23 ديسمبر، 2024 3:37 ص

حوار هادئ في موضوع ساخن/ الأحزاب الثورية ومستقبل العراق

حوار هادئ في موضوع ساخن/ الأحزاب الثورية ومستقبل العراق

أثار المقال الذي كنتُ قد نشرتهُ تحت عنوان (ظُلم النظام الملكي ولا عَدل النظام الجمهوري) ردود أفعال متباينة بين مؤيد ورافض وهذا ما كان متوقعاً لإتصاله بشكلٍ مباشرٍ بمعتقداتٍ وقناعاتٍ ليس من السهولةِ مراجعتها أو حتى مبدأ التفكير بتغييرها.

فقد استلمتُ عبر بريدي الألكتروني آراء مختلفة موجزة، كذلك اطلعتُ على تداخلات القرّاء الكرام في المواقع الألكترونية عبرت جميعها عن فهمٍ متباينٍ لكل ما يتعلق بالسياسة والوطنية والنظرة الشمولية للمراحل التي مرّت بها الدولة العراقية الحديثة والصراعات الدولية وتأثيرها على العراق والمنطقة بشكلٍ عامٍ.

فمن القرّاء من أعتبر الإنقلاب العسكري/الثورة في الرابع عشر من تموز/1958م هو بداية الإنتكاسة للدولة العراقية الحديثة الفتية والإنقلاب على الشرعية الدستورية، كونه إنقلاباً عسكرياً للسيطرة على الحُكم، وحيثُ أفرز فيما بعد ديماغوجية قادته وصراعهم على السلطة دون النظر الى المصلحة العُليا للبلد. ومنهم من أعتبر الأيديولوجيات الحزبية هي السبب في الكوارث التي المّت بالعراق، متهمين فيها الأحزاب بنشر معتقداتهم على حساب الوطنية والتضحية بالوطن والمواطن العراقي في سبيل فرض آرائهم وقناعاتهم الحزبية على المجتمع العراقي دون الأخذ بنظر الإعتبار خصوصيته الفريدة بتركيبته المتعددة القوميات والأديان والمذاهب. ومن القرّاء مَن اتهم الأمبريالية العالمية واذنابها في التخطيط للمؤمرات وسعيها لعدم استقرار العراق للسيطرة على خيراته ولحماية مصالحها في المنطقة. ومنهم من له قناعة من ان المجتمع العراقي يتكون من فوبيات قومية ودينية (معنى كلمة فوبيا: هو الخوف لطائفة معينة من أمرٍ ما، وقد استخدمها احد القرّاء للدلالة على الخوف وعدم الثقة بين شرائح المجتمع العراقي من بعضها البعض بسبب التنوع الأثني أو الديني) وذلك بسبب تركيبته المُعقدة ولهذا يحاول البعض الغاء بقية المكونات والإنفراد بتركيبة واحدة للمجتمع وهذا محال. ومن القرّاء ايضاً من دافع عن النظام الجمهوري الإنتخابي ونبذ النظام الملكي الوراثي أو العكس. ولغرض الإجابة على تلك التساؤلات، فقد أرتايتُ تنسيقها ومحاولة الإجابة عنها بعيداً عن التشنجات العقائدية والمشاعر اللاإرادية والعفوية في الوقوف مع هذا الرأي أو نقيضه وبصوت وطني صريح بعيداً عن المعتقدات الحزبية اياً كان مصدرها.

ـ من خلال قراءة التاريخ والبحث عن كل شاردة وواردة في طريقة تنفيذ ثورة/إنقلاب الرابع عشر من تموز 1958م، تبينت لنا الحقائق التي ادت الى صراع السلطة بين قادة الإنقلاب،

