9 أبريل، 2024 9:15 م
Search
Close this search box.

حلم يتمزق على جدار الانتظار

Facebook
Twitter
LinkedIn

من اصعب اللحظات التي‮ ‬يعيشها الانسان تلك اللحظات التي‮ ‬يشعر فيها المرء ان كل احلامه‮ ‬قد تلاشت في‮ ‬الفضاء بكلمة واحدة‮ ‬يتفوه بها شاب لازال في‮ ‬ربيع العمر الى رجل مسن قد وصل الى سنوات السفر الى العالم الاخر‮ ..‬او صار على قائمة الانتظار للرحيل في‮ ‬اي‮ ‬لحظة تمر عليه‮. ‬شاب‮ ‬يشغل مقعد متواضع في‮ ‬القاعة رقم‮ ‬– 36 – القاعة التي‮ ‬تتوسط‮ ‬– ساحة الوثبة‮ ‬– التابعة لهيئة التقاعد الوطنية في‮ ‬قلب العاصمة بغداد‮ . ‬سحبتُ‮ ‬خطواتي‮ ‬المتثاقلة لأصل مع الوافدين في‮ ‬ساعات الصباح الاولى بوابة البناية الشاهقة في‮ ‬ساحة الوثبة انتظر مع كبار السن اللحظات الاولى لفتح الباب الحديدي‮ ‬الضخم‮ ‬– حيث‮ ‬يقف‮ ‬خلفه شرطي‮ ‬يشعر بالملل لهذا العمل الروتيني‮ ‬كل صباح‮. ‬كان جميع الوافدين بعمري‮ ‬او اكبر مني‮ ‬بقليل‮ ‬– يتدافعون كأطفال‮ ‬يريدين الدخول الى صفهم في‮ ‬مدرسة ابتدائية في‮ ‬قرية بعيدة على ضفاف الفرات‮ ‬– كما كنت افعل مع زملائي‮ ‬الصغار قبل اكثر من خمسين عاما‮- ‬حيث مدرسة اليرموك الابتدائية في‮ ‬حامية المسيب‮ ‬عام‮ ‬1966‮.‬ لا اعرف لماذا تواردت الى ذهني‮ ‬تلك الخاطرات او الخواطر‮ ‬وانا اشاهد بوضوح تلك الاجساد الذابلة تتدافع للوصول الى داخل البناية‮. ‬شعرتُ‮ ‬بالقرف من كل شيء في‮ ‬تلك اللحظة‮ ‬– القرف من عدم مراعاة قواعد النظام او الانتظام‮ ..‬القرف من كل هذه المعاناة في‮ ‬بلد كان من المفروض ان‮ ‬يكون جنة الله على هذه الارض بكل ماتعنيه هذه العبارة من معنى‮. ‬صاح رجل مسن‮ ‬يقف بقربي‮ ‬وكأنه‮ ‬يحمل كل هموم العالم على كتفه‮ ” ‬ستدخلون كلكم‮ ..‬وستصلون الى النوافذ التي‮ ‬ستقفون عندها كل ساعات النهار‮ ..‬
وستعودون الى بيوتكم منهكي‮ ‬القوى تلفكم كل علامات الحزن والبؤس والشقاء دون ان تحققوا اي‮ ‬شيء كنتم قد حضرتم من اجله‮ ” . ‬ارعبتني‮ ‬تلك الكلمات بصدق‮ ..‬تراجعت الى الوراء وقررت مع نفسي‮ ‬ان ادخل آخر شخص الى تلك البناية حيث‮ – ‬توجد تحت سقفها ملايين الحكايات التي‮ ‬تجعل كل من‮ ‬يسمعها لاينام الليل دهرا من الزمن‮. ‬دخل الجميع‮ ‬وبقيت وحيدا انظر الى الطرف الاخر من ساحة الوثبة‮ . ‬صاح الشرطي‮ ” ‬الا تدخل حضرتك‮ ‬ياعم‮..‬ام‮ ‬غيرت رأيك‮….” . ‬كانت انفاسي‮ ‬تتلاحق بشدة وانا اتسلق الطوابق الثلاثة‮ .. ‬طريق طويل كـأنه طريق بغداد‮ ‬– البصرة في‮ ‬الثمانينات حينما كنت التحق الى وحدتي‮ ‬العسكرية في‮ ‬زمن كان قد سحق كل سنوات شبابي‮ ‬وشباب الاف البؤساء على شاكلتي‮…‬والنتيجة هذه المعاناة‮ ..