10 أبريل، 2024 9:54 ص
Search
Close this search box.

حوار الشمال والجنوب..

Facebook
Twitter
LinkedIn
كراقصات الباليه الكلاسيكي على خشبة قصر رويال(Royal) الفرنسي.. بدتكارلا الاسبانية متألقةبجمالها الأخاذ.. بحركاتخفيفة رشيقة.. اتجهت نحوي صاحبة الشعر الكستاني.. بابتسامة عريضة وبلكنة أندلسية واضحة.. باغثتني مرافقة الأمير بالسؤال.. قالت: أنا اسمي كلارا ذي دييكو.. لاتينيةالأصل.. أعشق صوت القيثارة.. ورقصة الفلامينكو.. لقدسررت بتواجدي بينكم هنا.. بلادكم جنة الفردوس.. أعشقها حد الجنون.. وانت من أين جئت؟.. قبل أن أشرع في رد المجاملة.. والجواب عن السؤال الغريب.. مدت يدها النحيفة لتصافحني..خطوة اعتبرتها (هي) قمة في الذكاء.. بينما (أنا) اعتبرتها دهاء واستخفافا مني.. كيف ان تسألني مثل هذا السؤال؟..
لم أكن أدري سبب تربصها بي.. ولا سبب ملاحقة سؤالها لي.. ولماذا كل هذا الاهتمام بي؟..رغم أن القصر كان يعج بالمحتفى بهم.. حجوامن كل الأقطاب.. حاولت الفهم.. علي اهتدي للحقيقة.. إلا أن الأجوبة كانت أكثرغموضا من الأسئلة.. أصرت مرافقة الأمير على أن تفضح سري.. وتسلط الضوء على الجراح.. ربما كانت درجة الفضول لديها عالية.. ربما حدسها الثاقب هو من ساقها نحوي صدفة.. ربما ملامح وجهي لم تعد تشبه ملامح غيري.. أو ربما لباس الأميراتالذي كان يلبسني لم يناسب جسدي..أو ربما كانت ألوان قوس قزح الملطخة فوق جفوني.. وراءهذا الاهتمام الزائد.. فرضياتتصارعتفي الأذهان.. لتنال حظها من الجواب.. فبعد عملية التحري والتقصي.. اهتديت للصواب.. مفاده أن.. مستوى فضول كلارا.. لم يكن في مستوى ظنوني.. أدركت حينها أن الاهتمام لم يكن لذاتي.. بل لاهتمام الأمير بي.. تلك رغبة جانحة في تملك المعلومة.. بل لتملكنا نحن الاثنين.. كلما حاولت الاختفاء أو الابتعاد.. قامت كلارا بملاحقتي مع سبق التربص والإصرار..
أثارت كلارا غضبي وأحرجني سؤالها الغيرمتوقع.. مصرة أنا أن أبقى هادئة مهذبة.. مصرة هي أن تذكرني بالحروب الصليبية.. ماذا أقول لكلارا المفتخرة بتاريخها.. باسمها ونسبها.. بمرافقة الأمير وبأصلها؟.. أو ماذا عساي أن أقول “لذي دييكو” أبيها عن سعادة ابنته لانتمائها لإسبانيا العظمى؟.. كل شيء فيها كان يتحدث عن سعادة كلارا.. وعظمة اسبانيا.. بكل جبن.. حاولت الفرار في كل اتجاه.. استغليت كل الفرص للهروب نحو الأمام.. تارة نحو الجنوب وتارة نحو الشمال.. علي أفلت منها ومن الجواب.. ماذا أقول عن اسمي، كادت تمحيه أمواج البحار.. هل سأحدثها عن الأجنحة المكسورة.. أم عن الذات المجروحة.. أم عن اسمي الأسطورة.. أم عن سبب وجودي في المأزق هنا؟..لست ادري.. هل أنسحب من الحوار كالجبانة.. وأترك المكان خرابا؟.. أم أكذب وأتجمل كي أبدو أكثر جمالا؟.. لست أدري.. كلارا تنتظر مني جوابا.. فأين المفر؟.. قرار صعب للغاية علي اتخاذه وحدي ككل مرة.. سمعت صوتا هاتفا نابعا من أعماقي يملأ السماء.. يجيبها ” Nich the thiraly’’”.. أسيرة الماضي.. أسيرة الأمير.. أنا بنت الجنوب والشمال.. أغني الحرية في كل مكان.. أنشر الشعر والنثر كي أبقى ذكرى للإنسان.. أبحث عن أم وأب يعرفني.. عن وطن أرسو فيه بظلالي.. أكتب عليه اسمي.. حتى لا ينسى من بعدي..
