23 ديسمبر، 2024 5:08 م

حلاوة رضاعها … ومرارة فطامها …

حلاوة رضاعها … ومرارة فطامها …

هذا المقال يشمل كل متشبث بالسلطة لأي سبب كان ، خاصة من يدعي تمسكه بالدين الإسلامي الحنيف ، مذكرين من نسوا قول الله سبحانه وتعالى ((إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا )) الآية (72( من سورة الأحزاب ، وقول رسول الله محمد (ص) فيها : (( إنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزي وندامة ، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليها فيها )) ، وقوله (ص) لعمه العباس (رض) عندما طلب منه الإمارة : (( إنا والله ياعم لا نولي هذا الأمر أحدا يسأله أو أحدا يحرص عليه )) ، وفي المثل الشعبي ( لو دامت لغيرك ما وصلت إليك ) ، وهنالك الكثير والمزيد مما يمكن التذكير به من أجل أن نكون في أحسن وأفضل من هذا الحال البائس الذي نحن فيه الآن ؟!.

فبموجب أمر سلطة ( الإحتلال ) الإئتلاف المؤقتة رقم (35) في 18/9/2003(1) ، تم تشكيل مجلس القضاء الأعلى ، على أن يكون رئيس محكمة التمييز رئيسا له ، ولما كان السيد مدحت المحمود رئيسا لمحكمة التمييز ، فقد أصبح رئيسا لمجلس القضاء الأعلى إعتبارا من 18/9/2003 ، وإستنادا إلى أحكام المادة (44) من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الإنتقالية والقسم الثاني من ملحقه ، صدر قانون المحكمة الإتحادية العليا رقم (30) في 24/2/2005(2) ، على أن يكون رئيس المحكمة المذكورة رئيسا لمجلس القضاء الأعلى بدلا من رئيس محكمة التمييز ، ولما كان السيد مدحت المحمود رئيسا لمجلس القضاء الأعلى بحكم منصبه رئيسا لمحكمة التمييز ، فقد تم تعيينه رئيسا للمحكمة الإتحادية العليا المشكلة بموجب قانونها أعلاه ، لغرض إستمراره في رئاسة مجلس القضاء الأعلى ، وبذلك جمع بين أكبر ثلاث سلطات قضائية في آن واحد ، إلى حين تعيين رئيس لمحكمة التمييز .

ولعل من غرائب التشريعات الخاصة ، أن تنص أحكامها على ديمومة بقاء المقصود في المنصب ، إلى حين تركه له حسب رغبته الشخصية ؟!، وعليه نصت المادة (6/ثالثا) من القانون الخاص موضوع البحث ، على أن ( يستمر رئيس وأعضاء المحكمة الإتحادية العليا بالخدمة دون تحديد حد أعلى للعمر ، إلا إذا رغب بترك الخدمة ) ، على الرغم من تعارض أحكامها مع قواعد الخدمة المدنية العامة أو الخاصة ، لعدم إمكانية إستمرار كمال الأهلية المطلوبة في أي شخص ، خاصة لغرض إشغال الوظائف المهمة والحساسة ، وتأدية مهامها وواجباتها بالشكل الصحيح والسليم ، لأن لتقادم العمر قوة تأثير سلبية وفاعلة خارج حدود إرادة ورغبة الأشخاص ، خاصة المصابين منهم بمرض جنون العظمة والتشبث بالمنصب من أجل الجاه والسلطان ، أو الذين يعتقدون في عدم وجود من يحل محلهم ، وكأني بهم وقول الشاعر أبي العلاء المعري ( وإني وإن كنت الأخير زمانه … لآت بما لم تستطعه الأوائل) ، أو ممن يعتقدون في ترك الوظيفة أو الخدمة العامة نهاية لحياتهم الشخصية أو العامة ، وهذا ما جعل السيد المحمود متشبثا بالمنصب وفي منأى عن الإبعاد أو الإستبدال أو الإقالة ، إلا إذا رغب بترك الخدمة بناء على طلبه بالإستقالة أو بالتقاعد ، أو بفعل القوة القاهرة (الوفاة) .

ولما كان قانون المحكمة الإتحادية نافذا إعتبارا من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية في 17/5/2005 ، دون أن يكون هنالك من تحديد لمدة خدمة رئيس وأعضاء المحكمة ، فإن من العجيب والمعيب أن تحدد مدة الخدمة فيها ب (12) سنة ، كما صرح بذلك السيد مدحت المحمود للأسف الشديد ؟!، وهو الذي أبعد عن منصبيه بعد صدور قانون مجلس القضاء الأعلى المرقم (112) لسنة 2012 (3) ، حيث أصبح رئيس محكمة التمييز رئيسا لمجلس القضاء الأعلى ، إلى حين صدور قرار المحكمة الإتحادية العليا المرقم ( 87 / إتحادية / إعلام / 2013 ) في 16/9/2013 ، بعدم دستورية قانون مجلس القضاء الأعلى رقم (112) لسنة 2012 ، حسب الطعن المقدم من قبل المدعي ( النائب خالد العطية ) رئيس كتلة دولة القانون النيابية ؟!، وعودة مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الإتحادية العليا برئاسة السيد مدحت المحمود ، بعد إبعاد دام ( سبعة أشهر وإثنا عشر يوما ) ، وفي كل الأحوال والإحتمالات ، فإن مدة خدمته حسب رأيه الشخصي وليس القانوني ، تنتهي بالإحالة إلى التقاعد من مجلس القضاء الأعلى بتاريخ 30/4/2016 ، أو بتأريخ 29/12/2017 من المحكمة الإتحادية العليا ، إستنادا إلى رغبته في البقاء في المنصب لمدة (12) سنة حسب رأيه الشخصي ، أو إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا .

إن السيد مدحت المحمود ، ليس من الأشخاص الذين يمكن أن يطعن بمستوى كفاءته وقدرته وإمكانياته في الشؤون القانونية ، وهو الآن رجل الدولة الأول في القضاء ، ولكنه أساء لنفسه وقدره ومكانته الوظيفية ، حين بذل ما بوسعه من جهد وتعاون مع قوات الإحتلال ، كما إن إنحيازه في تفسير النصوص ورد التشريعات بعدم دستوريتها ، إرضاء للسلطة التنفيذية ومصالح رئيسها ، يؤشر مدى إنحيازه المؤدي إلى إنحراف السلطة القضائية عن جادة الصواب والحياد المهني ، وصفة الإستقلال القضائي الذي منحها الدستور ، ولأن الفساد يتحدد في إطار الإدارة والقانون ، فإن في مراجعة قرارات المحكمة الإتحادية ما يؤكد ذلك ، حين يجد قرارات الإلغاء والرد وعدم الدستورية المستندة إلى النواحي الشكلية ، إضافة إلى التراجع عن بعضها ، مثل عدم منع مجلس النواب من تشريع القوانين ، بموجب قراره المتخذ في جلسة الثلاثاء الموافق 14/4/2015 ، بشأن رد دعوى نقض قانون إستبدال أعضاء مجلس النواب رقم (6) لسنة 2006 ، مع تأكيد المحكمة على أن دور مجلس النواب في تشريع القوانين يجب أن لا يمس مبدأ الفصل بين السلطات ، وبذلك نستدل على تسبب المحكمة في ضياع فرص الإفادة من التشريعات التي صدرت ومن ثم ألغيت لعدم دستوريتها الشكلية ، بحجة أنها مقترحات قوانين وليست مشاريع قوانين ، أما كذبته الأخيرة وغير المتوقع صدورها عنه ، في تحديد مدة الخدمة في مجلس القضاء الأعلى أو في المحكمة الإتحادية العليا ب (12) سنة من غير سند قانوني ، وهو رجل القانون والقضاء الأول في العراق ، فيشيب لها ولدان الإدارة والقانون ، لأن القاضي إن خضع لقوانين الخدمة العامة أو الخاصة ، تتحتم إحالته إلى التقاعد إذا بلغ من العمر ( 63-70 ) سنة ، إلا إن قانون المحكمة الإتحادية رقم (30) في 24/2/2005 ، أجاز لرئيس المحكمة الإتحادية وأعضائها بالخدمة طول العمر ، ولما كان السيد المحمود رئيسا لتلك المحكمة ، فإنه مشمول بمدة الخدمة المطلقة وغير المحددة ، ولا علاقة لرئاسته هو أو غيره لمجلس القضاء بذلك ، لأن احتمالات تكليف رئيس محكمة التمييز أو غيره برئاسة مجلس القضاء واردة ، كما كان هو كذلك قبل تشكيل المحكمة الإتحادية ، أو كما حصل بعد تشريع قانون مجلس القضاء رقم (112) لسنة 2012 ، ولنفترض أن السيد مدحت المحمود أبعد عن رئاسة مجلس القضاء الأعلى ، فإنه سيحتفظ بمدة الخدمة المطلقة كونه رئيسا للمحكمة الإتحادية ، إلا إذا ألغي قانونها أو عدل ما يخص شرط الخدمة فيها ، وفي غير ذلك ، سيحال إلى التقاعد رئيس مجلس القضاء الأعلى قبل رئيس المحكمة الإتحادية العليا ، لعدم تمتعه بذلك الإمتياز .

لقد إتسعت المطالبة الجماهيرية بترك السيد مدحت المحمود للسلطة القضائية ، حتى أعلنت السلطة القضائية الإتحادية عن رفض أعضاء مجلس القضاء الأعلى بالإجماع ، طلب إحالته إلى التقاعد في جلسة المجلس المنعقدة بتأريخ 17/8/2015 ، لأن المصلحة العامة والعدالة في هذه المرحلة تقتضي البقاء في مهامه رئيسا لمجلس القضاء الأعلى والمحكمة الإتحادية العليا ، مما حدى بالبعض إلى التشكيك بدوافع الإعلان عن الإحالة إلى التقاعد بهذه الصيغة وبذلك التأريخ ، الذي يقل عن التأريخ المتوقع لترك الخدمة في الحالتين المذكورتين فيما سبق .

وبدلا من تعديل المادة (6/ ثالثا) من قانون المحكمة الإتحادية العليا رقم (30) في 24/2/2005 ، بما يؤمن الإحالة الحتمية لرئيس وأعضاء المحكمة الإتحادية العليا إلى التقاعد عند بلوغهم سن (70) السبعين سنة من العمر مثلا ، وفي محاولة ثانية وبائسة لإبعاده عن السلطة القضائية ، أصدر مجلس النواب قانون مجلس القضاء الأعلى رقم (45) لسنة 2017(4) ، الذي نصت المادة (2/أولا/1) منه ، على أن يكون رئيس محكمة التمييز الاتحادية رئيسا للمجلس ، مما أسهم في إبعاده عن رئاسة مجلس القضاء الأعلى مع إحتفاظه بمنصب رئيس المحكمة الإتحادية العليا ، كما إن نص المادة (3/ثالثا) من القانون المذكور آنفا ، في أن يتولى مجلس القضاء الأعلى ( ترشيح أعضاء المحكمة الإتحادية العليا من القضاة ) ، عزز موقف ودور السيد مدحت المحمود ، عندما طعن رئيس مجلس القضاء الأعلى الجديد بعدم دستورية المادة (3 / ثانيا وثالثا وخامسا) والمادة (6 / ثالثا) من القانون ، حيث تم إلغاءها بموجب قرار المحكمة الإتحادية العليا رقم ( 19/إتحادية/ إعلام/2017) في 11/4/2017 .

ومن الجدير بالذكر ، أن مجلس القضاء الأعلى قد عقد جلسة لتكريم القاضي مدحت المحمود بتاريخ 25/1/2017 ، لجهوده في خدمة القضاء العراقي طيلة سنوات تبوئه منصب رئيس مجلس القضاء الأعلى ، الذي تولى مسؤوليته من بعده القاضي فائق زيدان التوفيق . مع بقاء القاضي مدحت المحمود متربعا على كرسي رئاسة المحكمة الإتحادية العليا ، على الرغم من تجاوزه الرابعة والثمانين سنة من العمر ، كونه من مواليد 21/9/1933. وبالرغم مما يشوب بعض قرارات المحكمة من التناقض والجنبة السياسية الواضحة ، مثلما هو حاصل في القرار المرقم (99و104و106/إتحادية/إعلام/2018) في21/6/2018 ، الخاص بالتعديل الثالث لقانون الإنتخابات النافذ . فما آن لك أن ترحل أيها الهَرِمُ ؟!، أم إن حلاوة رضاعها ومرارة فطامها ، سر التشبث بها والحرص عليها .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- نشر الأمر في جريدة الوقائع العراقية بالعدد (3980) في آذار/2004، وألغي بالقانون رقم (45) لسنة 2017.

2- نشر القانون في جريدة الوقائع العراقية بالعدد (3996) في 17/5/2005 .

3- نشر القانون في جريدة الوقائع العراقية بالعدد (4266) في 4/2/2013 .

4- نشر القانون في جريدة الوقائع العراقية بالعدد (4432) في 23/1/2017 .