فالجميع متفق على ذكاء ودهاء عبدالكريم قاسم واستغلاله تهوّر عبدالسلام محمد عارف واندفاعه وتحمسه لتنفيذ الإنقلاب، فاللواء العشرين هو المنفذ الحقيقي للثورة/الإنقلاب (الذي كان بأمرة الزعيم الركن احمد حقي محمد) وفيه العقيد عبدالسلام عارف المنفذ الفعلي للإنقلاب الذي إستغل كتاب مديرية الحركات العسكرية بالحركة من جلولاء الى الإردن مروراً بالعاصمة بغداد، في حين ان اللواء التاسع عشر الذي كان بأمرة المخطط للثورة الزعيم الركن عبدالكريم قاسم هو لواء الأسناد للثورة الذي تحرك من معسكر المنصورية للسيطرة على بعض المرافق المهمة في بعقوبة ومن ثمّ دخوله بغداد وتمركزه صبيحة يوم الرابع عشر من تموز في منطقة بغداد الجديدة ووصول عبدالكريم قاسم الى وزارة الدفاع قبيل الظهيرة بهيئة القائد للإنقلاب/ الثورة.

ـ التأييد الفوري للأحزاب الأيديولوجية بمختلف مسمياتها (ما عدا الأحزاب الدينية لأنه لم يكن لها وجود في تلك الفترة) للإنقلاب/الثورة ومناشدة جماهيرها للخروج الى الشارع لدعم هذا التغيير جاء كنتيجة حتمية لتاريخ صراعها ضد الملكية وبإندفاع عفوي وعاطفي دون النظر الى نتائج هذا الحدث وما قد يترتب عليه من تشبث القادة العسكريين بالسلطة والتصارع عليها (وهذا ما حدث فعلاً)، ولم يكن هنالك اي تحضيرات تنظيمية وميدانية لتلك الأحزاب لأخذ زمام المبادرة من العسكريين حال نجاح هذا التغيير وذلك من خلال تفعيل الدستور والشروع مباشرةً بالإنتخابات (أو لنقل كان هنالك تباين في وجهات النظر لقياديي تلك الأحزاب في موضوع ما بعد التغيير)، علماً بان بعض تلك الأحزاب كانت لديها معلومات مسبقة لخطط “الضباط الأحرار” وساعة الصفر من خلال عناصرها في الجيش المشاركة في الإنقلاب لإسقاط النظام الملكي الدستوري لإحلال نظام عسكري علّق الدستور، حيثُ من المفترض تعارض هذا الأمر مع ايديولوجياتها واهدافها.

ـ كذلك إنقسام تلك الأحزاب بين قطبي الصراع على السلطة (عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف) وحيثُ أصبحت جزءاً مهماً من ذلك الصراع، لا بل أججته أكثر بفعالياتها الشعبية الثورية مما لم يترك المجال لإصلاح ذات البين بين القائدين العسكريين ولإعطاء المجال للبعض من الأصوات الوطنية للتخفيف من حدّة النزاع السلطوي بين العسكريين.

لذا فمن المنطق ان تتحمل تلك الأحزاب المسؤولية الوطنية التاريخية والأخلاقية لكل الدمار الذي اصاب العراق منذ ذلك الحين ولحد الآن بإعتبارها المحرك الفعلي للشارع العراقي بقواعدها الشعبية.

ـ عدم تحمل الأحزاب الأيديولوجية لمسؤوليتها الوطنية العليا، بل تصرفت بانانية مطلقة بعد نجاح الإنقلاب/الثورة وباهداف ضيقة اثبتت الأحداث انعكاسها السلبي عليها وعلى أعضائها قبل غيرهم من ابناء الشعب من خلال تمسك كل حزب بشعاراته ومحاولة فرضها على الشارع العراقي دون التوصل الى الحد الأدنى للتوافق من أجل المصلحة العليا للوطن، بل على العكس بدأت تلك الأحزاب بنشر الشائعات ضد بعضها البعض لتأليب الشعب على بعضه وبطرق مبتذلة في محاولة لكسب الجماهير الى صفوفها مع الإستخفاف الواضح لمشاعر وتركيبة المجتمع العراقي النادرة (والتاريخ يعيد نفسه الآن بين الأحزاب الدينية بطوائفها المسيطرة على البلد).

ـ إنخراط الإنتهازيون في تلك الأحزاب وسرعة تسلقهم الى المراكز القيادية فيها أدى الى تحييد أهدافها النبيلة وإستحالة تنفيذها.

