في قصيدة بعنوان “حواريّة الموت”، يفجّر الشاعر العراقي سفاح عبد الكريم وجعه بمرثية كتبها في رثاء ولده الراحل، فتنقلب الكلمات إلى نحيب، والسطور إلى دمع، والقصيدة إلى صلاة منكسرة على عتبة الفقد.
ينتمي هذا النص إلى تقاليد الرثاء الشعبي العراقي، لكنه يتجاوزها إلى ما يشبه السيرة الحزينة لوجع إنساني خالص، فيه من الأسى ما يجعل القارئ يتلبّس حزن الشاعر وكأنه فقْده هو.
القصيدة، كما يشي عنوانها، تقوم على حواريّة مُمزقة بين الحي والميت، بين صوت الأب وصمت القبر، بين الذكرى والغياب. ولعل أبرز ما يلفت في موضوعها هو هذا التوهان بين الإنكار والاندهاش والذهول، حيث تتكرر أسئلة الفاجعة الأولى بصيغٍ عامية بليغة، مثل: “اشلون يبني اشگّد بچيت؟”، “وينك؟”، “اشلون حالك وانته نايٍم عالتراب؟” — وهي تساؤلات لا تطلب جوابًا، بل تشهد على صدمة لم تُهضم بعد، وعلى قلبٍ يئن تحت ركام الخسارة.
في ثنايا النص، يستدعي الشاعر أدق تفاصيل الرحيل، بدءًا من الجسد المسجّى على المغتسل، مرورًا بلحظات الدفن، وانتهاءً بما تركه الابن من ضحكات وألعاب وعطور وصدى في زوايا البيت.
يقول:
“اشلون ودعٍت الأهل غفله ومشيت؟
غيض طفّه اعيون بصرّك وانطفيت..”
إنها مرثية حسية بامتياز، لا تكتفي بمناحة وجدانية عامة، بل تنبش التفاصيل الصغيرة التي تخلّفها الفجائع الكبرى، وتجعل من الذكرى جرحًا نابضًا.
اللغة والخيال الشعبي
اللغة هنا عامية عراقية صافية، ريفية النكهة، لكنها تحمل من الجمال والصدق ما يجعلها تتفوق على كثير من القصائد الفصيحة. فهي لا تتجمّل، ولا تبحث عن المجاز المصفى، بل تفيض من قلب مكلوم. وفي ثناياها، نلتقي بصور شعرية أخّاذة، منها:
“صورتّك ظميتها ابگلبي ونستني نقطّه بسطور الكتاب“
“اشراع سفّانك ينوّح ابواهسّك“
“امثلجّه اچفوفي وعساك اتشوفها“
هذه الصور، رغم بساطتها الظاهرية، تحفر في عمق الخيال، وتستولد من اليومي معاني رمزية ومشهدية عالية التأثير.
الإيقاع والموروث
من الناحية الإيقاعية، تميل القصيدة إلى أوزان الدارمي وأشباهها، وهي أوزان شعبية لا تلتزم بقيود العروض التقليدي، لكنها تحتفظ بإيقاع داخلي نابض بالعاطفة، يتصاعد مع تصاعد الانفعال. وتستلهم القصيدة تراث الرثاء العراقي الشفاهي، بما فيه من مناداة، وتوسل، وتكرار، واستفهام موجع، فتقول مثلاً:
“بويه چاوين المحابٍس والعطور وضحكتّك والواهليّه!؟“
“صافنه وتندهٌ خيّالّك.. وينك أنته أبيا زمان أبيا مسيّه!؟“
هذا التداخل بين الحزن الشخصي والأسلوب الجمعي يعطي النص بعدًا ثقافيًا، ويمنحه شرعية شعبية تجعل أي عراقي يشعر أنه معنيّ بهذا النداء.
ومن زاوية نفسية، تمثل القصيدة نموذجًا لما يسمى في علم النفس بـ”الرثاء الحواري”، أي أن يتحدث المفجوع مع فقيده كأنما لا يزال حاضرًا. هذا الحوار يُعدّ شكلًا من أشكال التعايش مع الصدمة، ويساعد على التخفيف من ألم الحداد المعقّد. ففي قوله:
“صورتّك عالباب تنشدني عليك.. وأنته تنشدني اعله حالي“
ينقلب الزمن، ويذوب الموت، ويصبح الغائب شاهدًا، والحاضر متخفيًا في ملامح الذكرى.
والقصيدة أيضًا تمثل تنفيسًا عاطفيًا عالي التوتر، يحاول فيه الأب أن يُسقط الدموع على الورق بدل أن يغصّ بها صدره، فيستحضر أدق التفاصيل — من ألعاب الطفولة إلى باب البيت، ومن رائحة الغرفة إلى بسمات المدارس — في محاولة لصياغة حضور غائب.
لوحة شعرية مفتوحة
فنيًا، لا تقوم القصيدة على هيكل تقليدي بمقدمة وذروة وخاتمة، بل تنساب كتيار وجداني غير قابل للحصر، يتحرك من صورة إلى أخرى بلا انتظام ظاهري، لكنه مشحون بمنطق البكاء الداخلي. وهذا الأسلوب يذكر باللوحات الانفعالية في الفن التشكيلي، حيث لا تلتزم الفرشاة بقواعد المنظور، بل تسيل الألوان كأنها نزيف مباشر من القلب.
ورغم كل هذا الحزن، لا تنتهي القصيدة على اليأس، بل تحاول أن تستنجد بالرجاء، حين يُذكر الإمام علي (عليه السلام) في البيت الختامي:
“أنته يمّ ،حيدر علي الكرار وگبالّك عساكر“
كأن الشاعر، وقد قال كل ما في القلب، يبحث أخيرًا عن معنى، أو عن عزاء، أو حتى عن شفاعة تمنح لابنه مكانًا بين الأخيار.
ختامًا “حواريّة الموت” ليست مجرد قصيدة رثاء، بل هي سجل وجداني لصوت أبٍ انكسر في أعماقه، فتحدث بصوت لا يخصه وحده، بل يمثل آلاف الآباء الذين وقفوا على بوابة المقبرة بعيون معلقة بالباب.
إنها قصيدة عن الموت، لكنها أيضًا عن الحب، عن الأبوة حين تصبح مفجوعة، وعن الشعر حين يكون حقيقيًا لا مدعًى — قصيدة لا تُقرأ فحسب، بل تُعاش وتُبكى.