أن الكتابة في حقل و فضاء أسلوبية و مبنى فن القصة القصيرة جدا قد تبدو لنا تجربة تستحق من كاتبها الوقوف الطويل إزاء ممارسة تكثيفية شاقة من عملية الإيحاء و
التأويل و خلق الأشياء في أجواء شبه مختزلة و معزولة في أصوات جملة موصوفية ذات مؤشرات تصل الى حد ذخيرة التجريد و الترميز و الغرائبية و الفنتازيا غالبا . القاص الأستاذ حنون مجيد و عبر مجموعته الأولى ( حجر غزة ) و
مجموعته الثانية ( الخيانة العظمى ) و مجموعته الثالثة
( يموتون ولا يموت ) شاهدناه يصف حضور النص القصصي جدا عبر وسائط تصوير الأشياء المحكية و التشكيلية السردية ضمن علامات و لحظات موضوعية
عابرة الفكرة و التكوين و المحصلة الدلالية النهائية ، و كأنها
ممرات من اليسير عبورها في أية لحظة زوال قرائي . ففي تجربة أقاصيص مجموعة ( حجر غزة ) لعل أول ما يلاحظه
القارى ء في صناعة هذه التمثلات المحكية هو أنها محكيات يومية مجتزأة من زمن دلالات الراوي التجوالية في (البيت/
الشارع / الحبيبة / البقال / الكتابة ) و بمعنى آخر فأن القاص
مجيد راح يديم علاقاته النصية القصيرة ضمن أفق دال
( أستعادي ) ليبحث لذاته عن محكي ما من خلال ظواهر يومية خاصة بأتون حضورية أزمة ذاته الواصفة للأشياء المركزية كمحطة يسعى من خلالها كاتبها نفسه الى وصفها
داخل نسيج خيطي من موضوعة قصة قصيرة جدا . كحال قصة ( نظرته الأخيرة ) و قصة ( العلاقة ) و قصة ( ليس حبيبها ) وقصة ( طيور ) و قصة ( استعراف ) وقصة
( الصوت ) و أقاصيص أخرى عديدة في المجموعة . تحديدا في نصوص هذه المجموعة عاينا حركية الشخصية النصية أي الشخصية المرسومة في فضاء النص و متنه ، حيث تمتلك
جملة مصاحبات انعطافية و انفصالية عن حيز ممكنات التعيين المشترك في ماهية ( المجاورة ــ التطابق ) بل الأمر يتعدى الفكرة كوحدة مركزية و أداة مرجعية : ( القطة الجميلة
ذات الشعر الحرير .. تسللت عبر النافذة المفتوحة و نامت برغد تام على فراشه الوثير .. ما ألمها ركلته على ظهره لم تعرف القطة أن هذا الذي يطعمها كان يرأف بها حسب و لكن ليس حبيبها ) يلجأ القاص مجيد في عوالم مخيلته الى تطريز
النص الأقصوصي نحو أجواء توظيف أسلوبية ( المفارقة المخالفة ) وصولا منه الى الأستعانة الديمومية في متابعة
توغل مكانية المبئر الى أقصى حالات الحركة اللقطاتية في أقسام القطع و العودة الى مساحة فعل و علامة ( السرد /
المونتاج ) غير أن ما يعوز نصوص مجاميع القاص في الوقت نفسه و في شكل أجمالي تام هو مجال دليل ( الناشئة التوليدية ) الجادة في صنيع تمظهرات و تفصيلات الموصوف السردي .إذ أننا و نحن نقرأ قصة ( طيور ) و قصة ( الصوت ) و قصة (الناظور ) وقصة ( لا حياة ) للأسف لم نلاحظ بأن هناك توفر حقيقي للحدود الكاملة فنيا و رؤيويا و موضوعيا لمشترطات الوحدة التنصيصية المؤثرة
و المقنعة قرائيا . بل أنها أي موضوعات الأقاصيص جاءتنا في البعض منها و كأنها ( نزهة مخيلة في شوارع الصور العابثة ) بيد أنها تبدو قريبة من حدود أسلوبية اللقطات الكامرية العابرة و التي بلا دليل ما و بلا بوصلة ما . كما الحال عليه وجدناه في أقاصيص مجموعة ( الخيانة العظمى )
مجرد توليفات صورية مضاف أليها أسلوب وصف تخاطري حل بموجب مقصدية صياغية قد لا تكترث إلا بإيراد للمزيد من مشاهد ترتيب اللقطات الصورية و دون أدنى توفر حالة من حالات الفاصل الأنتاجي التقاني . و الحال قرأناه في قصة
( النساء ) و قصة ( الهامش ) و قصة ( ولا الناس ) و قصة
( الخيانة العظمى ) و قصة ( صورته الآن ) على أية حال هناك أقاصيص عديدة للقاص تستوجب منا الأشارة لها و الوقوف عندها تدقيقا و تمحيصا و نقدا ، إلا أنني أستأثرت
في الحقيقة المرور عليها سريعا و بمجرد التلويح العابر مني.