ـ عدم امتلاك الأحزاب الأيديولوجية لقرارها السياسي وإستقلاليته، وإنما كانت مسيّرة تماماً بالقرارات الصادرة من الدول (المصدّرة) لتلك الأفكار والمعتقدات، والمحكومة بمصالحها وأطماعها (وكما يحدث الآن بالنسبة للأحزاب الدينية الحاكمة في العراق بشقيها)، ومحاولة تلك الأحزاب إثبات الولاء المطلق والأعمى لمنظّريهم من خارج العراق.

ولهذا أفتقدت الأحزاب لإستقلالية القرار وحَجَبَ عنها الرؤية الواضحة والصائبة، مما إنعكس على تدهور الأمور السياسية للعراق بسرعة، حتى بات العراق كبش الفداء بمواطنيه للأفكار المتطرفة اياً كان مصدرها، وحيثُ دُمّرَ العراق على يد أبناءه إكراماً لمعتقدات كان من المفروض ان تخدمه وليس العكس.

ـ تأثر الأحزاب الأيديولوجية العراقية ومجموعة من افراد الجيش العراقي بمراتبه المختلفة وفئات اخرى من الشعب بالإنقلابات/الثورات الأقليمية والدولية وشعاراتها التي سوقتها، بدءاً بالثورة البلشفية في روسيا (في اكتوبر 1917م) وإنتهاءاً بالثورة المصرية (الإنقلاب العسكري في 23 يوليو 1952م) بقيادة اللواء محمد نجيب والمقدم (البكباشي) جمال عبدالناصر، حيثُ كان واضحاً هذا التأثير على طريقة اعداد الإنقلاب/الثورة في العراق من خلال تنظيم أو حركة الضباط الأحرار (نفس التسمية التي اطلقها على أنفسهم ضباط الثورة المصرية، لكن المرحوم العميد المتقاعد خليل ابراهيم حسين يذكر في الجزء الأول من كتابه “ثورة الشوّاف” من ان رفعت الحاج سري هو أول من أسس حركة الضباط الأحرار عندما كان الجيش العراقي في فلسطين 1948. وهي نفس السنة التي يُعتقد فيها قيام بعض الضباط المصريين بتأسيس تنظيم الضباط الأحرار في مصر).

كذلك تأثر العسكريين الآني (أو المخطط له) بطريقة التعامل مع العائلة المالكة وذلك بتصفيتهم جسدياً، جاء نتيجة تأثرهم بالثورة البلشفية وما فعلته بآخر القياصرة الروس وعائلته.

إذ ساعدت بعض الأخطاء والممارسات للنظام الملكي على بلورة تلك القناعات الثورية (لشريحة لا يستهان بها من الشعب)، اضافة الى ترسبات عدم تقبّل الشعب العراقي للملك ولعائلته المفروضين عليهم من قِبل المحتل البريطاني والقادمين من خارج مجتمعه ودخولهم في أحْلافٍ مشبوهةٍ (حلف بغداد) ضد حركات التحرر لشعوب المنطقة والعالم التي كانت في اعلى درجاتها.

كل تلك العوامل قادت الى تأييد نسبة غير قليلة من الشعب للإنقلاب العسكري، لكن في ذات الوقت ارتفعت أصوات اخرى مؤثرة للتنديد بتصفية العائلة المالكة وما رافقها من اعمال بربرية سُجلَت كوصمة عار ونقطة سوداء في تاريخ العراق الحديث مما حدا بقادة الإنقلاب والأحزاب الأيديولوجية التي ساندتهم فيما بعد الى التنصل منها ومحاولة القاء اللوم على الشخص المنفذ لتلك المجزرة (النقيب عبدالستار سبع العبوسي ومجموعته).