‬لحظات خلتها ان الزمن قد توقف وان حركة الحياة لم‮ ‬يعد لها وجود‮. ‬في‮ ‬تلك اللحظة شعرت بصدق ان الانسان العراقي‮ ‬ليس له قيمة في‮ ‬هذه الحياة‮ ‬– واقصد البؤساء على شاكلتي‮ ‬– فالأغنياء ليس لهم علاقة بقانون حياتنا نحن الفقراء‮. ‬ادركتُ‮ ‬في‮ ‬تلك اللحظة ان كل حركات التحرير في‮ ‬العالم وكل اهداف الأحزاب في‮ ‬العالم وكل الذين‮ ‬يدعون انهم مناضلين من اجل حقوق الطبقات المسحوقة هي‮ ‬مجرد اوهام‮ ‬يسخرون بها من الاخرين‮ ‬ويتخذونها هزوا للوصول الى الدرجات العليا في‮ ‬الحكم ومن بعد ذلك‮ ‬ينسون او‮ ‬يتناسون كل شيء ويشرعون في‮ ‬بناء امبراطورياتهم المالية وسحقا للبؤساء على شاكلتي‮. ‬معادلة مخزية لاتجلب الا العار والخذلان للشعوب في‮ ‬كل العالم‮. ‬الحمد لله لم‮ ‬يكن هناك اشخاص كثيرون في‮ ‬القاعة‮ ‬36- ‮ ‬قسم الرجال‮ ‬– وهذه ظاهرة جميلة اشاهدها لأول مرة منذ سنوات‮ . ‬كانت القاعة تخص الرجال فقط وهناك قاعة اخرى تحمل نفس الرقم مخصصة للنساء فقط‮. ‬كانت هناك مقاعد جديدة‮ ‬يجلس عليها عدد قليل نسبيا وشاهدت جهاز تبريد‮ ‬– واووو‮ ‬– اي‮ ‬نعمة هذه التي‮ ‬يعيشها المتقاعد‮ ..‬حقا ان هذا لشيء عجيب‮. ‬تقدمتُ‮ ‬نحو الموظف الشاب‮ ‬– ربما اصغر من ولدي‮ ‬الكبير‮- ‬وشرحت له قضيتي‮ ‬التي‮ ‬جئت من اجلها‮ …‬القضية التي‮ ‬كانت تراود احلامي‮ ‬وآمالي‮ ‬ثلاث سنوات او ربما اكثر بقليل‮. ‬سنوات خلتها لن تنتهي‮ ‬ابداً‮ . ‬وجاء اليوم الموعود لأتلقى ضربة قصمت ظهري‮ ‬– معنويا‮ ‬– ومزقت كل لحظة من لحظات الاحلام التي‮ ‬كنت اعيشها‮ ‬– حرفيا‮ ‬– في‮ ‬سنوات الانتظار الثلاثة‮ . ‬حينما شاهد الموظف الشاب حيرتي‮ ‬نظر نحوي‮ ‬بطريقة كأنه‮ ‬ينظر الى مخلوق جماد لاينتمي‮ ‬الى صفة البشر وراح‮ ‬يتحدث بطريقة ميكانيكية وكأنه‮ ‬يطلق رصاصة الى قلبي‮ ‬مع كل كلمة‮ ‬يتفوه بها‮ ” …‬اسمع‮ ‬ياعم‮..‬لايوجود هناك استقطاع من راتبك‮..‬انتهى الاستقطاع منذ شهرين‮.. ‬انت طلبت اضافة الخدمة العسكرية قبل ثلاث سنوات‮.. ‬قطعنا ثلاثة ملايين من راتبك كل شهر ثمانون الف دينارا‮ .. ‬اصبحت خدمتك التقاعدية‮ ‬31 سنة وثمانية شهور‮.. ‬لاتوجد اي‮ ‬اضافة على الراتب‮..‬الاضافة على سنوات الخدمة وليس الراتب‮.. ‬انتهى الامر‮ ….‬اللي‮ ‬بعده‮ ” . ‬لم اتحرك من مكاني‮ ..‬لم ادع اي‮ ‬شخص‮ ‬يقترب مني‮ .. ‬كانت نبضات قلبي‮ ‬ترتفع وتهبط بطريقة كمن‮ ‬يريد الصعود الى حبل المشنقة او‮ ‬ينتظر طلقة الرحمة عليه في‮ ‬ساحات الموت عند الروابي‮ ‬البعيدة‮. ‬هكذا‮..‬بهذه البساطة‮. ‬قلت بصوت مضطرب‮ ..‬هكذا‮..‬ولماذا اردت انا اضافة الخدمة ؟؟ الم اكن احلم بزيادة قليلة‮ ‬على الراتب التقاعدي‮ ‬ولماذا قبلت دفع هذه الثلاثة ملايين‮ …‬لو كنت وفرتها الان منذ ذلك الوقت لأشتريت الان‮ ‬– ستوتة‮ ..‬او فتحت دكانا صغيرا من البيت‮….” ‬ابتسم الشاب بطريقة تهكمية واشار الى ان هذا هو القانون وليس له دخل في‮ ‬ذلك‮. ‬لايمكن اضافة اي‮ ‬شيء على رواتب الحد الادنى ولايمكن اضافة الشهادة الجامعية او الزوجية‮…” ‬انتهى الامر الذي‮ ‬فيه تستفتون‮….‬افسح المجال الى الاخرين‮ ” .
