8 أبريل، 2024 7:43 م
Search
Close this search box.

حلبجة في ميزان القانون الدولي

Facebook
Twitter
LinkedIn

في يوم 16/3 من عام 1988 وماكاد اهالي حلبجة القرية العراقية الكردية الوادعه بين احضان سلاسل جبال(هورامان) الشاهقة من الشمال وسلسلة جبال (بالامبو ) من الجنوب ومن الشرق سلسلة جبال(شنروي)وبحيرة دربندخان و من الغرب سهل(شهرزور) على الحدود الشمالية الشرقية العراقية يخرجوا من المخابيء بعد ان تاكدوا من انسحاب القوات الإيرانية التي كانت احتلت القرية قبل يوم واحد وفي الساعة الحادية عشر وخمس واربعون دقيقة فجأة شنت طائرت مقاتلة من القوة الجوية العراقية أقلعت من قاعدة البكر الجوية قرب بلد في صلاح الدين، ومن قاعدة الحرية الجوية في كركوك، وقاعدة صدام في الموصل، غارة على المدينة مستخدمة في قصفها المركز قنابل النابالم شديدة الانفجار، واستمر القصف الى الساعة 1500 نفس اليوم، وعندما يأس الاهالي من توقفه، وبدأوا بالهروب مشيا وباستخدام الجرارات الزراعية، والحيوانات، فجأة بدأت رائحة التفاح تملء طرقات القرية بعطر فواح يتسلل الى البيوت والمغاور ويدخل الى الرئتين بكل سهوله ليحول في ظرف دقائق خمسة الاف انسان من نساء واطفال وشيوخ الى جثث ترقد في طرقات القرية والالاف من المصابين هاربين عبر الطرقات الجبلية الوعره بحثا عن ملجاء في اكبر هجوم كيمياوي ضد منطقة مأهولة بالناس في التاريخ وتصنف ضمن جرائم الإبادة الجماعية .
اول من استخدم تعبير (الإبادة الجماعية ) هو الفقيه البولوني الأصل (رافائيل لمكين) كمصطلح لغوي مركب (الجينوسايد ) المكون من جمع كلمة (جينو ) اليونانية والتي تعني ”سلالة” ، ”جماعة”، ”قبيلة ”، مع كلمة (سايد ) اللاّتينية أي : ”القتـل ”، والتي تعني جريمة الإباد ة الجماعية. ليصف المجازر والسياسة الشنيعة المتخدة مـن طرف دول المحور فـي أوروبا المحتلة، وعبر عنها رئيس الوزراء البريطاني أثناء الحرب العالمية الثانية “ونستون تشرشل “بأنها الجريمة التي ليس لها وصف،وذلك لهول ما تتسبب فيه من حصد للآلاف أو الملايين من بني الإنسان”. الإبادة الجماعية كجريمة في القانون الدولي عرفت سماتها أولا لدى الفقه ثم إنتقلت إلى الأوساط الدبلوماسية قصد تدوينها في الصكوك الدولية و هي التسـمية التـي عـرف بـه هـذا المصطلح من حينها و الذي يعد ذات اصول فقهية فبل انتقاله الى مدلول قـانوني متـداول فـي المجتمع الدولي فمند 1933 ،بمناسبة الملتقى الدولي الخامس لتوحيـد القـانون الجنـائي، إقترح “لمكين ” تجريم الأفعال التي تهدف إلى تدمير وإضطهاد الجماعـات العرقيـة أو الدينيـة وغيرهـا، إضـافة إلى تجريم أفعال تخريب المنشآت الثقافية والشعائر الدينية . تعد جريمة إبادة الجيش البشري من الجرائم التي ألحقت خسائر جسيمة و فضيعة بالإنسانية وذلك في كل مراحل التاريخ مثلما كنا قد أشرنا إليه لأنها تستهدف أسمى وأقدس حق وهبه الله تعالى للإنسان ألا وهو الحق في الحياة ، من خلال إفنائه وسحقه من الوجود . عدت هذه الجريمة من أمهات الجرائم المرتكبة ضــد الإنسانيــة فـي 11 كانون الأول سنة 1946 من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة ، التي تبنتها في 09 كانون الأول سنة 1948، لتدخل طور النفاذ بتاريخ 12/01/1951 بعد مصادقة 20 دولة عليها وبتاريخ 31 ماي 1995 صادقت عليها أكثر من 100 دولة . وبحلول عام 1997 قفز هذا العدد إلى 123 دولة.