ـ الرغبة (العفوية) للشعوب بتغيير انظمتها الملكية الى الجمهورية، ظنّاً منها بان عملية تحويل النظام الملكي الوراثي الى نظام جمهوري إنتخابي!! سيحقق العدالة الإجتماعية، وحيثُ أثبتت التجارب القاسية التي مرّت بها تلك الشعوب عكس ما تتصوره تماماً في منطقتنا الشرق أوسطية خاصة ودول امريكا اللاتينية واسيا بشكلٍ عامٍ وذلك لإختلاف الثقافات المجتمعية لطريقة فهمها للديمقراطية (في البلدان الأوربية مثل فرنسا والمانيا تمتاز الأنظمة الجمهورية الإنتخابية فيهما بديمقراطية حقيقية، كذلك تمتاز الأنظمة الملكية الدستورية بديمقراطية حقيقية، كما في اسبانيا)، إذ اقترنت الأنظمة الجمهورية في المنطقة الشرق أوسطية والأسيوية بالأنظمة الشمولية المتمثلة بحكم فردي دكتاتوري متوارث (الجميع يعلم تولي الرئيس الكوري الشمالي الحُكم بعد أبيه، وتولي بشار الأسد الحكم بعد أبيه أيضاً في سوريا ومحاولة صدام حسين في العراق وحسني مبارك في مصر وعلي عبدالله الصالح في اليمن والقذافي في ليبيا وغيرهم الى نقل السلطة الى ابنائهم من بعدهم)، ومن المفارقات انه لم يتم اعتراض تلك الأحزاب بشكل علني على هذا الإجراء (توارث الحكم)، بل باركته الأحزاب المحسوبة على قادتها الشموليين!! في الضد من ايديولوجياتها المعلنة، لابل شرعنته بطريقة أو بأخرى!! وكنتيجة للخوف من الأساليب القمعية التي يمارسها القائد الدكتاتوري حتى على اعضاء حزبه، وبهذا التصرف اعترفت تلك الأحزاب ضمنياً بديمقراطية الأنظمة الملكية التي كانت تسمح لها ولو بشكل جزئي بالإحتجاجات والتظاهرات المنددة بإجراء أو قانون شرّعته الحكومة الملكية المتمثلة برئيس وزرائها وأعضاء وزارته.

ـ كره الشعب للدول الأمبريالية وفي المقدمة منها بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وقناعته التامة بان كل سياسي يضع يده بيد تلك الدول هو عميل لها يسعى الى تنفيذ مؤامراتها ومخططاتها والحفاظ على مصالحها على حساب الشعب والمصلحة الوطنية، دون النظر الى الظروف الموضوعية التي جعلت هذا السياسي أو المسؤول القيام بواجبه الأول في محاولة تجنب شر تلك الدول، وسأعطي أمثلة قائمة على طريقة التعامل مع الدول (الأمبريالية) وايهما عاد بالفائدة الى بلده.

فمنذُ مئات السنين وشعب وادي الرافدين يناضل ضد الإستعمار (بدءاًً بالكوتييين القادمين من بلاد زاجروس في همدان ومروراً بالحيثيين والكاشيين والعيلاميين والأخمينيين ثم السلوقيين فالفرثيين الساسانيين ثم المغول الايلخانيين فالجلائريين ثم التركمان دولتا الخروف الاسود والخروف الأبيض ثم الصفويين القادمين من بلاد فارس وأعقبهم العثمانيين القادمين من تركيا ثم الإنكليز حتى إنتهى بنا مطاف الإحتلال بالغزاة الأمريكان) وبطرق مختلفة منها تبني فئات من الشعب (في العصر الحديث) للأيديولوجيات المستوردة من خارج البلد ظناً منهم بأنها الطريقة المُثلى للوقوف بوجه المُستَعمرِ، فالسؤال الذي يطرح نفسه بقوة الآن : هل إنّ مؤيدي تلك الأفكار قد طردوا المحتل بنضالهم؟، أم أدخلوه الى العراق من أوسع أبوابه وبأكثر الطرقِ همجية وبربرية؟، وحيثُ كانت النتيجة دماراً في دمارٍ ومن سيءٍ الى أسوأ !!.