( التوليف اللقطاتي و مسرحة الموضوعة )
أن القارىء لعوالم المبدع الأستاذ حنون مجيد في مشروع أقاصيصه القصيرة جدا ، لربما كان عليه أولا إيتاح الفرصة
المناسبة لأنشاء معنى أنتاجي محدد في الأطار و الشكل و البنية و الموضوعة و التجنيس لحدود أيعازية بدء مشروعه القصصي جدا ، لا أن تظهر أقاصيصه الى مجال القراءة و قد بدت عبارة عن لقطات لا تتوفر في أغلبها أدنى شروط جمالية التنصيص الفني في مجال حكاية الأقصوصة . أن
فكرة و مفهوم فن القصة القصيرة جدا لا تتوقف و حدود حركة أعتباطية متصورة حصرا في مخيلة الناقل الفني ،
بل أنها تشكل شكلا وبنية فجائية من شأنها أولا و أخيرا خلق مفردات تفاصيل موضوعة دائرية الدال و المنحى ( زمانيةــ
مكانية ) و من جهة أخرى و أكثر أهمية أنها حالة من حالات التوتر لأحداث قد وقعت في شرك ديمومة داخلية غير مشخصة في حركة أي دلالة خارجية تبدو اظهارية في النص العام . أنها بعبارة موجزة أنطلاق المخيلة و تحقق خطابها الإجرائي من حدود رصد زوايا واقع غير مكشوف الآخر :
فيجيء التساؤل في نهاية كل نص غير مكشوف العلامة الدلالية الكلية للقارىء ؟ لقد سبق لنا و أن قرأنا عشرات النماذج من المؤلفات العربية و العالمية من نموذج فن القصة القصيرة جدا مما وجدناها قد جاءت تحت أسم الرمزية و الفنتازية و الكمونية ، أي أنها فن محير لحد وصول الأمر بالأقرار الكامل بأنه ليس من صلات حقيقية تربطه مع واقع الحياة اليومية بشكل مباشر. و لكن عندما نحيل أذهاننا نحو مشفرات هذا النص التأويلية و القياسية في دائرة مجسات مقصدياته الإحالية و الأيحائية ، سوف نعلم مدى فراسة و كياسة كاتب هذه النصوص القصيرة جدا ، و من ناحية أخرى
فأن عالم القصة القصيرة جدا يتضمن في معناه الكامن
( اتجاه معاكس ) في تكوين الشخصية و الحادثة و السقف الزمني و المكاني و اللعبة الفنية . و نحن نعلم دائما أن هذه العناصر في النص القصصي القصير جدا ، تبدو كوقائع مضغوطة و مختزلة و مبنية داخل فضاء متني سريع الأحداث . كما نعلم أيضا في الوقت نفسه بأن هذا النوع من
الجنس السردي يجب أن يكون في المحصلة الأخيرة عبارة عن ( ضربة موجعة ) و مدهشة و فجائية و غير متوقعة
أساسا من لدن ناصية التلقي الخطي في القراءة . غير أن ما وجدناه في أقاصيص تجربة الأستاذ المبدع حنون مجيد في مجاميعه الثلاثة لربما لا تقترب من خطية و مرجعية أصول
و نسق كتابة النص القصصي القصير جدا إلا من ناحية التسمية حصرا ، كذلك وجدناها أي أقاصيص الكاتب لا تتوفر على حدود هذا الجنس السردي إلا في مواضع بسيطة و نسبية جدا، بل أنها إجمالا تجارب يعوزها عنصر شعرية التأمل و التمحيص و المراجعة و المدروسية لحالات النفس الشيئية في شكل المركب التكويني في النص الصوري .