كأي جريمة تتوفر جريمة إبادة الجنس البشري على أركان عامة وهي الركن المادي والمعنوي والشرعي وعلى ركن خاص هو الركن الدولي الذي يميزها عن أركان الجريمة الداخلية، ولما كانت معاقبة جريمة إبادة الجنس البشري هي مسألة ذات اختصاص دولي، فقد أكدت الجمعية العامة للأمم المتحدة أن إبادة الجنس في نظر القانون الدولي هي جريمة دولية يدينها العالم المتمدن، ويعاقب مرتكبوها سواء كانوا فاعلين أصليين أو شركاء بصرف النظر عن صفتهم حكاما كانوا أو أفراد عاديين. وقد حاولنا في هذا المبحث التعرض بشيء من الشرح لأركان هذه الجريمة الدولية .
يقصد بالركن المادي لجريمة إبادة الجنس البشري إقدام مرتكب هذه الجريمة على إتيان أحد الأفعال التي نصت عليها المادة الثانية من اتفاقية منع جريمة إبادة الجنس البشري، أو المادة السادسة من نظام روما الأساسي وهي:
أ – قتل أفراد أو أعضاء الجماعة.
ب- إلحاق أذى أو ضرر جسدي أو عقلي خطير أو جسيم بأعضاء الجماعة.
ج- إخضاع الجماعة لظروف وأحوال معيشية قاسية يقصد منها إهلاكها أو تدميرها الفعلي كليا أو جزئيا.
د- فرض تدابير ترمي إلى منع أو إعاقة النسل داخل الجماعة.
هـ- نقل أطفال أو صغار الجماعة قهرا وعنوة من جماعتهم إلى جماعة أخرى.
يتحقق الركن المادي بممارسة بعض أنواع القهر المادي او المعنوي المباشر على الجماعة، كالضرب والتشويه والتعذيب والحجز، ونشر الأوبئة أو إجبارهم على القيام بأعمال معينة او بإعطائهم بعض المواد، او تعريضهم الى مواقف قاسية و مرعبة . وهذا ما حصل في حلبجة عصر يوم 16/3/1988 اذ أعطت القيادة العامة للقوات المسلحة أوامرها الصريحة بتنفيذ ضربة جوية على حلبجة باستخدام السلاح الخاص “الكيمياوي”
بالنسبة للركن المعنوي فجريمة الإبادة، هي جريمة مقصودة، يأخذ ركنها المعنوي صورة القصد الجنائي الذي يتكون من عنصري العلم والإرادة وهو ما تضمنته المادة الثانية من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية التي بينت صور هذه الجريمة التي تتشكل من القصد الخاص والقصد العام، فالقصد العام يتمثل في الإرادة والعلم، إذ أن الجاني يجب أن يعلم بأن الفعل الذي يرتكبه من خلال قتله لأعضاء من الجماعة من شأنه إلحاق أذى جسدي أو معنوي خطير بأعضائها أو إخضاعهما عمدا لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا، وغيرها من الأفعال المجرمة التي تضمنتها المادة الثانية المشار إليها، ضف إلى ذلك عنصر العلم الذي يفترض أن يدركه الجاني بأن الأفعال التي ارتكبها تشكل خرقا فاضحا يهدد حياة الجماعة، ومن ثم يجب أن تنصرف إرادته للفعل الذي يؤدي إليها . تتميز جريمة الإبادة الجماعية عن غيرها من الجرائم بقصدها الخاص المتمثل في الإهلاك الكلي الذي تنقسم أوجهه إلى إهلاك جسدي وبيولوجي.