‬تراجعت الى الوراء لأنني‮ ‬شعرت انني‮ ‬اتحدث مع صخرة والصخرة لاتفهم معاناة الروح والقانون احيانا لايصب في‮ ‬شيء اسمه المنطق بكل ماتعنيه العبارة من معنى‮ . ‬نصحني‮ ‬بمقابلة‮ ‬
مقابلة استاذ
المدير العام الاستاذ‮ ‬– اياد‮ ‬– وشرح له ما اريد ان اشرحه هنا‮ ‬لان الكلام هنا‮ ‬لايصب في‮ ‬اي‮ ‬فائدة مهما حاولت ان اتحدث عن الموضوع‮ . ‬لا اعرف هل ساذهب لمقابلة الاستاذ اياد كمدير عام ام كأنسان اشرح له معاناة انسان لايفهم كيف حدث هذا له في‮ ‬غفلة من الزمن كما حدثت اشياء اخرى مأساوية ضمن مسيرة الحياة التي‮ ‬امتدت منذ‮ ‬يوم الولادة حتى هذه اللحظة‮. ‬سحبت اقدامي‮ ‬هابطا الطوابق الثلاثة وانا لا اشعر بحركة اي‮ ‬انسان ذكر او انثى‮ ‬يمر قربي‮ ..‬توجهت الى مقهى قريب في‮ ‬الطرف الاخر من ساحة الوثبة وجلست في‮ ‬ركن من اركانها وطلبت قدحا صغيرا من الشاي‮ . ‬كانت البناية الشاهقة التي‮ ‬تضم القاعة‮ ‬36 ‮ ‬امامي‮ ‬واضحة‮. ‬وضعت‮ ‬– سماعة اذن صغيرة ربطتها في‮ ‬هاتفي‮ ‬الذكي‮ ‬ورحت استمع الى موسيقى حزينة اكثر حزنا مني‮..‬بلا تردد اخرجت دفتري‮ ‬وقلمي‮ ‬ورحت اكتب بلا وعي‮ ‬وانا انظر الى البناية الشاهقة كأنها الجهة المسؤولة عن كل حزني‮ ‬هذا الذي‮ ‬اعيش فيه الان‮ ……” ‬هل سيموت الليل قريبا‮ ..‬ام ستظل حشرجات الروح تصارع كل قوانين الحياة‮ …‬بئر مهجور‮ ..‬وغصن مبتور‮..‬وآثار لم‮ ‬يعد لها بقايا‮… ‬داستها اقدام الطيور‮.. ‬حولي‮ ‬تاريخ اعمى‮ ‬ورياح بلا امطار وثورة لم‮ ‬يعد لها الا اسماء مرسومة على جدران‮ ‬ساحة التحرير‮ ‬تسخر من المارة‮ …‬تئن كأسطورة‮.. ‬سكين‮ ‬يغمد في‮ ‬قلبي‮ ‬ودم‮ ‬يقطر من صورة‮ ..‬سيارات النجدة وباصات ساحة النصر واصوات الباعة تهرب من حولي‮ ‬مذعورة‮..‬هل حظي‮ ‬نصيب‮ ‬غراب ام سراب سحاب‮ ..‬اشعر ان روحي‮ ‬مقبورة تبحث عن سر مدفون في‮ ‬صورة‮ …‬هل سيهدأ صدري‮ ‬ام‮ ‬يسكن في‮ ‬ظلام قبري‮ ..‬الرقم‮ ‬36 يرش على جرحي‮ ‬ملحا احمر‮ ..‬لا‮ …‬لا‮ ‬يغمد في‮ ‬روحي‮ ‬خنجرا مكسورا‮ ‬ينشد دمي‮ ‬الاحمر‮..‬آه‮..‬حتى الافاعي‮ ‬تهرب مذعورة‮…‬تخاف ان تتفجر‮..‬هل سيحل عليَّ‮ ‬الفجر من جديد وافرح كما‮ ‬يفرح الاطفال في‮ ‬العيد‮….