19 ديسمبر، 2024 12:42 ص

حميد العقابي ، الاصغاء الى الرماد بتأن

حميد العقابي ، الاصغاء الى الرماد بتأن

ينفردُ بذكرياته ، يقلّبها
يُصلحُ هيأتها ، يرممُ ما تآكل منها
وكقبلة تبحثُ عن فمٍ
يبحثُ لها عن موضع قدم في الزحام
لكن ، أسئلة تتعاظم ُ
تهجسُ ، تتوجسُ ، تشتعلُ ، تتجمرُ
ثم تنطفىءُ عند سقوط  رذاذ القادم عليها
يظل يصغي إلى رمادهِ !

بهذه القصيدة الجميلة يفتتح حميد العقابي كتابه الممتع  «أصغي إلى رمادي» الصادر عن دار الينابيع في دمشق والذي هو عبارة عن سيرة ذاتية لشاعر عاش الفقر والحرمان والسجن والنفي والحرب والموت والحب ليقف على تلة عالية ينظر الى رماده الذي تناثر ما بين ساحات الحروب والأسر والمطاردة والسجن والمنفى، محاولاً ترميمه لكن قوة الحدث لا تمكنه من هذا الترميم الذي ظل فيه يصغي فقط لهذا الرماد وهو يتطاير في ظل التحولات الدراماتيكية التي عصفت بحياته وجعلته مثل غصن شجرة آيل للسقوط، لكن أسئلة الشاعر تتعالى وتكبر في ظل الترحال والانتقال من بلد الى آخر فمن مدينة الكوت العراقية الى جبهات الحرب مع الجارة ايران الى الأسر ومن ثم الانتقال الى دمشق ومنها الى الدانمارك، يصور سيرته هذه بعد أن أمسك بيده المسبحة داخل مقهى دانماركي ليباغته أحد الدانماركيين بسؤال عن ( المسبحة) وما فائدتها ؟ منذ ذلك السؤال الذي داهمه ظل حميد العقابي يدور في رأسه شريط الذكريات الطويل الذي أجج في داخله حياة مفعمة بالآلم والفجيعة والموت ليكون شاهداً أميناً على خراب حياته وضياعها في سنوات طويلة من الحرب والمنفى!

ولعل مأساة الحرب ودمارها ألقت بظلالها على الانسان العراقي وجعلته يجر خيباته الواحدة بعد الأخرى الأمر الذي أصبح فيه الموت الخيار الأفضل للانسان الذي زج به في حرب لا أول لها ولا آخر كما كانت الحرب العراقية الايرانية التي عاشها وذهب ضحيتها مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمعاقين مخلفة وراءها مئات الآلاف من اليتامى والأرامل، وبغض النظر عن من بدأ الحرب ومن شنها على الآخر لكنها تبقى حرباً خاسرة للطرفين ولم تكن الحروب يوماً من الأيام فيها منتصر ! هذا ما سوف نلاحظه ونؤشر له من خلال قراءتنا لهذه السيرة الروائية الممتعة في فصولها التي يبتدأها في مقدمة رائعة عن الوجود والعدم ذلك الكتاب الذي تأبطه يوماً ما في طفولته لتبدأ معه رحلة ممتعة مع الأدب والفلسفة بعد أن أشرّت ابنة الجيران عليه وقالت هذا شاعر.

في هذا الكتاب الذي يسرد فيه رحلة طويلة عريضة مع الألم، استطاع الشاعر والكاتب العراقي المبدع حميد العقابي أن يجسد صور المعاناة الانسانية الحقيقة التي ترسخت في الذاكرة العراقية المحملة بالمآسي والآلام الكثيرة في سنوات الثمانينات من القرن الماضي،  فقد أكد هذا الشاعر الذي كتب سيرة ذاتية  كما أطلق على تسميتها بينما هي تندرج من وجهة نظري الشخصية ضمن العمل الروائي ذو القيمة الإبداعية العالية والتي  قلّ نظيرها في هذا الزمن الرديء الذي تحول الجميل فيه الى قبيح وبالعكس، هذا الإصدار الذي يندرج ضمن أدب السيرة والذي هو الأقرب الى العمل الروائي يسرد ويسلسل الأحداث بطريقة فنية  تجعل  القارىء  يسترسل بالقراءة التي تفوح منها رائحة الشعر، حيث ان النص مكتوب بطريقة شعرية كون حميد العقابي شاعر متمكن من أدواته، فأحياناً يذهب الشاعر عندما يهم بكتابة عمل روائي الى داخل منطقته الشعرية ليبق متفاعلاً مع سرده الأمر الذي يتضح جلياً ويتحدد في الكثير من الصياغات الشعرية التي تضفي جمالية على النص الروائي وهذا ما حدث فعلاً، فينقلك العقابي في كتابه «أصغي الى رمادي» الى عوالم واقعية، كارثية، ومعقدة في ذات الوقت، فيسرد لنا جل المعاناة التي عاشها في العراق ومن ثم هروبه وأسره في إيران. وبعد مأساة الحرب العراقية الإيرانية التي أكلت الأخضر واليابس على مدى ثمان سنوات عملت ماكنة الحرب على تدمير كل شيء داخل العراق، مما أدى إلى أن تكون ثروات العراق النفطية الهائلة كلها مسخرة لخدمة وتمويل هذه الحرب مع خسائر بشرية لا تعد ولا تحصى.

لم يكن أمام حميد العقابي سائق الدبابة في احدى وحدات الجيش العراق غير خيارين، إما الموت في الحرب المفروضة عليه واما الهرب الى ايران الجارة العدوة التي نخوض معها الحرب ولا خيار آخر لديه، وكان قد فضل الخيار الثاني ليتمكن من الحفاظ على حياته، لكنه غير متأكد من الحفاظ عليها أمام دولة مثل ايران كانت تنتقم من كل العراقيين خاصة الذين كانوا جنوداً في جبهات القتال، ويقع في مطب الاعتقالات والسجن. ولعل العقابي هنا في هذا الكتاب قد صور تصويراً دقيقاً جداً لما حدث داخل السجون الايرانية التي كانت تعتقل العراقيين الهاربين من الحرب أو الأسرى الذين تم أسرهم أثناء الهجومات التي كانت تشنها القوات الايرانية على  الجيش العراقي في حرب الثمان سنوات.

ومن ثم يتمكن بذكائه بأن ينجو ويذهب الى دمشق ويستقر بها لشهور  ومنها يحصل على اللجوء  في الدنمارك لتبدأ رحلة جديدة مع هذا الشاعر الذي كان يصف الأشياء ويتعامل معها بمهارة ودقة الساعاتي الذي يقوم بتصليح ساعة ما . لقد طرح أسئلته عبر كتابه هذا وكانت أسئلة مهمة للغاية وهو يسرد تجاربه الحياتية المُرّة منذ طفولته التي عاشها في بيئة شعبية في مدينة الكوت، بيئة محافظة تمتثل الى القيم الاسلامية الصرفة الى أن كبر حتى انتمى الى الحزب الشيوعي العراقي في شبابه وما لبث حتى حلت مطاردة الشيوعيين أواخر العقد السبعيني من قبل السلطة آنذاك لينفتح عليه باب المطاردة الذي تم فيه اعتقال الأخ الأكبر  «مهدي» (مات في زنازين النظام مع الكثير من رفاقه المغيبين في سجون ومعتقلات النظام في ذلك الوقت).

ومن ثم يذكر العقابي الخيارات الصعبة عقب الهرب إلى إيران، ومنها تفكيره بهرب آخر إلى باكستان بعد أن شاهد معاملة الإيرانيين مع الأسرى العراقيين بطريقة مذلة ولم يفلح بمحاولة الإفلات إلى باكستان ليبق داخل المعتقلات الايرانية التي رأى فيها كيف يمسخون الإنسان في سجنه ومعاملته بالذل والاستشفاء بكل العذابات، مأساة عالية الدراما داخل السجون الايرانية للأسرى وللعراقيين المهجرين بحجة التبعية لايران أوالهاربين من الحرب وويلاتها، كل هؤلاء ذاقوا العذاب المّر في معتقلات الجارة، لكن شاعرنا كان يراقب المشهد عن كثب ليسجله في رأسه ريثما ينجو يوماً من الأيام من هذا الأسر كي يتمكن من تدوينه وهذا ما حصل فعلاً بعد سنوات طويلة حين وصل الدانمارك كلاجئ.

 ولعل بعض مراسلاته قد أسهمت في وصوله إلى دمشق التي انطلق منها الى الدانمارك، ستة أشهر يقضيها الكاتب في دمشق ليتعرف على عوالم جديدة في تنفسه للحرية والحياة بعيداً عن الحرب وويلاتها التي لم تتوقف ساعة واحدة حيث طوابير الجنائز كانت على طول الطريق، كل هذه الأحداث السوداوية استطاع الكاتب حميد العقابي الافلات منها بقدرة قادر وهو  يقف على جبل قاسيون الدمشقي ليتذكر اصغائه الى ذلك الرماد في سنينه التي ذهبت في الحرب والمعتقل ويعود لاطلاق أسئلة تعج في المشهد الدرامي الذي تناوله في كتابه هذا، انه يصغي بكل جوارحه الى هذه السنين التي سرقت من العمر وأصبحت كالرماد . وهكذا، ثم يختتم روايته أو سيرته وهو يصغي الى ذلك الرماد بهذه الخاتمة الجميلة :

« لا حباً، بل لأني سأعودُ يوماً، أصلحُ هيأته، وحينما أتجاوزُ أفق الحاضر أكون قد حنطتُ سلالة من الأخطاء التي سأعود إليها يوماً، أصلحُ هياتها وأدعوها لنقطع السبيل معاً، نكرز مواعظنا الخاطئة التي سنحنطها، لا حباً بل لأننا سنعود إليها، نصلحُ فطنتها . الفطنة التي ستدرك أننا سادرون في تيهنا» ..