18 ديسمبر، 2024 3:51 م

حوار سريع مع آلان غريش حول الإسلاموفوبيا والإرهاب

حوار سريع مع آلان غريش حول الإسلاموفوبيا والإرهاب

لكي تكون جهود محاربة الإسلاموفوبيا داخل فرنسا متوازنة يجب أن تتكامل مع جهود محاربة التعصب الديني داخل مجتمعاتنا. وهذا إذا أردنا أن ننجح في تحقيق السلام.

كانت لدينا مرافِقة مشتركة، طالبة جامعية متطوعة اسمها فيما أذكر بثينة، غير أننا لم نكن نقيم في نفس الطابق. كنت مقيما في الطابق العلوي للفندق الزجاجي الذي يطل على شارع الحبيب بورقيبة، حيث بوسعي أن أطل على القلب النابض للعاصمة التونسية، تلك القطعة من الشارع الممتدة ما بين الساعة الكبرى وتمثال ابن خلدون. في كل الأحوال يبقى العلو شغفي الأكبر. لستُ أدري كيف انتقلتُ فجأة من التوجّس من المرتفعات إلى الهوس بها. بل صارت الأعالي متعتي الوحيدة الباقية بعد أن زهدت في معظم المتع الأخرى. حتى السباحة لم تعد تستهويني كما كانت. باختصار، لعلي فقدتُ متع المنحدرات كلها. لذلك، أجد في الطائرة متعة لا أجدها في المنتجعات الأرضية. ولأجل ذلك، يحدث لي أن أطلب الحجز الفندقي في الطابق العلوي، فلا أنزل إلا للضرورة. بهذا النحو لم يكن متوقعا أن أجد وقتا لمجالسته والكلام معه. لكن، على الأرجح هناك سبب آخر، اختلاف برنامجنا اليومي. أما الموعد الذي كان مقررا أن يلقي فيه محاضرة بالمعرض الدولي للكتاب بالعاصمة التونسية وكنت حريصا على الذهاب إليه طالما حسبتُ أن لديّ ما أقوله له، فقد شاءت الأقدار أن أكون وقتها بمقر التلفزة الوطنية التونسية للمشاركة في برنامج “جمهورية الثقافة” الذي يعده المنشط المقتدر عبدالحليم المسعودي. لذلك، كان الفضل لحماسة بثينة في تنظيم لقاء لي مع المفكر اليساري الفرنسي آلان غريش. استغرق اللقاء حوالي ساعة. وكان هذا يكفي.

كنت أملك سؤالا محددا. هو في الحقيقة رسالة وسؤال في نفس الآن: سيدي آلان، إذا كنتُ سأمنح لنفسي حق الكلام نيابة عن جيل كامل من المسلمين العقلانيين، فبوسعي أن أقول لك، إننا نعتز بكل ما تفعله في فرنسا وأنت تحارب الإسلاموفوبيا، لكننا إذ نعلم بأن لديك ما تقوله للفرنسيين عن الإسلام، أو حتى عن الإسلام السياسي، فلسنا نعلم إن كان لديك فعلا ما تقوله لمسلمي فرنسا، أو لإسلاميي فرنسا، حتى ينجحوا في الاندماج “الإيجابي” داخل الجمهورية الفرنسية؟

ههنا تناقشنا طويلا، وكان في كل مرة يحيلني إلى مصر، مؤكدا بأن العدو الأكبر هناك هو الرئيس عبدالفتاح السيسي وليس محمد مرسي؛ فإن هذا الأخير لم يكن سوى غبي، كما قال، مضيفا بأنه يعيب على اليسار العربي في الأخير دعمه للاستبداد!

قلت مستوقفا: لكن، سواء في بلدي بالولادة المغرب، أو في بلدي بالتبني تونس، ليس يخفى عن أحد بأن اليسار هو من دفع الثمن الأكثر كلفة في مواجهة الاستبداد، منذ سنوات الستين والسبعين من القرن الماضي.

قال: لكن ليس في مصر. قلت: أنت تعلم سيدي بأن آفة المفكر التعميم، ولا يجوز التعميم انطلاقا من حالة مصر. هذا مع العلم أننا لم نتكلم عن تركيا، ولا عن إندونيسيا، ولا عن إيران. ثم قلت، لو سمحت لي سيدي آلان عندي سؤال دقيق، هل اطلعت على بعض الخطب الدينية داخل مساجد فرنسا؟، هنا بدأ يتكلم ويتكلم إلى أن سمعته يقول، وأنا أنقل كلامه الأخير بمنتهى الأمانة: أنا لست مسلما، أنا فرنسي يساري بالأساس، ولا يمكنني أن أتدخل في المسائل الداخلية للمسلمين.

قلت: ما أعرفه عن آلان غريش الذي قرأت أهم مؤلفاته، ولا أزال أقرأ له باستمرار في “لوموند ديبلوماتيك”، أنه يناضل من أجل حق المسلمين الفرنسيين في الاندماج الكامل داخل الجمهورية الفرنسية، لكن الزعم بأنك لا تستطيع التدخل في مسائلهم الخاصة، وأنت المدافع الأوّل عنهم كما يبدو، فهذا يعني أنك تعود في الأخير لكي تقر بأن الأمر متعلق بموضوع خارجي، بشأن يخص طائفة بعينها، أو على الأصح، بـ“غيتو” مغلق داخل الجمهورية الفرنسية. أليس ذلك ما يزعمه اليمين المتطرف؟

فهمتُ من ملامح وجهه بأنه انزعج. فحاول أن يقاطعني، لكني تابعت الكلام بنبرة مختلفة عساني ألطف الأجواء: سيدي نحترم جهودك وأنت تحارب الإسلاموفوبيا داخل فرنسا، وهنا بالذات لديك ما تقوله للفرنسيين، إلاّ أن الكثير من المسلمين قد يأخذون كلامك بالمقلوب أو هذا ما نخشاه، إذ يجعلون من رؤيتك دليلا على أن الإسلاموفوبيا هي الشر المطلق حتى في المغرب أو تونس أو مصر أو السعودية، وهذه مفارقة لا تستقيم، بينما إذا جاز لنا أن نعتبر الكراهية هي “الشر المطلق”، فإن لها تجليات أخرى عندنا غير الإسلاموفوبيا. ولكي تكون جهود محاربة الإسلاموفوبيا داخل فرنسا متوازنة فيجب أن تتكامل مع جهود محاربة التعصب الديني داخل مجتمعاتنا، سواء تعلق الأمر بدول الجنوب، أو ضواحي المدن الغربية. هذا إذا أردنا أن ننجح في تحقيق السلام.

أخيرا، أريد أن أختم بالتعبير عن مشاعري الدفينة: من خلال مؤلفاتك العميقة وكتاباتك الرصينة ومحاوراتك الشهيرة مع كارولين فوريست مثلا، أشعر بأنك تحبنا كمسلمين، وأعرف أن من يكرهنا لا يمكنه أن يفهمنا، فنحن نحتاج إلى من يحبنا، لا نحتاج إلى من ينظر إلينا كمجرد إرهابيين ومتطرفين، لأننا لسنا دائما كذلك، وإن وزيرة التعليم الفرنسي نجاة بلقاسم لهي من أصل مغربي كما تعلمون، وهي دليل مقبول على أن التطرف ليس مرضا مزمنا فينا، لكنه مرض مهما بلغت وطأته فهو قابل للعلاج. نحبك يا آلان لأنك تحبنا، لكن المؤكد أن من يحبنا أكثر من اللزوم لا يمكنه أن يفهمنا أيضا، وهذا ما نخشاه. كان تروتسكي يحذر الاتحاد السوفييتي من أصدقائه وليس من أعدائه. نحن لسنا مجرّد ضحايا، نحن مسؤولون عن مصائرنا. نأمل أن ينظر إلينا أصدقاؤنا بهذا النحو من الصدق والنزاهة والوضوح.
نقلا عن العرب