عصرية متجددة.
ثالثا: نقاط التحول نحو الرؤية العراقية الأشمل والخروج من قوقعة المكونات، تتطلب من القائم بعملية التسويق السياسي اغتنام الفرص في مثل هذه الندوات ليس لمناقشة ما هو كائن والتحديات التي يمر بها، بل ما سيكون في تلك الحلول الفضلى لحوكمة إدارة التحديات في مصفوفة حلول تطرح للنقاش، والاستفادة من الخبرة والتجربة الدولية التي يمكن أن يوظفها متخذ القرار العراقي في انتقاء الأفضل من كل تلك السيناريوهات التي تطرحها تلك الحلول. لعل أفضل مثال على ذلك ديمومة أزمات الكهرباء، والجفاف المولد لأزمات اقتصادية في الريف، وما ينعكس كليا في إدارة التربية والتعليم.
هذه المتوالية المتداخلة من التحديات في إدارة مستقبل الجغرافية البشرية للعراق حتى 2050، تتطلب دراية ومعرفة في صناعة الحلول وليس التبرم من تصاعد وتائر مواجهتها وربما تزايد الروافع السلبية التي تؤثر على نموذج الاقتصاد الريعي خاصة في اعتبارات صعود وهبوط سعر برميل النفط، مما يتطلب فهم الأطر الدبلوماسية الأفضل للحلول مع إيران وتركيا في الحصول على موارد مائية معتبرة ودائمة لسد الحاجة الفعلية في زراعة مستدامة وأهوار مزدهرة بالثروة الحيوانية تقلل إلى أدنى الحدود من الهجرة الريفية نحو المدنية، وتزيد من فرضيات الاستثمار وتنويع مصادر الاقتصاد العراقي. إذا ما كان الاستثمار في حليب الجاموس، الأفضل كون سعر برميل الحليب يتجاوز 600 دولار، فيما سعر برميل النفط لا يتجاوز 100 دولار في أفضل الأحوال، ويكفي أن نعرف أن هولندا تستثمر في صناعات الأبقار أكثر من أي صناعة أخرى وهي لا تمتلك حقول النفط!
رابعا: في سياق الحوار الدبلوماسي عن العلاقات الإقليمية والدولية، يتطلب في التسويق السياسي تكرار نموذج النجاح في تطبيق “العراق أولا”، كونه يحدد أن العلاقات السياسية مع إيران وتركيا وكل التفاعلات الإقليمية أو مع الولايات المتحدة الأمريكية، إنما تتوقف عند المصالح العراقية المحددة دستوريا، وأي تجاوز على ذلك يعني إلغاء الوفاق الوطني في تعريف العدو والصديق. وهو ما لا يتطابق كليا مع الحالة الإيرانية في علاقاتها مع العراق ضمن منظور محور المقاومة في وحدة الساحات، وهذا ما يحتاج إعادة تسويق سياسي مكثف. إن حالة النجاح في الالتزام ب”العراق أولا” مستمرة ومندفعة في ترسيخ قناعات عراقية أن جميع الأطراف في المنطقة ودوليا، لا بد وأن تعمل لصالح ذات النموذج الناجح، والبحث عن إمكانات ترسيخه ودعمه بمختلف الأشكال.
خامسا: ربما في ندوات مقبلة، مع مراكز الأبحاث الدولية، مطلوب أن تعقد في بغداد، وخلق أجواء تفاعل إيجابية مع بيوت التفكير العراقية وتشكيل خلايا خبرة عراقية متقدمة بإمكانها توفير الدعم التقني في إدارة رؤية عراق 2050، ناهيك عن تطوير هذا التسويق من داخل العراق إلى خارجه، بالانتقال إلى توريد خبرات مبادرات الخارج إلى الداخل العراقي، وتأسيس حالات من الأواصر الأكاديمية العملية، التي تنقل بيوت الخبرة العراقية لتطبيقات تقترب مما تقوم به أمام صناع السياسات العراقية في السلطات الثلاث أولا وأمام فعاليات اقتصادية عراقية يمكن أن تؤسس لنموذج قطاع خاص جديد يتجه نحو أفكار البرجوازية الوطنية في اقتصاد السوق الاجتماعي. وجود مثل هذا التنسيق التفاعلي، يمكن كل الأطراف من فهم مباشر وشفاف وحيوي بدلا من الاستماع إلى الحقائق عبر أطراف مشاركة أو أطراف ثالثة.
في ضوء كل ما تقدم، يمكن القول إن حوكمة التسويق السياسي عراقيا ليس بالمهمة المستحيلة، لكنها تبقى صعبة وتتطلب حنكة ودراية في فنون إدارة الحوارات من على منصات أكاديمية مرموقة تحول هذا التسويق من جهود ظرفية إلى استراتيجية وطنية مستدامة، تعمل على زيادة المصداقية الدولية نتيجة توحيد الخطاب وربط الداخل بالخارج، واستمرارية التأثير الدولي عبر متابعة منتظمة للتوصيات، بما يحقق في النتيجة تحسين الصورة العراقية أمام المستثمرين والشركاء الدوليين، ما يعزز فرص إعادة الإعمار وجذب الاستثمار.

أحدث المقالات

أحدث المقالات