يعد الركن الدولي للجريمة بمثابة المعيار الأساسي الذي يميزها عن الجريمة الجنائية الداخلية، ويتألف هذا الركن من عنصرين، أولهما، شخصي ويتجسد في ضرورة أن تكون الجريمة الدولية قد ارتكبت باسم الدولة لحسابها أو برضا منها، من قبل الشخص أو الأشخاص الطبيعيين الذين يقدمون على اقتراف الفعل المجرم بناء على طلب أو أمر من الدولة باسمها أو برضا منها وثانيهما: يتمثل في أن المصلحة المشمولة بالحماية تتمتع بالصفة الدولية حيث يعد الفعل غير المشروع انتهاكا لمصالح وقيم تعد أساسية بالنسبة للمجتمع الدولي. ذهبت غالبية الفقه التقليدي إلى اعتبار الجريمة دولية إذا ما كان الفعل المرتكب مخالفا للقانون الدولي وصادرا عن الدولة ، غير أن جانبا آخر من الفقه قد اشترط الصفة الدولية لهذه الجريمة إذا ما تورط أكثر من دولة فيها، أي وجود عنصر أجنبي غير أن هذا الرأي قد أنتقد من خلال التساؤل عن حكم جرائم الإبادة التي أرتكبها النازيون الألمان ضد مواطنيهم من اليهود الألمان ، أو ليس كلا من الفاعل والضحايا في تلك الجريمة من جنسية واحدة، كما أن الجريمة لم تقع من دولة ضد دولة أخرى بحكم أن الفاعل والضحايا هم من دولة واحدة ؟ وذهب فريق آخر من الفقه إلى أن المعيار المميز للجريمة الدولية إنما يتوقف على ارتكاب عدوان جسيم على المصالح التي يحميها القانون الدولي الجنائي.
بالنسبة للسلاح المستخدم في ارتكاب الجريمة فهو السلاح الكيمياوي حيث تم في عام 1925 حظر استخدام السلاح الكيمياوي والبيولوجي دون التطرق الى ما يتعلق بالانتاج، في بروتوكول جنيف، وأعيد تكرار الحظر في مؤتمر نزع السلاح 1932- 1934، كذلك تم التأكيد على موضوع الحظر الدولي على استخدام الاسلحة البيولوجية والسمية عام 1972 الذي باتت 170 دولة طرفا في حظر التطوير. وقد اكدت الشهادات التي قدمت الى المحكمة الجنائية العراقية استخدام القوات العراقية العتاد الخاص في عموم عمليات الانفال . كما اكدت الشهادات ان منشأى المثنى التابعه للتصنيع العسكري كانت تصنع العوامل الكيمياوية ومن ضمنها مواد ( التابون والسارين والخردل والفي اكس والسي اس ) وانها كانت تعبأ في قنابل للمدفعية وصواريخ الراجمات وقنابل الطائرات.
بالإضافة الى الشهادات كانت هناك وثائق صادرة عن الجهات الرسمية في حينها تؤكد استخدام القوات العراقية للأسلحة الكيمياوية التي كان يشار اليها بالعتاد الخاص ومنها ، كتاب أمانة سر القيادة العامة للقوات المسلحة سري للغاية وشخصي الموجه الى نائب القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع والى رئيس أركان الجيش، وموضوعه توجيهات، وهو عبارة عن أوامر أصدرها القائد العام للقوات المسلحة جاء بالفقرة 2 منها ( في قاطع شرقي دربندخان، وفي قاطع عمليات الانفال .. يجب الاستمرار بضرب العدو والمخربين بالنار، مدفعية وقوة جوية، وعدم اعطاءهم فرصة للاستقرار أو التقاط الانفاس. يفضل ضرب العتاد الخاص بالمدفعية ليلا بشكل مباغت، أو تطعيم ضربات المدفعية الاعتيادية بضربات عتاد خاص).
لقد ورد في القاعدة القانونية المعروفة أن الاعتراف سيد الادلة، وقد أعترف المتهم الاول في قضية حلبجة علي حسن المجيد صراحة في الجلسة المؤرخة في 16/6/2009 بأنه (لو ثبت أن العراق هو من ضرب حلبجة بالسلاح الكيمياوي فاني اتحمل جزءا من المسؤولية وليس كامل المسؤولية لاني جزء من القيادة وليس مسؤولا عنها باعتباري عضوا في القيادة العامة للقوات المسلحة) وقد اضاف باعترافه أمام المشتكين والشهود قائلا( بانني ضربت حلبجة بالكيمياوي وانتم كيف بقيتم أحياء.. انني حاكم للاكراد والرئيس صدام حسين حاكم العراق وان حلبجة نكسة يجب تطهيرها بماء البحر) .
مما تقدم نخلص الى ان جريمة حلبجة جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان من الناحية القانونية والدولية . من المهم ان يتم تدريس هذه المذبحة في المدارس والجامعات وخصوصا في كليات القانون لتعلم الأجيال القادمة حجم المأساة التي عانى منها الشعب العراقي في ظل الدكتاتورية المقيته .

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب