22 ديسمبر، 2024 5:08 م

حوار لم يُنشر مع شيركو بيكه س

حوار لم يُنشر مع شيركو بيكه س

حوار لم يُنشر مع شيركو بيكه س:
القصيدة ترفض العيش تحت خيمة المقاولات السياسية
ولد (شيركو بيكه س) في بلدة حلبچة، بمحافظة السليمانية عام 1940. والده فائق بيكه س، الشخصية الوطنية المعروفة، وأحد الشعراء الكرد البارزين. حمل الشاعر اسم «شيركو» الذي يعني (فهد) بالعربية، و«بيكه س» تعني (وحيد أو لا أحد له)، وأظهر منذ نعومة أظفاره ميوله نحو الشعر.
صدرت له أكثر من 45 مجموعة شعرية، منها: شعاع القصائد (1968)، هودج البكاء (1969)، باللهيب أرتوي (1973)، الشفق (1976)، الهجرة (1984)، مرايا صغيرة (1986)، الصقر (1987)، مضيق الفراشات (1991)، مقبرة الفوانيس، فتاة هي وطني (2011)..
ترجمت قصائده إلى عدّة لغات عالمية منها السويدية، الإنكليزية ،الفرنسية ، الألمانية ، الرومانية، البولندية، الإيطالية، والتركية، إضافة الى العربية، وحصل على جوائز عالمية عديدة من بينها جائزة ‘توخولسكي’ السويدية عام 1987، وجائزة ‘بيره ميرد’، وجائزة ‘العنقاء الذهبية’ العراقية.
بدأتُ، منذ سنوات النضال في الجبل، أطَّلع على نتاجات وإصدارات الشاعر الكردي الكبير شيركو بيكه س، باللغتين الكردية والعربية. وبقيت أتابع نتاجاته ونشاطاته الثقافية المتميزة وأقرأ قصائده الجميلة، حتى إنني حفظت أبياتا من قصائده عن ظهر قلب، ومنها قصيدته المعنونة (جندي عادي):
“عندما منحوه نجمة واحدة
كان قد قتل نجمة
وعندما صارت نجمتين
تحولت يداه إلى حبال مشانق
وعندما صارت ثلاث نجمات
ثم تاجاً
ثم رتبة أعلى
استيقظ التاريخ في صباح ما
فوجد البلاد مملكة أرامل”.
كنتُ تواقا أن ألتقيه وأحاوره، خاصة بعد أن قرأت ملحمته الشعرية (حلبچة تذهب الى بغداد):
“تذهب حلبچة إلى بغداد
تنظر إلى سدارتي القبانجي وعلي الوردي
بجناح المقام ونبراس الفكر
تحلّقان كالفاختة
على القبّة الزرقاء والشناشيل
وتنثران السرور
تذهب حلبچة إلى بغداد
تمرّ بالشورجة
يتعطّر جسدها بعبق الهيل والقرفة والمسك
تحيط بها قبلات الفيلين
وبعد هنيهة
تستحيل القبل إلى نحل
وقامة حلبچة إلى خلية عسل
تأتي الحرية لتوزّع العسل على الجميع”.
في تموز 1993 تسنىت لي زيارة للأهل في اربيل- عنكاوا، بعد سبع عشرة سنة من الغربة، ولدى وصولي الى أربيل، كان هاجسي الأول، بعد لقاء الأهل والأحبة، أن ألتقي الشاعر شيركو بيكه س، الذي كان قد اصبح في العام 1992 وزيرا للثقافة في أول تشكيلة حكومية في الاقليم.
طلبتُ لقاءه، فجاءتني الموافقة دون إبطاء. فقصدتُ مكتبه الوزاري في وسط أربيل. وجدته حميميا، دافئا وصريحا، ويفضل أن يتحدث عن الثقافة والشعر أكثر من الحديث عن عمله وزيرا. أنقل هنا جانباً من الحوار:
* كيف ترون عملكم وزيراً للثقافة؟
– لكون الوزارة هي وزارة ثقافة كردية عراقية فمن واجبها أن تستقطب جميع المثقفين من كل الاتجاهات الفكرية، التنوع في الاستقطاب، وعدم حصرها في بقعة فكرية محددة. لقد علمتنا تجربة الحكم الدكتاتوري أن الديمقراطية هي الطريق الوضاء والصحيح، وبغيرها لن تكون هناك ثقافة متقدمة عصرية.
* وهل لديكم فسحة للنشاط وسط هذا الكمّ من الإعلام الحزبي؟
– إن تنشيط أي إعلام مرتبط ارتباطا موضوعيا بالمستلزمات وتمهيد الطريق سياسيا مع العالم الخارجي. إنني أعتقد أن المسألة سياسية قبل أن تكون إعلامية، وحتى “السياسة” اذا فتحت لنا الطريق نستطيع من خلالها أن ننشِّط إعلامنا في أوساط الرأي العام العالمي. إن الإعلام الحزبي في الساحة الكردستانية هو الغالب.
* تزورك وفود اجنبية كثيرة، فهل تلتقيك على أنك وزير أم شاعر معروف؟
– انهم يلتقون بي على أني شاعر ووزير أيضا. إن أغلبهم يعرفونني شاعرا أولاً من خلال قصائدي التي تُرجمت الى اللغات العالمية، وإن أكثرهم يأتونني عن طريق الشعر، وهذا احبُّ الى قلبي.
* هل تعتقد أن شهرتك ترتبط بكونك شاعر قضية معروفة، أم شاعرا بمستوى شعري تخطى المحلية؟
– برأيي إن الشاعر والفنان يدخلان الى قلب العالم عن طريق الوطن، اي إن العالمية تبدأ لي من هنا، من كردستان. إذ إن الفنان أو الشاعر الذي لا يعيش في وجدان شعبه وينهل من النبع الصغير في جبال كردستان لا يستطيع أن يعيش في وجدان الآخرين ولا أن يصل الى بحار العالم.
* ما مدى تمثيل الأدب الكردي المعاصر للتراث الكردي والتفاعل مع العصر؟
– ألأدب الحي أو الإبداع بصورة عامة يقف على قدمين: قدم التراث والموروث الشعبي، وقدم المعاصرة أو عالمية الأدب. والأدب الكردي في نماذجه المبدعة يعكس تلك الروافد في نتاجاته. وإن الأصالة الحقيقية لأي ادب تتأتَّى من جذوره وتفاعله الديناميكي مع الرؤية الفنية للعصر وامتزاجه من خلال الحركة الإبداعية والكشف والتجديد المستمر.
* وماذا عن الشعر الكردي؟
– إن القصيدة الكردية بصورة خاصة- هي المتقدمة فنيا قياسا بالمجالات الفنية الأخرى وتتبوأ مكانة جمالية عالية وقيمة فنية متجددة. والشعر الكردي في مختاراته الموفقة إبداعيا صوت يمتزج بصوت الآخرين وبالمواقف الإنسانية. انه الوردة الجبلية التي ترى وترنو وتقترب من ورود العالم جميعها، كرؤية وموقف.
* هل تخطى الشعر الكردي المحلية الى آفاق أوسع؟
– لقد غنينا من غياهب السجون لإصدقاء الحرية في أنحاء العالم. إذ إن الجريح هو الذي يحس بالآم الآخرين. وإن نتاجات الشعراء الكرد منذ الخمسينيات ولحد الآن تشكل مهرجانات ملونة ومتنوعة لأغنيات تتجاوز كردستان الى جميع القارات. إنها الطيور الشعرية التي تحلق فوق جراحات العالم من الجزائر الى فلسطين وفيتنام وأمريكا اللاتينية وغيرها. إنها إنسانية الأدب والإبداع. فلا أدب بدون حقوق وبدون إنسانية. لكننا لم نتلق الكثير من الآخرين وخاصة الشعراء والأدباء العرب، ما عدا قلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، تجاوبا مع جراحاتنا ومع صرخاتنا والآمنا. إنهم الأقربون منا تاريخا وأرضا وثقافة ولكننا نحسهم في أقاصي العالم. والمأساة تكمن في كتابات بعضهم ضد تطلعات شعبنا الديمقراطية. إنها مأساة حينما تكون ضحية صيرا وشاتيلا ولا تتجاوب مع ضحايا حلبچة والأنفال شعرا وموقفا.
* ألم يكتب الشاعر الكبير محمود درويش قصيدة عن كردستان؟
– الشاعر المبدع محمود درويش غنّى لكردستان في الستينيات فأفرحنا وأثلج قلوبنا، ولكن حينما صدرت له المجموعة الشعرية الكاملة، لم تكن تحوي قصيدته المشهورة الى كردستان. هل ندم على ما قاله؟ فقد أخرج قصيدته من المجموعة وكأنه أخرج “عيبا” أو نفى شيئا لا يستحق أن يعيش. وإذا كانت المسألة فنية فلماذا أبقى بعض القصائد، وهي دون المستوى الفني نسبة بقصيدته المشار اليها؟
الشاعر الصادق والعاشق موقفٌ ابداً، موقف حتى مِن قتلِ طير في سماء بعيدة، موقف من قاتل نبع في أقصى العالم، وكردستان كما تعلم، كل شبر فيه مأوى للآلاف من الضحايا البريئة، أطفال ونساء، خاصة أبان حملات الأنفال الهمجية عام 1988.
* رسالتك الى المثقفين العرب؟
– كردستان أقرب إلى قلوب العرب من حبل الوريد، فالشعر يرفض التعتيم السياسي الحرباوي ويرفض أن يكون خارج منطقة الضحايا والمواقف الإنسانية. والقصيدة ترفض وبإصرار أن تعيش تحت خيمة المقاولات السياسية، فصمت الكلمة إدانة للكلمة، فحينما يراق دم قصيدة في كردستان يراق في نفس اللحظة دم قصيدة في فلسطين. وإن التفاعل مع العصر يعني التفاعل مع حقيقة العصر، مع ضحايا العصر، مع عذابات العصر. أنا لا يؤلمني ما يقوله شعراء السلطة وشعراء العروش، ولكن حين يؤلمك إصبع يدك فتلك هي المأساة.
توفي الشاعر الجميل شيركو بيكه س الذي كان يتنفس شعراً في الرابع من آب (أغسطس) 2013 عن عمر ناهز 73 عاماً. وقبل وفاته بمدة وبعد إصابته بالمرض الخبيث، كتب وصيته:
“لا أريد ان أدفن في التلال والمقابر المعروفة لسببين: الأول لأنها ممتلئة والثاني لكوني لا أحب الزحام.
أريد أنا ان أدفن في متنزه ( أزادي) إذا لم يمانع رئيس بلدية مدينتي ورئيس المجلس البلدي ، أريد ان أدفن الى جوار نصب شهداء 1963 في السليمانية، هناك المكان أجمل ولن أصاب بضيق التنفس، أنا حتى في حالة موتي أتمنى أن أكون قريبا من هؤلاء الناس، من رجال ونساء مدينتي، من صوت الموسيقى والأغاني والدبكات ومن النوادي الجميلة لهذا المتنزه.
ليأخذوا مكتبتي ودواويني الشعرية وصوري الى مزاري”.
في احدى قصائده قال:
“سأسحب السماء الى الأسفل
أنادي الرب الى الأرض
كي اخبره
ها هو الجحيم هنا
وهنا سيصبح الفردوس واقعا”.