‬ام ستموت الروح كما‮ ‬يموت الظلام في‮ ‬الوادي‮ ‬البعيد‮…‬يا ضحايانا ويا قتلانا ويا ساحة التحرير الذبيحة‮ …. ‬يا احلامنا الفسيحة ويا مدننا الجريحة‮ …‬هل هناك امل‮ ‬ينثال منه النور ام سنظل نرقد في‮ ‬سباتنا نتلظى بسعير الحزن ومرارة التنور‮ …” . ‬شعرت بالأختناق‮ ‬حقا وخرجت الى الشارع المزدحم ابحث عن اي‮ ‬سيارة اجرة تلقفني‮ ‬الى البيت هناك حيث ادفن روحي‮ ‬واسبح في‮ ‬دموعي‮ ‬بلا سبب بلا حاجة للمواساة‮ . ‬صاح سائق اجرة‮ ‬يقف بالقرب من المقهى‮ ” ‬تروح‮ ….. ‬وين تروح‮ ” ‬؟؟ نظرت اليه مليا لا اعرف ماذا اقول‮ ..‬وفي‮ ‬لحظة لا اعرف كيف حدثت قلت له‮ ” ‬اذهب الى عالم‮ ‬ينشد الضياع‮ ..‬ينشد مكانا ليس فيه فسحة ليس فيه‮ ‬بشراً‮ ‬ولا قواعداً‮ ‬للمرور‮..‬اريد ان اسافر الى مكان ليس فيه اي‮ ‬علامة من علامات التحضر‮ ..‬فالحضارة صارت مرتعا لأحزانٍ‮ ‬ليس لها قرار‮ ” …‬نظر نحوي‮ ‬بتعجب وقال‮ ” ‬هل انت شاعر‮ …‬؟؟ نظرت اليه‮ ‬بطريقة لا اعرف هل هي‮ ‬تهكم ام استرحام وقلت هل تعرف معنى كلمة شاعر ؟‮ ‬ضحك وقال بصوت جميل‮ ” …‬من هنا من سجني‮ ‬الكئيب في‮ ‬المدينة البعيدة‮ ..‬اكتب اليك حبيبتي‮ ‬الحزينة‮ ..‬الليل حولي‮ ‬موحش‮ ‬غريب‮ ‬تشربه مقابر المدينة والريح تصفع الجدار وتسرق الصدى وتاكل البذار وتشرب النهر‮ …‬وراء سور السجن في‮ ‬مدينة الغجر‮ ‬وتحصد النجوم وتزرع الغيوم في‮ ‬سمائنا الصغيرة وتدفن القمر‮…..‬وانتِ‮ ‬ياحبيبتي‮ ‬في‮ ‬عشنا وحيدة تحكين للصغار حكاية جديدة عن عربي‮ ‬مسافر بلا هوية بلا وداع‮ ‬هو رقم ضائع في‮ ‬زحمة المدينة البعيدة مدينة الاسوار والسجون‮ ‬– وساحة الوثبة المستديرة‮ ” ‬صُعقت من كلامه واحتضنته بكل قوة‮ …‬قال أنا احفظ الشعر والكلام الجميل‮ . ‬دون ان‮ ‬يكمل اعطيته مبلغا‮ ‬يكفي‮ ‬لنقلي‮ ‬الى مدينتي‮ ‬برفاهية واندفعت مبتعدا عنه لا اريد ان اسمع كلاما اخر‮..‬شعرت بالضآلة امام كلماته‮ . ‬ركض خلفي‮ ‬ومنحني‮ ‬كارت صغير وهو‮ ‬يقول‮ ” ‬هذا رقمي‮ ‬وعنواني‮ ” . ‬وضعت الكارت في‮ ‬جيبي‮ ‬دون ان اتفوه بكلمة‮. ‬وانا في‮ ‬سيارة الباص متجها الى ساحة النصر اخرجت الكارت فقرأت‮ ” ‬فلا الفلان كاتب وشاعر‮ ‬يسكن المنطقة الفلانية‮ ” . ‬شعرت بالحزن والفرح لأسباب لا اعرف ماهي‮ . ‬واصلت طريقي‮ ‬الى البيت دون ان اشعر بأي‮ ‬شخص حولي‮…….‬كانت لحظات لاتنسى وحلم تمزق على جدار الانتظار‮.‬

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب