23 ديسمبر، 2024 10:23 ص

فاجأ أهل منطقته بعودته من أمريكا بعد أسبوعين من سفره اليها، لاجئاً مع زوجته وأولاده، ولعلها من الفرص النوادر التي يحسده عليها الكثيرون ممن أصبحوا يشعرون بالضيق من الأوضاع التي يظنون أنها لن تنجلي، ليس بسبب نظرة سودادوية، وإنما لواقع حال يجدوه يتجه نحو الأسوأ ، المهم أن صاحبنا عاد برؤية جديدة، يريد أن يقنعنا أن عذاب العراق أهون من عذاب أمريكا، وأخذ يعبر عن تذمره من الواقع الأمريكي بطريقة يحاول أن يبرر لكل الحانقين من عودته، مستعيناً بأفلام ” الأكشن” الأمريكية : “تدرون هناك عصابات”، ضحك من حوله، يعني يخطفون ويقتلون ؟ .. فأجاب : طبعاً .. طبعاً، فردوا عليه : ” لعد الميليشيات عدنه شسوي تلعب طم خريزه”، إحّمر وجهه وتلعثم لسانه، بعد أن أصبح عذره، أضحوكة، فاستعاد بعض قدراته، ليسكت التعليقات التي بدا عليها طابع الإستهزاء ، فصاح ” يمعودين رادوا يذلونه”، فقال له أحدهم : ” وإنت هنا مو مذلول”، أحس أن أعذاره لاتسعفه على إقناع مجموعة متطلعين للهجرة ، فقرر الإنسحاب وركب سيارته ” التاكسي” وقبل أن ينطلق ناديته : ” هنا أحسن أم أمريكا”، فأجاب بثقة ” طبعاً هنا”، وذهب فيما لاحقته تعليقات ” ينطي جوز اللي ما عند سنون”، و” لله في خلقه شؤون”.
التفت اليّ أحد المهتمين بدراسة السلوك، فقال تدري : لماذا رجع فلان؟.
قلت : لعله إشتاق لأهله.
فرد عليه : لكن أهله معه.
قلت : أقصد أبوه وأمه وأخوته، وربما حتى أصدقائه.
قال : لا، لأنه لم يحصل على اللجوء الا بعد سنوات من السعي المتواصل والإستعداد النفسي، لكن يبدو أنه شعر بضآلته داخل المجتمع الجديد.
الطريف في هذه الحكاية الواقعية، حيث أنها ليست من خيالات كاتب أو فبركته، كما تظن ، بل كان بإمكاننا أن نقدم الشخوص بأسمائهم وعناوينهم لولا إحترامنا لخصوصياتهم، أن إبنة العائد ، إلتحقت بمدرستها، فسألتها معلمتها : أين كنت كل هذه الأيام، ولماذا غبت ؟.. فأجابتها : “ست كنت في أمريكا”، فاستشاطت المعلمة منها غضباً، وقالت لها : تغيبين وتكذبين، وأخذتها الى المديرة لمعاقبتها على كذبها، وطلبت المديرة منها أن تجلب ولي أمرها، والبقية أتركه لكم.
أنموذج آخر، واقعي أيضاً، لكنه هذه المرة من المملكة المتحدة، كان أصبر من صاحبنا الأول، حيث إستطاع أن يصمد 6 أشهر بالتمام والكمال في مدينة مانجستر، لكن مع الفارق أنه كان وحده، من دون أسرته، ولو أكمل السنة لكان بالإمكان ضمهم اليه، ضمن قانون لم الشمل، لكنه في لحظة قرر العودة، وخطى من دون أن يلتفت الى الوراء، أو لنقل بعبارة أدق ينظر الى الأمام، حيث مشارف المستقبل، الى أحد مكاتب حجوز الخطوط الجوية، ويعود الى بغداد، وكان أول مشوار ذهب اليه هو ” الباب الشرقي”.
سألته بتهكم : ماذا فعلت، كنت آمل أن تدبر لي شيئاً هناك، لا أن تعود بخفي حنين؟.
لكنه حاول كالذي سبقه أن يبرر سبب عودته، وأخذ يحدثني عن الجو الكئيب والحياة الرتيبة.
ضحكت، وقلت له غامزاً : يعني تريد أن تقول الباب الشرقي كان حيوي والجو بديع والدنيا ربيع.
لاأدري كيف يفكرون، لكن ربما هناك دافع داخلي لايستطيعون التعبير عنه هو من يتحكم في قراراتهم في العودة، من دون أن يفصحوا عنه، ” هوم سك”، ” نوم سك”، أو أي شيء آخر. 
لديّ صديق في تركيا يتواصل معي عبر ” الفايبر” يسألني في كل يوم، عن الأوضاع هل تحسنت، والميليشيات هل إنتهت، وفرص العمل هل توفرت، والإعتقالات العشوائية هل توقفت، والسيطرات هل رفعت، والشوارع المغلقة هل فتحت، والمساجد هل أصبحت آمنة بحيث يصلى فيها من دون خوف، وهل الأسماء مصانة من الملاحقة والتصفية، والشوارع هل خلت من مظاهر الطائفية ؟، وأسئلة أخرى لو أجيب عليها بكلمة “نعم” لعاد الى الوطن، ولم يفكر بالخروج منه الا للنزهة والسياحة.
العراقيون، لايفكرون بالهجرة، أو اللجوء، لكن حكامهم والأحزاب المتنفذة، والميليشيات هم من يجبروهم على ذلك.