في عام ألفين وأربعة بعد عام واحد فقط من سقوط نظام البعث في العراق كانت أول سفرة لي خارج الوطن كنت مفعما بالأمل متفائلا حد الإيمان الكامل بأن التغيير القادم سيحمل الخير والديمقراطية والانفتاح كنت أتنفس هواء مختلفا وكأن نسيم الشمال قد تسلل إلى صدري ليغسل عنه ما علق من كآبة الحروب والحصار شعرت أن الأفق مفتوح وأن العراق سيتحول إلى قصة نجاح يرويها الناس ذات يوم
في تلك الرحلة التقيت بصديق قديم يقيم في إحدى الدول العربية اصطحبني إلى مقهى يجتمع فيه نخبة من المثقفين العرب من مختلف البلدان وهناك جلس معنا رجل مصري بسيط الهيئة لكنه يحمل نظرة فيها عمق وهدوء عرفني به صديقي على أنه دكتور في العلوم السياسية يدرّس في إحدى جامعات الأردن كان الحديث وقتها لا يدور إلا عن العراق عن ما بعد صدام عن الدولة الجديدة والدستور والسياسة والخطاب الطائفي والآمال التي لا تنتهي تكلمت كثيرا بشغف واندفاع عن العراق الجديد عن الإعمار القادم عن المؤسسات والديمقراطية والانتخابات عن عودة العراق إلى محيطه العربي والدولي كنت مؤمنا تماما أن الطريق وإن كان صعبا إلا أنه سيقودنا إلى نهضة حقيقية والدكتور المصري كان صامتا أكثر الوقت يرتشف قهوته وينفث دخان سيجارته أحيانا يضعها على الطاولة وأحيانا يعيدها إلى فمه كان ينظر إليّ وكأنه يسمعني لا بكلماتي بل بنيّاتي وما خلف الكلام من أمنيات وحين انتهيت من الحديث سألني بهدوء وقال خلاص كده مافيش كلام تاني قلت لا خلصت فابتسم وقال شوف يا سيد أحمد انت بتحلم حلم جميل بس لسه القادم أمامكم كتير وحتشوف الخراب بعينك وخليني أقولك حاجة مهمة لا كان صدام جيد ولا اللي جاي هيكون جيد انتو دخلتم في خراب مش في إعمار
ثم أخذ يشرح لي كيف أن الدول التي تنهار لا تنهض بسرعة وأن العراق مقبل على سنوات من الفوضى والصراع والتشرذم وأن ما نراه الآن من مؤشرات ليس سوى بداية لسلسلة طويلة من الأزمات قلت في نفسي هذا الرجل متشائم بل مجنون كيف يقول ذلك والعالم كله يمد لنا يد العون ونحن نبدأ صفحة جديدة لكن الآن وبعد مرور عشرين سنة أقف أمام صورتي القديمة وأبتسم بسخرية مريرة فقد أدركت أني كنت حالما أكثر من اللازم وأن كلام ذلك الرجل الذي حسبته مجنونا كان يحمل قدرا هائلا من الصدق والبصيرة فالعراق لم يتحول إلى النموذج الذي حلمنا به بل صار حقل اختبار للخيبات والنزاعات وانكشفت فيه كل التصدعات التي كانت تحت السطح أدركت اليوم أن التفاؤل وحده لا يصنع الأوطان وأن الخراب لا يأتي فقط من الطغاة بل أيضا من الفوضى المقنعة باسم الحرية ومن ديمقراطية بلا مؤسسات ومن مشاريع تتصارع فيها الولاءات الخارجية أكثر من المصالح الوطنية والأحزاب اغلبها غير وطنية مرتبطة بدوائر مخابراتية مهمتها تخريب العراق وعدم السماح له بالنهوض . انتهت أحلامي وأحلام كل وطني شريف وعراقي غيور وذبح الشرف على دكة وابواب العملاء ..