كلارا: تشرفت بمعرفتك.. يا سيدتي
ابتسمت كلارا مستغربة لجوابي.. ربما اعتبرته مزحة مني.. ربما لم تفهم قصدي.. محدقة في عيني قائلة : “كم هو رائع أن يلتقي الشمال والجنوب في القصر.. أقصد أن نلتقي هنا نحن الاثنين.. بهذه الجملة المركزة استرسلت حديثها كلارا مرافقة الأمير.. نظراتها أصبحت أكثر حدة.. وأسئلتها أصبحت أكثر شراسة.. من ذي قبل.. فلا مجال بعد الآن للفرار نحو الخلف.. فراسة كلارا وحدسها الثاقب.. كان يقيها من كل الأخطاء.. فمعرفتها لخبايا الذاكرة المنسية.. والغوص في أغوار المملكة السعيدة.. جعلها تهتم بكل تفاصيل حياتي..
فأثناء تشمري للنيل من كلارا الغجرية.. قام النادل بالتدخل السريع ليقف بيننا.. بل لكي ينقذ البلاد من الأزمة الديبلوماسية.. توجه النادل نحوها : “ماذا تفضل أن تشرب سيدتي.. أأصب الشاي أم المدام ؟”.. أتفضلين البقاء هنا أم الذهاب للحديقة المجاورة.. حيث الأميرات والأنغام.. هكذا أراد النادل إغراء كلارا الاسبانية.. حتى يبعد شري عنها.. ويتموقع الرجل ضدي.. بكل استماتة، أراد النادل إبعادها عني.. حتى لا تأخذنا أطراف الحديث.. ويفضح أمر الحاجب.. الذي كان يتربص بنا من هناك..
” أشكرك، أفضل كأسا من الشاي المنعنع رجاء”.. هكذا أجابت مرافقة الأمير واثقة.. “أفضل شرب الشاي على طريقتكم.. حتى لا أنسى من أنتم.. دونت تاريخكم.. وزرت أرضكم.. عدة مرات.. إلا أن هذه المرة، سوف يكون للزيارة طعم مختلف” أضافت كلارا مرافقة الأمير ضاحكة..
أدركت حينها أن الأمير لم يكن مخطئا في اختيار كلارا لترافقه.. ذكاؤها يكاد يجعل المرء يصدق أن الشمال والجنوب توأم.. وأن طعم الحياة فيهما واحد.. حدثتني كلارا السعيدة عن شموخ الجبال.. وعن جمال الصحراء.. إلا أنها تفادت أن تحدثني عن الشمس والإنسان.. أظن أن رفيقة الأمير مارست رياضة القفز على الحقائق.. لأسباب اعتبرت أنني عنها غافلة…
في سياق الكلام.. بدوري لم أفوت فرصة الحديث عن الثغور والبحار.. عن جبل طارق.. والحكم الذاتي والإقليم الباسكي.. عن مدى الألم الذي تسببه الكوريدا للثيران.. وعن العداء الذي قد يسببه السكوت عن الحيف في الجنوب.. ولامبالاة الجارة في الشمال.. احمرت وجنتا مرافقة الأمير… حينما أحست بالخزي والعار… ذكرتها.. عل الذكرى تنفع الكفار.. في لحظة حاولت فيه النسيان.. احمرار وجنتيها أضاءت المكان.. اعتبرته كلارا درسا من الجنوبب للشمال.. بينما اعتبره الحجاج تطاولا مني على الجيران.. فمن نبل أخلاقي قمت مقامه بتهدئة الأمر.. بتغيير الوجهة
نحو الشرق.. للتخفيف عنها من وطأة الوقع.. حدثتها عن إعجابي بالقصر الأحمر.. وحدائقه البديعة.. عن نظارة وجهها ونظافة المدينتين.. وعن رقصة الفلامينكو وترحال الغجر.. توقفت كلارا دقيقة عن الكلام… تلتقط أنفاسها وتبحث عن أفكارها.. عن بوصلتها لتدلها.. عن كلبها مني يحميها.. صدقوني، إن كلارا قوية بالفعل.. مجددا، تعود لتسألني.. عن رياضتي وهوياتي المفضلة.. محاولة منها احتواء الوضع وتلطيف الأجواء.. بأحمر شفاهها.. تريد إعادة رسم الحدود.. نسيت أنني بوهمية في الأصل.. أكره الحدود.. وأرفض القيود..
