19 ديسمبر، 2024 3:56 ص

شهد عام 1998 نزوح العديد من الادباء والكتاب وبخاصة أساتذة الجامعات الى الاردن بأعتبار أن الاردن في تلك الفترة هي المنفذ الوحيد للعراقيين الذين يحاولون التخلص من الحصار والحياة الصعبة التي عاشوها في تلك الاوقات . وقد جاء عمّان الدكتور الناقد علي عباس علوان وهو أستاذ النقد الادبي الحديث في جامعة بغداد ومعه صديقه الدكتور سعيد الزبيدي المختص باللغة العربية ، ألتقيتهم للمرة الاولى في غاليري الفنيق حين كان لديهم موعداً مع البياتي ، كانوا يبحثون عن عملٍ في اختصاصهم في واحدة من الجامعات الاردنية ، وقد حاول البياتي أن يتصل ببعض الشخصيات الاردنية المتنفذة ليسهل لهم أمر تعيينهم . وبالفعل تم تعينهم في جامعة مؤتة . وفي جلسة جميلة أبلغني البياتي أن ثمة دعوة قد جائته لحضور حفل توقيع كتاب للوزير السابق والشاعر المعروف خالد الكركي ، ستكون تلك الدعوة في قاعة بالقرب من مجمع العبدلي ، ودعا الدكتور علوان للحضور ، قال البياتي : سأكون هناك الساعة الخامسة مساءً فهو موعد الحفل لكتاب الكركي . جئت برفقة الدكتور علوان الى ذلك المكان الذي اعرفه جيداً ، وقفنا بالقرب منه وإذا بالبياتي ينزل من تكسي اقلته الى المكان ، كان البياتي اكثر اناقة ، وكنت أتوقع والدكتور علوان أن هذه الدعوة للشاعر الكركي ستكون لفترة توقيع الكتاب لا اكثر . كان المدعوون يدخلون من باب القاعة الواحد بعد الآخر وثمة مجموعات تدخل ايضاً لكني انتبهت لامر ما  ، فقد حاول البياتي أن يتحدث معنا بموضوع سهرتنا في الامس وهو ينظر الى باب القاعة يراقب الداخلين اليها وأنا كنت أراقب المشهد عن كثب ، حاولت أن أفهم سبب تأخير البياتي وعدم دخولنا للقاعة ، أشعل سجارته وهو يراقب الباب ويتحدث معنا ، الى أن انتهت سجارته فقام برميها في الارض . في تلك الاوقات لم يدخل الباب شخصاً آخرا ، قال البياتي علينا بالدخول الآن فقد حان وقت دخولنا . دخل البياتي ومن بعده الدكتور علي علوان وأنا ثالثهم ، كان الحضور شيئاً مختلفاً تماماً عما احضره من ندوات وامسيات ثقافية داخل العاصمة عمّان فهذه المرة مختلفة ،  فكل الوجهاء والوزراء وشخصيات على مستويات عليا تتبوء مناصباً  داخل الدولة الاردني ، كان اول رجل يتقدم للترحيب بالبياتي هو خالد الكركي المستشار ووزير الثقافة الاسبق ، ومن ثم توالت الشخصيات والتي أكثرها لا اعرفها ، بقيت أنا والدكتور علي عباس علوان منذهلين لمِا رأينا من هذه الوجوه والشخصيات من اعلى المستويات ، لحظات وجائنا البياتي الذي حاول قدر استطاعته ان لا يبتعد عنا ، وقبل أن يصل لنا ، نظر ليّ الدكتور علوان قائلاً : هل علمت لماذا أخرنا البياتي كل هذه الدقائق قبل أن ندخل القاعة ؟ قلت له : نعم دكتور اعرفها ورب الكعبة ، قال وماذا عرفت ، قلت له حين يدخل البياتي أخيراً ستنجلب اليه الاضواء والجميع سيعرف بدخوله ، ضحك الدكتور علوان وقال اعرفك جيداً بالرغم من الفترة القصيرة لتعارفنا في هذه الظروف الصعبة التي مررنا بها . جاء البياتي ومشينا مسافة قصيرة وهو يحاول الجلوس ليستريح من عناء الوقوف الطويل الذي اتعبه على ما يبدو حتى نادى شخص عليه  كان يجلس بمفرده على أريكة ، فتوجه له البياتي وهو يومىء لنا ان نتبعه ، تعانق البياتي مع ذلك الرجل الكبير الذي وقف على عكازه وهو يحيي البياتي . وقد شاهدت الدكتور علوان يبتسم لهذا اللقاء ، تمعنت بالرجل جيداً وقد عرفته للوهة الاولى ، انه الدكتور احسان عباس الذي أول من كتب عن ديوان البياتي ( أباريق مهشمة )، سلّمنا عليه ودار حديث جميل عن ايام الشباب الاولى بينه وبين البياتي ، كان حديث احسان عباس عن تلك الاباريق التي هشمت التكرار في الشعر العربي وانبثق منها الشعر الجديد ، وحتى البياتي كان يعتبر تلك الاباريق المهشمة التي كتبها هي التي عبدت واضاءت الطريق امام تجربته الفذة . مائدة البياتي واحسان عباس التي تناولنا فيها العصير والكيك الفاخر أكتظت  بالصحفيين والفضائيات الرسمية آنذاك التي جاءت لتصور هذا الحفل الامر الذي انصرفت الاضواء عن صاحب الحفل خالد الكركي . كانت نظرات الدكتور علي عباس علوان ليّ فيها اكثر من سؤال ، حتى همس بأذني قائلاً : متى كنت تحلم يا (هادي) أن تجلس مع عملاقين كبيرين في الادب العربي مثل البياتي واحسان عباس ، قلت له حقيقة يا دكتور أنا لم اكن أتوقع هكذا لقاء  ! وعلى وشك ابتداء الحفل ، انتبه البياتي ليقول للدكتور احسان ، علينا الوقوف فالجميع قد تهيأ لسماع كلمة الكركي المحتفى بكتابه ، وقف الجميع وكانت كلمة الكركي مسبوقة بكلمات تشيد بجهود البياتي اولاً في اشرافه على الكتاب وكذلك الدكتور احسان عباس ومحمود درويش وآخرين ، انتهى حفل الكتاب كان الوقت مساءً ، وكان هذا اللقاء الأخير ما قبل الموت ما بين عملاقين من عمالقة أدبنا العربي . كتاب خالد الكركي كان أسمه ( حماسة الشهداء ) رؤية الشهادة والشهيد في الشعر العربي الحديث ..

أحدث المقالات

أحدث المقالات