حليب الضحى مجموعة قصصيّة للكاتب المقدسيّ القدير محمود شقير، الصادرة عام 2021 عن مكتبة كل شيء في حيفا، انتاج وتصميم شربل الياس، تحتوي على مائتين وخمس عشرة قصّة قصيرة جدًّا . تشكّل كل قصّة لوحة فسيفساء منفردة، فاذا ما جمعت اللوحات معا تتكون لدينا لوحة فسيفساء واحدة مكتملة في غاية الجمال والمتعة.
قبل أن أتطرّق إلى الكتابة عن هذه القصص لا بدّ من تعربف للقصّة القصيرة جدّا:” القصة القصيرة جداً نوع حديث من الأدب انتشر في الفترة المعاصرة بشكل واسع وأصبح نوعاً سرديًّا قائماً بحد ذاته. تعتبر بالحجم أصغر من القصّة القصيرة وقد لا تتجاوز بضعة أسطر وأحياناً قد لا تكون أكثر من سطر واحد.
تتجلّى أركان القصة القصيرة جداً الأساسية في: القصصيّة، الجرأة، الوحدة، التكثيف، المفارقة، فعلية الجملة، السخرية، الإدهاش، اللجوء إلى الأنسنة، استخدام الرمز والإيماء والتلميح والإيهام، الاعتماد على الخاتمة المتوهجة الواخزة المحيرة، طرافة اللقطة، واختيار العنوان الذي يحفظ للخاتمة صدمتها.” (ويكبيديا الموسوعة الحرّة).
في قصص حليب الضحى القصيرة جدا تتوفر جميع العناصر المذكورة أعلاه، وقد ظهرت كلّ قصّة في صفحة منفردة، لكنها تترابط في الأحداث، الزمان و المكان. فالقصص تتحدّث عن عائلة العبداللات المكوّنة من، قيس بن منان، زوجته نفيسة التي طلبت الطلاق لأن زوجها قيس عقيم، زوجة قيس الثانية المعلمة ليلى التي رضيت الزواج منه علما أنه عقيم، محمد الكبير عم والد قيس وأخ محمد الأصغر، محمد الأصغر بن منان، عم والد قيس، سناء زوجة محمد الأصغر، عليوان الذي انشقّ عن عائلة عبداللات، رشيد البناء زوج نفيسة طليقة قيس.
تبدأ القصة الأولى بتعريف قيس بن منان بن عبد اللات عن نفسه فيقول: “اسمي قيس منان من حي راس النبع، أحد أحياء القدس، رغبت في العمل معلّما في مدرسة، فلم تتحقق رغبتي لأن الوظائف شحيحة علينا في زمن الاحتلال” ص 10.
عمل قيس سائق سيّارة أجرة، بعد أن طلّق زوجته نفيسه وفق رغبتها، تعرّف على المعلمة ليلى حين كان يأخذها بسيارة الأجرة إلى مدرستها: “لولا معرفتها بأنني أكتب رواية، وهي المحبة للروايات لما انتبهت اليّ. الرواية هي التي كانت سبب حبّنا، ولم أكمل كتابتها حنى الآن” ص13.
ارتبط قيس وليلى بعلاقة حبّ متينة، ورغبت أن يكون لها طفل ، احترم قيس رغبتها وتبنيا طفلة أطلقا عليها اسم قدس، ولعلّ المفارقة هنا، أن ليلى حاولت إرضاع قدس لكنّ ثدييها لم يدرّا حليبًا، فأرضعتها نفيسة طليقة قيس التي ولدت من زوجها رشيد طفلا وأسمته قيس على اسم طليقها.
المفارقة الثانية والدهشة تحدث بين محمد الأصغر وزوجنه سناء التي كانت عاقرًا ومع ذلك لم تفكّر في تبني طفل، وكذلك زوجها محمد لم يسألها يوما لماذا لا تريد أن تتبنّى طفلا. ومع ذلك عاشا معا بسعادة.
من خلال قصص عائلة العبداللات يتطرّق الكاتب الى عدّة أمور اجتماعية، سياسية عاطفية وطنيّة وما إلى ذلك. مثل قضيّة تعدد الزوجات، انكماش العدالة، الأسرى، عدم الشعور مع الذين ينامون في العراء، استشهاد الشباب وطلاب المدارس:” في صباح المطر بعد الحرب الأخيرة، أحصت المدارس تلاميذها لتعرف من هم الذين غابوا إلى الأبد” ص 57. :” نمنا أنا وليلى على سيرة الشهداء واستيقظنا على أصوات النواح وفناجين قهوتنا كانت باردة في هذا الصباح” ص 58. وتشغل القدس فكر الكاتب وتسيطر على مشاعره، كيف لا وهي بلدته التي يعشقها، فيتفطّر قلبه حزنا عليها بعد سقوطها بأيدي الاحتلال فيقول على لسان قيس:” القدس هي أمنا وهي اختنا وعمتنا والخالة والخال ص 135. :” وهي هناف الرجال الغاضبين والنساء الغاضبات من أجل الانعتاق” ص 137. :” القدس هي كلام الذين لا كلام لهم، وهي أنين امرأة ثكلى في الظلام، وهي نزيف قلب عذّبه الحب والسهاد والغرام” ص 155.
اللغة والتقنيّات السرديّة في قصص حليب الضحى:
تشكّل اللّغة في القصّة و الرواية الجانب الأساسيّ في رسالة الإبلاغ، وتتفاوت مستويات اللّغة في السرد بتنوُّع الشخصيّات فيه، وبهذا يكون على الكاتب الروائيّ استخدام جملة من المستويات اللغويّة التي تناسب أوضاع الشخصيّة الثقافيّة والاجتماعيّة والفكريّة، فقد تتضمّن الرواية العالم والطبيب والسياسيّ والعامل والسائق ورجل الأعمال الخ…، وعلى الكاتب استخدام اللغة التي تليق بكلّ من هذه الشخصيّات. وقد اجتهد بعضٌ من الروائيّين في تطويع اللغة لجعلها لغة الحياة العامّة والحياة اليوميّة في أبسط مستوياتها وأدناها، وفي استخدام بعضٍ من الألفاظ من الحياة اليوميّة.(مرتاض 1998، ص 104).
استخدم الكاتب محمود شقير في مجموعته القصصيّة هذه، لغةً شاعريّةً تصويريّةً زاخرةً بالتعابير المجازيّة والسجع والتأنيس والطباق والتشابيه البليغة كما نرى في الأمثلة التالية:” نوافذ البيوت يتلوّن مزاجها بحسب الفصول. في الصيف والربيع تروقها ظلال الأشياء، في الخريف والشتاء تميل إلى الانطواء. هذا الصباح، انغلقت النوافذ قبل هبوب الرياح”. ص 44. في هذا الوصف الجميل نجد تعبيرا مجازيًّا وتأنيسا في جملة: نوافذ البيوت يتلوّن مزاجها بحسب الفصول، كذلك في جملة: تميل الى الانطواء. كما نجد سجعا : الرياح والصباح.
:” حبال الغسيل: تصغي لهمس الفساتين وهي تتذمّر من الضجر، والرياح تلوب في المكان بهدوء وحذر” ص 45.
في هذا الوصف نجد تشبيهًا بليغًا وتأنيسًا: حبال الغسيل تصغي.. تتذمّر، تلوب بهدوء وحذر. كما نجد سجعا: تتذمّر من الضجر، تلوب بحذر.
أمّا من حيث الحوار، فيظهر في هذه المجموعة القصصيّة نوعان من الحوار: الحوار الخارجيّ (الديالوج) والحوار الداخليّ (المونولوج). وقد تجلّت قدرة الكاتب في الكشف عما يجيش في نفوس أبطال قصصه، من خلال المونولوج. فها هو عليوان يعبّر عن سبب انشقاقه عن عائلة عبد الله فيقول:” اسمي عليوان. انفصلت عن عائلة العبد اللات من دون أسف؛ تريدني العائلة رقما تحت إمرة كبيرها.. لم أوافق على أن أكون رقما في العائلة” ص 159.
أما سناء زوجة محمد الأصغر، فهي تعبّر عن عتبها على زوجها من خلال المونولوج التالي:” ولي عتب على محمد الذي لم يسألني ولو مرّة واحدة لماذا لا نتبنّى طفلة أو طفلا يا سناء؟” ص74.
محمد الأصغر يعبّر أيضًا عن استغرابه وعتبه المبطّن على زوجته سناء من خلال المونولوج والاسترجاع التالي:” والأن أتساءل: لماذا لم تفكّر سناء بتبنّي طفل أو طفلة؛ مثلما فعل قيس وليلى؟” ص 64.
والاسترجاع كما تراه يمنى العيد (2010):” يمدّ القارئ ببعضٍ من المعلومات عن الشخصيّات، كما أنّه يُسهم في طيّ المسافات وردم الفجوات أو الثغرات التي يخلّفها السرد، وبثّ الحيويّة في النصّ السرديّ وجعله أكثر حيويّة.( عيد، 2010، ص113)
أمّا عبد السلام فيعرّف الاسترجاع بما يلي:” الاسترجاع”، في جوهره المبسَّط، هو “إعادة إخراج مخزون الذاكرة، ولكنّ ذلك الخزين لا يخرج صافيًا وحده. إذ غالبًا ما يتفاعل مع صوت النفس وجنون المخيّلة في تكوين الحالة الحواريّة الّتي يشتغل بها الذهن داخليًّا” (عبد السلام، 1999، ص. 139).
في هذا المونولوج الممتزج بالاسترجاع يسترجع محمد مغادرته لأهله وبيته حين كان في السادسة عشرة من عمره وحنينه إلى بيته فيقول في حواره مع نفسه:” لم أعد إلى البريّة منذ غادرتها وأنا فتى في السادسة عشرة. كرهتها وكرهت الناس الذين سكنوها؛ أقصد أهلي وأبناء عائلتي وعشيرتي. فكّرت بزيارة البريّة لإحياء الذكريات؛ ولتأمل طفولتي التي كانت هناك. لكنّ يد المحتلين كانت أقرب إليّ من أيّ شيء آخر، اعتقلوني ثم أبعدوني من الوطن. وحين عدت بعد سنوات؛ لم يكن لديّ وقت لكي أزورها، قيل لي إنّ مستوطنة للغرباء، بنيت على أرضها، وهي تتمدّد فيها وعليها مثل خلايا السرطان” ص 37.
يمتزج المونولوج والاسترجاع في لوحة فنيّة تغلب عليها الانفعالات والمشاعر حين يصوّر محمد الكبير علاقته بزوجته خلال فترة سجنه، وخاصّة عندما خيّرها وأعطاها الحق في الانفصال عنه، لكنّ مريم رفضت ذلك:” كما يبدو في المشهد الاسترجاعي التالي:” هل تستطيعين الانتظار كل هذه السنوات؟ سألتني: ماذا تقصد يا محمد؟ قلت: أعطيك الحق في الانفصال. بانت تقطيبة على جبينها وادلهمّت عيناها وقالت: محمد؛ أرجوك؛ لا تكرّر هذا الكلام. قبضت على يدها بحنان؛ ثم انهمرت من عينيّ وعينيها دموع”. ص 38.
والأمثلة كثيرة في هذا الكتاب على اتباع الكاتب لتقنية المونولوج والاسترجاع، وفي هذا إشارة إلى اهتمام الكاتب محمود شقير بالحالة النفسيّة التي تعتري نفوس شخصيّاته، والتي تمتزج بالعاطفة والمشاعر والندم والتساؤل والحيرة وما إلى ذلك، كل ذلك يساهم في جذب القارئ إلى النص وانسجامه مع الشخصيات، مما يزيد ذلك من متعة القارئ.
إجمال:
من خلال هذا الاستعراض الموجز لبعض ما جاء في قصص محمود شقير، أميل للاعتقاد بأنّ هذه المجموعة القصصيّة هي رواية لم تكتمل بعد، تصوّر حياة عائلة مقدسيّة والتي من خلالها نطلّع على فرح وألم وأمل ومعاناة جميع أهل القدس في ظل الاحتلال. ويبقى الأمل سيّد الموقف، والحريّة هي حلم الشيوخ والأطفال والنساء والرجال:” نريد صباحًا هادئًا، خاليًا من الطائرات التي تزرع الموت والدمار، خاليًا من الجنود ومن المستوطنين والمستوطنات، يتجلّى في فضائه حريّة بكر لا تعرف الانكسار. قلنا قولنا هذا ونمنا على أمل واستيقظنا على آمال”. ص 193
فهل الآمال معقودة على المرأة أيضًا بعد خروجها عن صمتها؟ .
:” وماذا بعد؟ لا شيء سوى تأمل المشهد وانتظار المرأة لعلّها تخرج عن صمتها” ص 196.
وهل سيكمل قيس وليلى رحلتهما لتكتمل الرواية؟:” قلت لها: هاتي يدك يا ليلى كي نواصل الرحلة من دون وجل. ناولتني قلبها وبعضًا من أمل” ص 214. أم أنّ الهوّة لا زالت كبيرة وتنتظر التقاء النقطة في نهاية السطر الأول مع السطر الأخير كما عبّر عن ذلك محمود شقير في القصّة الأخيرة من هذا الكتاب؟:” وقفت النقطة عند آخر السطر، تأمّلت الهوّة التي تفصلها عن السطر الأخير وقالت: كم هو فسيحٌ هذا العالم! ص 215.
المراجع:
عبد السلام، 1999 عبد السلام، فاتح (1999)، الحوار القصصيّ، تقنيّاته وعلاقاته السرديّة، بيروت: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر.
عيد، 2010 عيد، يمنى (1990)، تقنيّات السرد الروائيّ في ضوء المنهج البنيويّ، بيروت: دار الفارابيّ، ط. 3.
مرتاض، 1998 مرتاض، عبد الملك (1998)، في نظريّة الرواية: بحث في تقنيّات السرد، عالم المعرفة، المجلس الوطنيّ للثقافة والفنون والآداب، الكويت: المجلس الوطنيّ للثقافة والفنون والآداب