أنقرة تكشف في كافة تصريحاتها الدبلوماسية عن وجهها الحقيقي ضمن منظومة الصراع العربي ضد الكيان الصهيوني، قوة إقليمية ذات عمق حضاري ورأسمال رمزي معتبر تختار أن تبدده ضمن حسابات تل أبيب ومن ورائها واشنطن.
يكفي أن نتوقف مليا عند تصريح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في قمة واشنطن حول محاربة الإرهاب لندرك طبيعة التقارب التركي – الحمساوي طيلة فترة موجات الربيع العربي، وبالضبط عقب تدشين الفصيل الفلسطيني لموسم الهجرة من دمشق.
حيث أكد وزير الخارجية التركي أن أنقرة عملت كل ما في وسعها من ضغط سياسي وأيديولوجي لاقتلاع اعتراف الحركة بإسرائيل والدخول في مفاوضات مباشرة تفضي في المحصلة إلى تسوية بين الطرفين. الحركة أكدت صحة الرواية التركية التي سلطت على الحركة طيلة فترة التقارب مع أنقرة، غير أنها شددت في المقابل على أنها لم ترضخ لسيف الضغوط ولم تحقق مرمى الأتراك ومآربهم السياسية.
غير أن التقاطع الحاصل بين التصريح التركي وإعلان حركة حماس عن ميثاقها السياسي الجديد القائم على الاكتفاء بالدولة الفلسطينية في حدود 1967 مع ما يكتنفه هذا الأمر من استدارة سياسية قد تفهم من خلاله رسائل غزل وتوادد مع المجتمع الدولي شبيهة بتلك التي أصدرتها منظمة التحرير الفلسطينية في مؤتمر الجزائر لسنة 1988، يشير لا فقط إلى وجود ضغوط إقليمية ودولية ضد الحركة للاعتراف بإسرائيل، وإنما أيضا لاستمرار هذه الضغوط والأهم وجود أطراف وازنة في حماس قد تقبل بهذا الخيار مرحليا على الأقل.
تكشف أنقرة في كافة تصريحاتها الدبلوماسية عن وجهها الحقيقي ضمن منظومة الصراع العربي ضد الكيان الصهيوني، قوة إقليمية ذات عمق حضاري ورأسمال رمزي معتبر تختار أن تبدده ضمن حسابات تل أبيب ومن ورائها واشنطن.
المفارقة التاريخية أن تركيا وفي قلب صراعها الإعلامي التكتيكي مع إسرائيل، وفي خضم صعود رجب طيب أردوغان فوق شجرة عنتريته الواهمة كانت توظف كل طاقاتها السياسية والإخوانية لصالح إسرائيل، ولفائدة المصلحة الإستراتيجية الصهيونية.
الدول الكبرى تستثمر رأسمالها الرمزي لصالح نصرة المظلوم ولتأمين الحقوق الوطنية المشروعة، وإن عجزت عن ذلك تعكف على صناعة حزام دبلوماسي وسياسي واقتصادي داعم لأصحاب القضية الوطنية، أما أن تستغل تركيا ظرفا إقليميا حرجا وقراءة حمساوية خاطئة لتداعيات الأحداث في الشرق الأوسط وتغليبا للمنطلقات الأيديولوجية على أمن الوطن العربي، فهذا الأمر يعتبر ممارسة وظيفية إستراتيجية وسياسية وثقافية وقانونية لصالح إسرائيل ولفائدة المزيد من التطبيع معها.
تبرق تركيا عبر هذا التصريح رسائل عديدة للفاعل الأميركي الجديد قوامها أنّها جزء من المنظومة الغربية الداعمة لإسرائيل، وأن جهدها لا ينصب فقط في دعم العلاقات الاقتصادية والسياسية مع تل أبيب وإنما وهذا هو الأهم أنها تعمل من داخل منظومة قوى الرفض لتليين المواقف وتنعيم المقاربات وإرخاء العقل المقاوم.
ترسل أنقرة من ذات التصريح إلى النادي الأوروبي وخاصة ألمانيا بأنّ إسرائيل التي تمثل الجرح النازف للذاكرة الألمانية تلقى من أنقرة دعما وتأييدا لا تجدهما من برلين والدول الغربية الأخرى، ولئن كانت ألمانيا تدفع لإسرائيل الملايين من الدولارات سنويا جراء الإبادة والتهجير، فإنّ تركيا تدافع عن تل أبيب بالتغيير الناعم للعقليات العربية والفلسطينية تحديدا وباستبدال أجندات التناقض سعيا إلى التوطين والتطبيع.
تركيا هي الواجهة، وإسرائيل هي الوجهة، هكذا تحدث أوغلو عن مسلسل مراودة حماس عن منطقها ومنطوقها، وهكذا أيضا تكشف شواهد أرشيف الوساطة التركية بين تل أبيب ودمشق قبل أن تكشف متأخرة، حبال المسرح وخيوط المسرحية، وقبل أن تستيقظ عن حقيقة العراب التركي بعد أن أمعن في الدماء والدمار في الشام.
الرمادية الحمساوية بين المقاومة والمساومة، بين الخنادق والفنادق، وبين أوسلو وميثاق التحرير الفلسطيني، بين فلسطين التاريخية حيث لا أرقام للجغرافيا، وبين فلسطين الأرقام والأحرف الإنكليزية والفرنسية، لا بد أن تنتهي فإما مقاومة واضحة ومحددة صحيحة مع العدو الصهيوني وإما تسويات سياسية صريحة مع الشريك الإسرائيلي.
أنصاف المواقف والمواقع هي التي تسمح للعراب التركي ولغيره من العرابين بالتدخل والاستثمار والاستغلال، ولتجيير النتائج المباشرة أو غيرها لصالح إسرائيل ولصالح تحسين رقمه وسعره في سوق النخاسة الدولي.
نقلا عن العرب