لقد حاول البعض من السياسيين العراقيين في العصر الحديث (من أمثال نوري السعيد وغيره) تفادي التصادم مع قوى الشر (الأمبريالية العالمية) لقناعتهم وحنكتهم السياسية بعدم جدواها لعدم تساوي كفتي الميزان في هذا الصراع حيثُ لخصّ نوري السعيد سياسته بقوله المأثور: “المعارضون أشد وطنية مني إلا انني أعتقد بأن سياستي هي الأوفر حظاً والأحسن للوصول الى الغاية التي ننشدها جميعاً، فليس بيد أحد أن يعدّل المعوج أكثر من ذلك”(1)، وكان لهؤلاء السياسيين رؤى مختلفة في طريقة (ترويض) اطماع تلك الدول لجعلها مصالح متبادلة بين الطرفين، فماذا كانت النتيجة؟ لقد اتهمتهم الأحزاب الثورية/الأيديولوجية بالعمالة والخيانة وحشّدت الشعب ضدهم وسحلتهم في الشوارع ومثلت بجثثهم لقناعتهم بان ما فعله هؤلاء السياسيون كان من الكبائر، وماذا حصل بعد ازاحة (العملاء) من الحكم بحركة الضباط الأحرار، هل وصلت تلك الأحزاب الى اهدافها (النبيلة) في اسعاد الشعب وطرد الدول الأمبريالية، واذا لم تصل الى اهدافها فمتى ستصل وكم مئة سنة اخرى تحتاج اليها للوصول الى هذا الهدف؟، هذا فيما اذا بقي الوطن موحد!! وبقي بلد أسمه العراق.

من جانبٍ آخرٍ كانت تلك الأحزاب ومن يقف خلفها تحاول وبشتى الطرق (الثورية) المجاهرة بعدائها لما تسميه الدول الأمبريالية وتحاول إثارة تلك الدول دون الأخذ بنظر الإعتبار عدم

تكافئ القوى بين الطرفين (الإمبريالي والثوري) معتمدة على المتغيرات الدولية والأقليمية وتحالفاتها، وعلى قوة جماهيرها الشعبية التي رمت بهم في اتون ساحات (النضال) دون الأخذ بنظر الإعتبار على انهم قيمة نادرة وثمينة للمجتمع، فخسر العراق خيرة ابناءه من كافة شرائحه بين قتيل ومهجّر في أرجاء المعمورة كنتيجة لصراع تلك الأحزاب فيما بينها غالباً، وليس كما تدعي نتيجة (تآمر) الدول الإمبريالية عليها، وبدل ان تجد تلك الأحزاب الوسيلة الصحيحة للتعامل مع هذه الدول ذات التطور العلمي والتكنولوجي العالي والذي حسم في كثير من الأحيان المعارك الميدانية بشتى تسمياتها العسكرية والإقتصادية والسياسية لصالحها، راحت الأحزاب تستثير تلك الدول بمناسبة او بدونها متبجحة بعدائها المصيري للأمبريالية!!.

لقد اطلقت الأحزاب الثورية مختلف انواع الصفات الغير وطنية على شخصيات سياسية ودولٍ بكاملها ممن حاولوا تجنب شرور الدول الأمبريالية وآلتهم العسكرية والتعامل معهم بحنكة سياسية لتجنيب بلدانهم الويلات والدمار، فنعتتهم بالعمالة والخيانة للأجنبي كدول الخليج العربي مثلاً، فمن هو الأصح في تفكيره الوطني؟ هل هو الشخص أو الحزب الذي كان يحمل سيفاً من الخشب لمواجهة ترسانة عسكرية متطورة وعقول فكرية خبيثة في نسج (المؤامرات) أدت الى دمار بلده بالكامل، أم دول الخليج التي تعاملت مع الدول الأمبريالية بحيلة سياسية أو لنقل بتحفظ لتجنب شرورهم فوصلت ببلدانها الى بر الأمان وعرفت كيف تدار السياسة وكيفية اللعب مع (الكبار)!!، اضافة الى الحفاظ على كرامة شعوبها بعدم الزج بها في صراعات لا طاقة لهم عليها فحافظوا على كرامتهم وجنبتهم (تقبيل ايادي واحذية جنود المعتدي)، فهل يصح اطلاق صفة العمالة والخيانة على الدول أو السياسيين الذين حافظوا على دولهم وكرامة جيوشهم وشعوبهم وشرف حرائرهم أم العكس؟!!.

لقد كان تأميم النفط واحداً من القرارات الذي اعتبرته الأحزاب الثورية بمختلف مسمياتها ضربة قاصمة للدول الإمبريالية وشركاتها الرأسمالية!! لنهب الثروة الوطنية، كما اعتبرته تلك الأحزاب المؤشر الرئيسي لوطنية الحُكم من عدمه، فهل تحقق فعلاً هذا الهدف؟، أعتقد من ان الجميع يعرف الجواب ولا داعي للخوض بتفاصيله ولكن هنالك سؤال يتردد على السنة كل العراقيين، أين هي عائدات النفط العراقي منذُ قرار التأميم ولحد الآن حيثُ من المفترض ان تكون مردوداتها مئة بالمئة للعراق؟ وماذا طوّرت في العراق؟، هل طوّرت الحقول النفطية وزادت انتاج العراق الى عشرة ملايين برميل يومياً كما حدث في السعودية التي تسيطر على انتاجها الشركات العالمية (الإستعمارية)؟!!.

فالمدن العراقية من شمالها الى جنوبها ومن شرقها الى غربها بقيت على حالها مع اختلاف يكاد لا يذكر بتطور بسيط للبنية التحتية، واين هي المصانع العملاقة التي كنّا نتفاخر بها عدا مصانع التصنيع العسكري التي كانت تكلف الميزانية العراقية أضعاف المبالغ فيما لو تمّ استيراد السلاح من منشأهِ؟ وهل كانت تلك المصانع ذو جدوى اقتصادية؟ وهل كانت عراقية التصميم أم مجرد كنّا مشغلين لتلك المصانع؟، ولي في جعبتي عشرات الأمثلة للهدر الإقتصادي في المصانع الحكومية، وهل اصبحت المدن العراقية كإمارة “دُبي” مثلاً من ناحية التطور المعماري والمستوى المعيشي التي أذهلت العالم بعمرانها؟.

والسؤال الذي يفرض نفسه: اذا كانت الشركات النفطية العالمية (تنهب) ثروات البلدان النفطية، فكيف اصبحت دول الخليج العربي كافة من أغنى الدول في العالم ومن اين لها هذا المال لإنفاقه على الإعمار؟؟؟، وكيف أصبحت كندا (هذا البلد الرأسمالي) من أكثر البلدان تطوراً في العالم دون تأميم شبر واحد من منشآتها النفطية، إنما تمتلكه شركات عالمية مثل شل وسنكرود وسنكور وتوتل الفرنسية وغيرها، علماً من ان دخل كندا القومي لا يزال تتحكم به اسعار النفط العالمية، وانا شخصياً عملتُ في معظم تلك الشركات لما يزيد على خمس عشرة سنة في كندا ولم يكن هنالك اي شركة وطنية عدا شركة “بترو كندا” ثمّ باعت أجزاء كبيرة من حصصها للشركات العالمية، وهل ان كندا بمهندسيها وشعبها عاجزة عن ادارة منشآتها النفطية فيما لو أممتها؟!!، فهل من المعقول ان نطلق على كندا بلد مُستعمَرْ من قبل الشركات النفطية؟!!.

مشكلة الأحزاب الثورية هي استخدامها لمصطلحات سياسية كبيرة تتهم بها كل من لا يتماشى مع شعاراتها، والمشكلة الأكبر بانها تجد من يردد شعاراتها كالببغاوات دون تمحيص وتدقيق من بعض البسطاء من ابناء الشعب أو من المثقفين المغرر بهم ومن خرج عن سربهم يتهموه بالخيانة والعمالة.

ومن المفارقات الكبيرة ايضاً: ان معظم اعضاء تلك الأحزاب الأيديولوجية (بضمنها الأحزاب الدينية) عندما يقررون الهجرة القسرية من العراق لا يلجأون الى البلدان ذات الأنظمة التي يؤمنون بها و(ناضلوا) من اجلها والتي يريدون للعراق ان يصبح مثلها، وحيثُ اوصلتنا الى نتائج عكسية دمرت الأرض والعباد، بل يهاجرون الى نقيضاتها.

