19 ديسمبر، 2024 12:25 ص

حوارات زمن الشسمة … “ام دانيال المسيحية”

حوارات زمن الشسمة … “ام دانيال المسيحية”

ايليشوا العجوزة، ام دانيال المسيحية،  هكذا يناديها جيرانها، فصعب عليهم بلكنتهم البغدادية نطق اسمها الأول، البتاويين حيث لم يعد يمثل المسيحيون اغلبية وباتو جزرا متناثرة هنا وهناك في ذلك الحي القديم، والذي كان مستقرهم الأول حين هجروا من مناطقم قبل مئة عام.
“هذي مرية بيها البركة”، هكذا يعرف أهالي الجوار هذة المرأة الآثورية التي تجاوزت عقدها الثامن، وبين كنيسة مار عوديشو في الصناعة و”القشب” مع النسوة رفيقات الزمن الجميل، وصلوات ترميها بين الحين والآخر وهي جاثية أمام صورة قديسها الشهيد مار كيوركيس، تطلب شفاعته ليحقق لها حلمها في عودة بكرها وفلذة كبدها “دنو” دانيال، الذي غيبته حرب الثمان سنوات، تتلخص حياة تلك العجوز.
أمل مفقود، ما تبحث عنه ام دانيال، بعد ان تركها الأحبة وفلذات الكبد، تيادروس زوجها رقد منذ سنوات بجانب قبر دانيال الفارغ، بناتها اللواتي هاجرن الى بلاد الغربة، أقاربها واحبابها …
“بس دانيال عايش وراح يرجع فد يوم، واني لازم انتظره” هكذا تردد دائماً وهذا ما صرخت به بوجه القس يوشيا راعي الكنيسة، وهو يحاول ان يخبرها بالحاح بناتها لارغامها على الهجرة، رغم عدم اقتناعه بالأمر.
 يقدم احمد السعداوي بروايته، فرانكشتاين في بغداد، حال مسيحي العاصمة، وكم جانبه الصواب برسم صورة من عمق الواقع تلامس ما تعانيه هذة المجموعة الاصيلة من تحديات جمه في هذة الفوضى، بعد ان تركوا ليواجهوا مصيرهم المجهول بمفردهم.
لا امل لمن تبقى منهم سوى أحلام بماض جميل في “سنوات الخير”، ينتظرون بلهفة عودتها يوميا كما يفعل اغلب العراقيين، لكنهم غير مدركين ان تلك السنوات ماتت ودفنت منذ زمن بعيد، وأحلامهم هي محض جنون وخيال، فالميت لا يعود الى الحياة.
رغم مكابرتهم وتمسكهم بأرضهم، وإطلاقهم شعارات البقاء والصمود، الا ان الضغوط تتعاظم هي الأخرى يوما بعد يوم، مستنزفة طاقتهم في مقاومة مغريات الهجرة.
ورغم ان الكنيسة التي يظهرها السعداوي بشخص الأب يوشيا، ترفض هذة الهجرة وتدعو الى التمسك بالبقاء، الا ان رفضها لم يكن هو الآخر حازما، وهي تترك الأمور معلقة، ولا تقدم الحلول الناجعة، وتزيد من حيرة رعاياها في معالجة الكثير من الأزمات التي يتعرضون لها.
التهديدات، قانون الغابة، الفوضى، عوامل لم تدع للمسيحي فرصة في التفكير بمجموعة المقتنيات والتحف التراثية التي ما يزال محتفظ بها، حفنة من القيم الممزوجة بكثير من الثقافة والتعليم المتميز حينا وليس غالبا، هذا ما احتفظ بها مسيحيو بغداد، وهذا ما يميزهم طوال سنوات عن الآخرين فعبارة “هذا مسيحي ميجذب”، غدت لا تساوي شيئا في عالم اليوم.
هذة الجماعة استسلمت في نهاية المطاف الى كل تلك الضغوط، فيما فقدت قدرة المطاولة عندما وجدت نفسها وحيدة تتقاذفها أمواج خرائب بغداد، فقرر السعداوي، ان ينقذها من كل ذلك ويدفع بها الى حياة ملؤها امل جديد، ولكن في مكان آخر، فهو يدرك انها قادرة على بناء مستقبل واعد في اي بقعة من هذا العالم.