فجهلها للرياح الجنوبية ولي.. جعلها تخسر كل الرهان معي.. للتفوق معنى آخر غير الذي تعرضه كلارا علي اليوم.. لم أجد أفضل من الحديث عن قطتي لإخراجي من هذا المأزق المتشنج.. حدثتها عن أسرار الهامش.. وعن كوخي البسيط.. عن الخبز الحافي والشمس الحارقة.. عن جدتي التي ماتت قبل أن تسمع قصتي.. عن الأمير الذي لم أجد له قبرا في حيي.. عن الإنسان المبهم الذي أحمله بداخلي.. عن مملكة الجنون التي أسكنها وتسكنني.. عن الحجاج الذي يدعي إصرارا على الإصرار ظلمي له..
دعوت غريمتي لزيارة عالمي.. قلت لها: ستسر برؤيتك قطتي.. حاولت إقناعها بكل استماتة.. علي أقنعها للخلي عن كبريائها.. نسيت أن تلبية الدعوة تستدعي شجاعة الكبار.. بل تواضع وانحناء الشمال.. اعتبرتني فيلسوفة… قلت : “لا يا سيدتي، بل أنا حالمة مجنونة..
إيقاع حديثنا المتميز، جعل الحاجب يمشي على أصابعه كراقصات البالي.. يرقص فضولا.. غيضا.. خوفا.. وتوجسا.. فمن حسن حظه، لم تنتبه كلارا لحماقاته.. لجعلت منه موضوع اهتمامها بدلا مني.. حيث لا ينفع الندم ولا التملق..
فبعيدا عن الحاجب والحجاج.. وجدت كارلا نفسها أمام الطبيعة والإنسان.. حيث نطقت شعرا: “حبك الكبير للقطط يذكرني بالملوك الفرنسية وبالقديس Léon XII والقطةMicétto.. إن اختياركم سيدتي لهذا الصنف من الحيوانات الأليفة لم يكن محض الصدفة.. فالقطط ذكية وراقية ومؤنسة أيضا.. إلا أنها تجعل من سيدها عبدا يخدمها.. هذا ما يزعجني فيها.. بينما الكلاب ترى في صاحبها إلها تعبده.. لهذا السبب أفضل دائما مرافقتها”… بدأ الغموض ينجلي شيئا فشيئا.. وبدأت المسافات الطبيعية تأخذ مكانها بيننا.. ليبدأ التباين في أخذ نصيبه بيننا.. فشتان بين “كلارا الإسبانية السعيدة التي تتحدث بلغتها” و”Thiraly الأسيرة المجبرة على أن تتحدث بلسان غيرها”… بين “القطط اللئيمة” و”الكلاب الوفية”.. بين من يرى في كلام كارلا إسعادا لغيره.. وبين من يرى فيما أكتبه سبا له وظلما لغيره.. فشتان بين من يحمل السلاح لإسعاد كلارا.. ومن يحمله لإخماد حماسي أنا.. وجدت نفسي أسألها بدوري عن حرارة الشمس في إسبانيا.. وعن كلبها.. الذي لم تخبرني عن اسمه.. قلت ربما كانت إليه مشتاقة.. ابتسمت كارلا ابتسامة صادقة.. قالت أشكرك لاهتمامك بهابي Happy… كلبي الذي لا يفارقني.. منه استمد سعادتي.. يتقن جميع لغات العالم.. يمتثل لأوامري.. بل يحبني.. حديث كلارا عن Happy بإعجاب واعتزاز كبيرين… لساعات طويلة… خيل لي أن هابي Happy مواطن من النبلاء… جعلني أراجع أوراقي… حديثها عن الكلب أنساها الإهانة.. وجعلها تحس بالأمان.. بعثت من خلاله أكثر من رسالة حب لإسبانيا.. كدت أجزم في سياق حديثها.. أن الشمس تشرق من إسبانيا.. وأن الكلاب فيها سعيدة.. والإنسان في إسبانيا إلها.. أدركت مع كلارا أشياء كثيرة.. زادتني حبا لقضيتي.. وتمسكا بقطتي.. وافتخارا بكتاباتي.. فمحبتي لكل من مر من هنا وفهم قصتي.. ومعذرة لمن رأى فيما أكتبه سبا ولم يفهم قصدي جيدا..

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب