عكفت شعوب العالم -لاسيما تلك التي لها حضارت غائرة في التاريخ- على التحديث والتجدد في البناء والتطور أولا بأول في مجالات الحياة العلمية والأدبية والمعرفية، وما الى ذلك من نشاطات أساسية وضرورية في ديمومة الحياة، إذ هي بذلك تحقق وجودا في صفحة من صفحات سجل التأريخ، والأخير هذا مشهود له بمحو أمم ورميها في رفوف الذاكرة، وتثبيت أخريات باستحقاقها على الرغم من متغيرات العصور والظروف، وكم سمعنا عن دول دالت واندرست وصارت نسيا منسيا!.
عراقنا الذي يضمنا بين أحضان دجلته وفراته والذي أورثنا مجد أجدادنا بناة حضارة وادي الرافدين التي لها بين الحضارات قصب السبق في القِدم والتقدم معا، ولها من العلوم والمعارف ما عم سائر حضارات تلتها بحقب زمنية طويلة، ونهل من بحر علمائه ومكتشفيه الأوائل علماء دول المشرق والمغرب الأولون واللاحقون، يستحق منا وقفة وإعادة نظر في ماقدمناه ومانقدمه له مقابل ماقدمه ومايقدمه لنا. وهنا على كل فرد منا النظر بعين الجميع لابعين الأنانية والنرجسية وحب الذات. فبدءًا؛ العراق هو السقف الذي يظلنا جميعا الأخيار منا والأشرار على حد سواء -إذ الكمال لله وحده- وفيه شربنا مع مائه خصائل وطبائع وتقاليد هي مدعاة فخر واعتزاز لكل واحد منا، وبهذا يجدر بنا ان نفيه حقه قبل ان نطالب بحقوقنا، فهو البلد الأم والخيمة التي ننضوي تحتها, وان كان هناك قصور واهمال من بعض من اعتلوا صهوة الحكم فيه، فبالعقل والبصيرة والتروي واحترام حدود الغير وحقوقهم، يوجد من الحلول الكثير من غيرما تجاوز على عرف من أعراف المجتمع او تعدٍ على أحد، وان بدت منهم حالة سلبية كما قال الشاعر:
بلادي وان جارت علي عزيزة
وقومي وان شحوا علي كرام
ان مطالبة المواطن الحكومة بحق من حقوقه المشروعة يأخذ مسالك عديدة، والسلمية منها تُعدّ صورة حضارية مشرقة تنم عن وعي المواطن من جهة وعن نية الحكومة الخالصة في أداء الواجبات المنوطة بها تجاهه من جهة أخرى، وإذا تكافأ الأخذ والعطاء لدى الطرفين، تكون المحصلة النهائية إيجابية للإثنين معا، فشعرة بين مجنون وعاقل لاتنقطع. لكن الذي يُفسد صورة المطالبة بالحقوق ويشوهها هو الانزواء والتفرد لنيل مطالب لها أبعاد فئوية ومآرب نفعية لنفر او جماعة، دون الرجوع الى الحقوق التي ترتضيها النفس البشرية المتحضرة. كما هو حاصل اليوم في شارعنا العراقي، وكما قيل: إذا أردت ان تطاع فأمر بما يستطاع. إذ مع تصاعد وتيرة المناكفات بين رؤوس الحكم والقادة والساسة، تستحيل المطالبة بالحقوق الى أضغاث احلام، والى صيحات ليست بذات جدوى، حيث لاينوب المواطن مردود منها سوى صداها ورجعها المشروخ، لاسيما وأن حكومته مثقلة بمشاكل متوارثة من جهة، ومستحدثة ومستجدة من جهة أخرى، الأمر الذي يغل يدها عن العطاء، فضلا عن أداء الواجب، إذ ينطبق عليها مثلنا؛ (العين بصيرة والإيد گصيرة)، والحديث عن حلول لقصر اليد يطول ويعرض في مقامنا هذا، فالحلول في ظرفنا العسير ليست على طبق من ذهب ولا من فضة، بل ولا من (تنك) وهي بعيدة وبعيدة جدا، وإن أردنا الوصول اليها علينا الامتثال لبيت المتنبي:
تريدين إدراك المعالي رخيصة
ولابد دون الشهد من إبر النحل
[email protected]