في التفكير بحل النزاع الشيعي السني في العراق، ينصرف الذهن الى عدة خيارات عملية. على الشيعة والسنة ان يحددوا الخيار الافضل ليس لكل طرف على حدة انما للطرفين معا، اذا افترضنا ان العيش المشترك في وطن واحد هو الاطار العام لكل الخيارات الممكنة والمتاحة للتفكير والعمل. بناء على هذا، يتعين على عقلاء الشيعة والسنة ان يستبعدوا عدة خيارات، هي “الخيارات المحرمة”، واقصد بها الحرب الاهلية، والتقسيم، والابادة المتبادلة. القاعدة واخواتها تفكر بكل هذه الخيارات وتسير في دروبها المختلفة. فهي من جهة تسعى الى اثارة حرب اهلية بين الشيعة والسنة، ومن جهة ثانية تشن حرب ابادة ضد الشيعة خصوصا، وضد العراقيين عموما، ومن جهة ثالثة، تعمل على تقسيم العراق واقامة ملاذات امنة لها تقتطعها من العراق ما يؤدي ضمنا وحتما الى تقسيمه. لا يمكن لعقلاء الشيعة والسنة ان يتفاهموا على امر اذا لم يُحَرّموا هذه الخيارات على انفسهم ويتحركوا على “الخيارات الحلال” التي سوف اذكرها بعد لحظات.
الخيارات الحلال، مقابل الخيارات الحرام، ثلاثة، في الاقل:
الخيار الاول: دولة المواطنة. هذا هو الخيار الافضل والمقصود به ان يتفق الطرفان على اقامة دولة مدنية حديثة على اساس المواطنة، والديمقراطية، والقانون، والمؤسسات، والعلم الحديث. في هذه الدولة تكون المواطنة وحدة بناء، والكفاءة وحدة قياس، ويتم استبعاد عاملي الولاء والانتماء من البناء والقياس. في هذه الدولة يتضاءل او يختفي دور تشكيلات ما قبل الدولة المدنية الحديثة، بما في ذلك الطائفة او العشيرة او ما شابه لتصبح العلاقة بين الفرد-المواطن والدولة علاقة مباشرة.
يتحقق هذا الخيار اذا توفر شرطه الاول وهو المواطنة التي تستبعد الهوية الفرعية المذهبية والطائفية من شروط التقييم والتولي. وهو نفس الحل الذي توصل اليه الاميركيون الذين هم امة مهاجرين، والذي توصل اليه الهنود ايضا. لم يتوصل العراقيون الى اقامة مثل هذه الدولة منذ ولادة العراق الحديث حتى الان، لأن الفكرة لم تحظ بطبقة سياسية مؤمنة قولا وفعلا بهذا الخيار. يمكن ان نشير الى الملك فيصل الاول بوصفه من المؤمنين به، لكن يبدو ان مرحلته التاريخية لم تكن تسمح باكثر من ملاحظاته الشهيرة. وبقية الحكاية معروفة، انتهاء بقيام نظام البعث المتخلف حضاريا وسياسيا، والاعجز عن اقامة دولة مدنية حضارية رقم كل شعاراته التي بدت في وقت ما براقة بالنسبة للبعض. فالحزب انتهى الى اقامة سلطة عشائرية عائلية وراثية مغلقة. المؤسف ان الطبقة السياسية التي تولت الامور بعد سقوط البعث لم تع الدرس جيدا، وربما وقعت في نفس الخطأ والمطب، ولم يكن نموذجها للدولة يحاكي النماذج الحضارية المدنية المتطورة والمعروفة لدينا الان. فانزلقت الى دولة المكونات وتراجع مفهوم المواطنة كثيرا، بل تم دفنه تحت ركام الولاءات الحزبية والطائفية والمناطقية، الامر الذي جعل امر استعادته يبدو وكانه شيء من الخيال.
تلعب الثقافة الديمقراطية الوطنية وانتشارها وتحولها الى ثقافة سائدة في المجتمع دورا كبيرا في تمكن المجتمع من اقامة دولته المدنية الحديثة. واذا اتفق الشيعة و السنة على هذا الخيار فان عليهم ان يسعوا الى نشر هذه الثقافة عبر كل وسائل التثقيف المجتمعي. ومن هذه الوسائل الاعلام والمساجد واماكن التجمع الجماهيري، ومواقع التواصل الاجتماعي، فضلا عن المدارس والجامعات. انتشار الثقافة المدنية الحديثة، اضافة الى عوامل اقتصادية اخرى، سوف يؤدي تدريجيا الى اضعاف الشعور بالانتماء الى الروابط السابقة على تشكيل الدولة الحديثة، وبروز الشعور بالفردي الذي ما يلبث ان يتحول الى مواطنة، ثم مواطنة فعالة، واخيرا مجتمع مدني قوي ومؤثر.
يشكل الاندماج المجمتعي عاملا مساعدا مهما على قيام الدولة المدنية الحديثة القائمة على اساس المواطنة. وهناك الكثير من مستويات الاندماج المجتمعي، لكن اهمها امران: العيش المشترك، والزواج المختلط. وللاسف فان هذين العاملين في تراجع منذ الحرب الطائفية الاهلية الاولى. واذا كان الشيعة والسنة راغبين في هذا الخيار فان عليهم ان يشجعوا ابناءهم وبناتهم وعوائلهم على العيش المشترك، وعلى الزواج المختلط. وهما امران لا يجري بذل جهد كبير بشأنهما للاسف.
تذكروا ان خيار المواطنة المدنية اوصل زنجيا اسود الى سدة الحكم في اعظم دولة بيضاء في العالم!
يحتاج هذا الخيار بطبيعة الحال الى عقد اجتماعي جديد يجسده دستور متفق عليه خال من الثغرات.
ربما يجد الشيعة والسنة ان هذا الخيار اضحى متاخرا، وان التطورات اخذتنا بعيدا عنه، واذن عليهم ان يتحركوا على الخيار الحلال الثاني، وعدم التفكير باي من الخيارات الحرام الاخرى.
الخيار الثاني، دولة اللامركزية الادارية التي تعطي مساحة واسعة للمناطق والمكونات الاجتماعية المتمايزة بتصريف شؤونها بما يتناسب مع هويتها المذهبية، مع الاحتفاظ بحكومة مركزية واحدة في مدينة المقر، اي العاصمة. وهذا يشمل الاحوال الشخصية ومناهج التربية وامورا اخرى اضافة الى تقاسم مقنع للسلطة المركزية والثروة والاتفاق على الهوية العامة للدولة كما ينص عليها دستور متفق عليه. الدولة العراقية الان اقرب الى هذا الخيار، لكن لا يتوفر رضا غالب لدى الطرفين، وخاصة لدى السنة، لذا نجد انهما اقرب الى التخاصم والتنابز منهما الى التعاون والتصالح والتعايش. يمكن بكثير من العقلانية وابعاد قوى التأثير الخارجية الاخرى فضلا عن القاعدة واخواتها تطوير الوضع الحالي باتجاه هذا الخيار الحلال وتجنيب البلد والشعب ايا من “الخيارات الحرام”. لكن الجهود المبذولة اقل مما يتطلبه الوصول الى هذه النتيجة المرغوبة.
الخيار الثالث: دولة الكنتونات: اذا بقي الحال على ما هو عليه من عدم التحرك الجاد نحو تفعيل هذه الخيار، لا يبقى امامنا سوى الخيار الحلال الثالث، وهو اقامة دولة كانتونات على غرار الدولة السويسرية وهي تجربة تاريخية عريقة بدأت بالتشكل منذ عام 1291 (اي بعد حوالي 30 سنة من سقوط الدولة العباسية في العراق عام 1258) وما زالت مستمرة حتى الان، حتى اضحت تضم 26 كانتونا مستقلا في اطار دولة فيدرالية واحدة.
ليس من الصعب ان نتصور خارطة الكانتونات العراقية، فهناك الكانتون الشيعي، وهناك الكانتون السني، هذا اضافة الى اقليم كردستان. قد يكون هذا خيارا مرا، ليس اقل مرارة من الحرب الاهلية او التقسيم او الابادة المتبادلة. سوف يتجمع الشيعة في مساحة جغرافية واحدة، كما سيفعل السنة. وسوف يضطر الطرفان الى تنفيذ عمليات ترحيل متقابلة بين السنة والشيعة، كما ورد في مشروع او خطة بايدن، المعلنة منذ عام 2004. سوف تكون الحكومة المركزية او حتى الاتحادية حكومة شكلية، مقابل حكومات كانتونات كردية وشيعية وسنية قوية في مناطقها. ستكون الكانتونات مستقلة في معظم شؤونها “الداخلية” لكنها سوف تنحو المنحى الذي سار فيه الاقليم الكردي الذي يقترب من النموذج الكونفدرالي اكثر من الفدرالي. وسوف يتطلع كل كانتون الى محيطة الخارجي بحثا عن حلفاء اقليميين اقرب اليه من شركائه المحليين. سوف تجد هذه الكانتونات نفسها محصورة في خيار سياسي واحد هو “الديمقراطية التوافقية” بمعنى اصرارها على التمتع بحق الفيتو (الاعتراض) على القرارات “الوطنية” والتهديد المستمر بعدم الخضوع لأي قانون او تشريع او قرار لا ينال قبولها ورضاها.
اذاسار خيار الكانتونات العراقية على طريق النموذج السويسري فنحن بخير،في الاقل مقارنة بالخيارات الحرام. لكن الامر قد لا يمضي على هذا النحو، انما قد ترافقه توترات اجتماعية وسياسية في البداية على الاقل.
لكن “اللي يشوف الموت يرضى بالصخونة”!