( تعليق القراءة )
و في حدود هذه المحطة الأخيرة من زمن مبحث مقالنا السريع لا أود في الواقع أن أعلق على أية حالة من حالات
النصوص سوى ولعي في الأشارة حول ما قاله الدكتور الفاضل عبد الواحد محمد في مقدمته التي كان قد كتبها
لمجموعة القاص ( يموتون ولا يموت ) و كان عبد الواحد
محمد في الوقت نفسه قد تولى أمر ترجمتها الى اللغة الأنجليزية . و في صدد المقدمة للمجموعة ذكر الأديب
المترجم عبد الواحد محمد مثل هذا التصدير المقدماتي
( في هذه القصص لا توجد حبكات معقدة ولا أبنية سردية
ضخمة بل يوجد ما أسميه نكهة سردية تظهر في اللقطات الذكية الخاطفة من الحياة اليومية بحمولات و تأملات فلسفية
ونفسية ) أن ما ذكره عبد الواحد محمد في بعض لمساته
الواعية لربما نستطيع من أن نرجحها الى كفة الصواب
و المعيارية وخاصة في فقرة قوله حصرا ( بحمولات و تأملات فلسفية و نفسية ) غير أنني في الوقت نفسه لا أجدني
أتفق و إياه في ما قاله من أن القصة القصيرة جدا ما هي
ألا أسلوب فني بلا حبكات معقدة ولا أتفق و إياه على ما قاله
بأنها أي القصة القصيرة جدا بلا أبنية ضخمة ، أيضا ما قاله
في أخيرية قوله مشبها عوالم القصة القصيرة جدا ب(نكهة
سردية ) أنا شخصيا قرأت من النصوص القصصية القصيرة جدا ما لفظت من خلالها آخر أنفاسي القرائية و ذلك تبعا لصعوبة وعقدة أبنيتها الدلالية اللاأستقرارية ، على حين غرى قرأت روايات طويلة في الأحداث والشخصيات و
البناء و التشكيل و التقانة و ألمعية الحداثة ، ولكنني لم أواجه
أدنى صعوبة أستيعابية و ذوقية و فهمية في مكوناتها الإجرائية إجمالا ، في حين أنني أتذكر قد واجهت صعوبة عظيمة في فهم قصة قصيرة جدا للكاتب العالمي موبسان و تيشخوف و أدغار الآن بو : عزيزي حضرة الدكتور عبد
الواحد محمد أن ثبات القيم الاسلوبية و الجمالية و البنائية و العلامية في فن القصة القصيرة جدا لا تكمن في مرتفعات
سطوحها ولا في أطنان صفحاتها ، بل تكمن صعوبتها في قوة معطياتها التطبيقية و الاستدلالية و الأيحائية و معيارية حساسيتها الرؤيوية حصرا و بالتالي تكمن في ضربتها الفنية الأخيرة الأنفراجية . بالمناسبة أود أن أضيف أمرا ما للقارىء
تحديدا ، ليس في عالم النصوص السردية ثمة تسمية يقال عنها ب ( نكهة سردية ) فهذه الاصطلاحية شخصية بحته
وذلك لأن كل النصوص الأجناسية في أسلوبية السرد كلها
بلا أستثناء خاضعة لنظام تجنيسي مفهومي و إجرائي مصدره
النظرية الاصولية الكاملة في نشأة النص البدئية ، ولو افترضنا جدلا بأن القصة القصيرة جدا تحمل محض نكهة سردية لفضلنا وضعها في خانة و فصيلة الحمضيات مثلا و
روائح الليمون و التوابل . ينبغي عليك يا دكتور ؟ مراجعة مصادر و دفاتر نصوص الأدب السردي القصير جدا في
العالم العربي و العالمي و معرفة أهم كتاب هذا الفن و كيفية تمييز ما هو صائب و غير صائب فيه . الآن حان لي أن أعود
عبر وقفة تقويمية مع الأستاذ حنون مجيد و استعراض تأريخه السردي الجميل و المؤثر : عزيزي الأستاذ حنون مجيد أنا أعلم بعوالمك السردية أكثر من غيري و ذلك بحكم
كوني من أكبر المتتبعين لكتاباتك في مجال القصة القصيرة و الرواية على وجه التحديد . في عالم الرواية تحديدا لديك منظور سردي لا يتسع إلا لمجال و رؤية و بيئة متعددة الشخصية و المكان و الزمان و تقلبات الحبكة في تمظهرات
الخطاطة المحكية في الرواية . أن ما قرأناه في روايتك الجميلة ( مملكة البيت السعيد ) لاشك منها و لا ألتباس
يغمرها من أنها كانت فوق مستوى تجارب روائية عراقية
عديدة ، مما جعلك في مكان يصعب النزول منه في كتابة الرواية وذلك تبعا لكفاءة الإداء الروائي الحاذق و الهام
في تجربة هذه الرواية . فضلا عن هذا تبقى أدواتك السردية ذات رؤية شاملة في طبيعة الأعداد و التكوين في الشكل الروائي و في نطاق تصوري واسع في الأتصال الحواري و المشهدي المتعدد في صناعة الرواية . كل ما أود قوله لك حصرا أن مجال فن الأقاصيص القصيرة جدا لا يناسب ارتسامية و حجم ذخيرتك السردية المبدعة في الرواية ، و ذلك بسبب أن عوالم النصوص السردية القصيرة جدا تتطلب من كاتبها شكلا خاصا في إداء التوغل عمقا في طقوس رؤية منفصلة عن مشاعر وفطرة رسم الأشياء و صورها تحت ضوء مصباح مضاء في شكل كامل وكلي . أي بمعنى ما مباشر أقول أن كتابة القصة القصيرة جدا لا تتطلب رؤية
أجهارية واضحة التفاصيل و الزوايا و المداليل . بل أنها فن مخطوطة الشك و التداخل و الانجاز الموحي الذي يصعب الاحاطة بأصواته ودلالاته في سراديب المعنى اللااستقراري
أو المعنى اللامحتمل .