فالأممي غالباً ما يهاجر ليستقر ويتنعم بظل الأنظمة الرأسمالية المؤمنة بالدين ( الذي أطلق عليه الأمميون أفيون الشعوب)، والقومي غالباً ما يهاجر الى دول الخليج العربي والأردن (البعض من القنوات الإعلامية تعتبر الأردن المركز الإقليمي لوكالة المخابرات المركزية

الأمريكية) التي كان ينعت حكامها بالعمالة والخيانة، أو يهاجر الى الدول الأمبريالية التي اتهمها بمحاربة وحدته القومية، والسلفي الديني بشقيه يذهب الى بلدان الكفر والظلالة ليؤدي فرائضه بمنتجعاتها الساحلية بين الوان واشكال البكيني!!، مخالفين بذلك نظرية ” شبيه الشيء منجذب اليه”، حيثُ جعلوها متطابقة مع فيزيائية الأقطاب المغناطيسية “نقيض الشيء منجذب اليه”، وممتدحين تلك البلدان وما آلت اليه من تطور وايمان حقيقي برب العباد!!.

ولا اعلم لماذا فقط الأحزاب الثورية العراقية تتبنى ايديولوجياتها على حساب المصلحة الوطنية وتسعى لتكون رأس حربة عوضاً عن بقية احزابها الشقيقة في الدول الأخرى دون الأخذ بنظر الإعتبار مصلحة العراق العليا، ودون التفكير المنطقي من ان تقوية الأسس الوطنية ينعكس ايجابياً لتحقيق اهدافها الإنسانية وليس العكس، فهل هذا مؤشر على نقص وطنيتنا وإنتماءنا لبلد تتمناه الشعوب الأخرى لما وهبه الله له من خيرات، لكننا لم ندرك قيمته بعد!!.

ولا اعلم ايضاً لماذا تتبنى الأحزاب العراقية العقائد المستوردة من الخارج ثمّ تعتبر نفسها مركز الإلهام لها ولمئات الملايين من البشر وتبقى ملتزمة بتلك العقائد حتى وإن جفت منابعها الأصلية مع الإصرار أما على تدمير العراق أو تمرير افكارها ونظرياتها، فالعراق الآن وبسبب محاولة تلك الأحزاب تطبيق ايديولوجياتها اصبح مصدر قلق للسلم القومي والأقليمي والأممي، اي بمعنى آخر اعطى مردوداً عكسياً لأهدافها.

فلو توقفت تلك الأحزاب هنيهة من الزمن وراجعت مراحل نضالها وكم خسرت من مناضليها ممن كانوا بدرجات عالية من التحصيل العلمي والثقافي والإبداعي اضافة الى بقية كوادرها، لوصلت الى نتيجة حتمية بان (نضالها) قد أضرّ بالعراق وبالمواطن العراقي وأعطى مردوداً عكسياً لأهدافها النبيلة، وليس هنالك من بديل سوى العودة الى الإنتماء الوطني الخالص وتأسيس أحزاب وطنية خالصة تأخذ على عاتقها بناء العراق من جديد المتفاعل انسانياً قومياً واقليمياً وأممياً.

الخاتمة:

ربما اكون قد اعطيتُ الحق لنفسي كمواطن انتمي الى بلدي العراق حتى وان عشتُ خارجه تلك المدة الطويلة بإنتقاد احزاب لها تاريخها النضالي الطويل الذي نحترمه جميعاً، لكن في ذات الوقت ارى من الضروري ان نضع النقاط على الحروف وندق ناقوس الخطر الذي بات يهدد وحدة الوطن وضياعه، فالوطن فوق الجميع، فما فائدة احتفاظنا بتاريخ نضالي وكفاحي

طويل دون وجود وطن تُكتبُ في صفحات سفره تلك الأحداث، فللجميع محبتي وإعتذاري ان كنتُ قد قسوت في حكمي على طريقة محبتهم للعراق.

إنتباهة:

(1):هذه المقولة تم نقلها على لسان الدكتورة عصمت السعيد زوجة المرحوم صباح نوري السعيد والتي ذكرتها في كتابها “نوري السعيد رجل الدولة والإنسان” الذي يحتوي على 378 صفحة وبقياس 24×17 الصادر في سنة 2003م عن دار الساقي للنشر.