غرقت مدينة بغداد . غرقت عدة مدن اخرى خلال الاسبوع الماضي.
انطفأت شعلة الأرواح الفقيرة العاجزة المسكينة ، بعد نزول )مطرة واحدة( عدنا فيها الى (ما قبل التاريخ) ، حيث أعماق الناس مرعوبة كأنها تعيش زمناً محكوماً بالأشغال الشاقة تحت غيوم السماء. المطر موصوف أنه (نعمة) لكنه في العراق غدا (نقمة) .
أتذكّر، في هذه الأيام، فيضانات عديدة مرّت ببلادنا. عشتُ فيضان عام 1946 حيث تخرّبت المزارع بمسافات طويلة ممتدة من الموصل حتى البصرة ، عاش الناس فيها مأساة كبرى ذات 100 فصل. تبدد فيها كل زرع .
في عام 1954 حدث فيضان كبير آخر جعل أرض الرافدين خصبة للفقر والمرض. لكنني اؤكد أن الدولة في ذينك الفيضانين كانت قريبة من هموم الناس الفقراء، الساكنين في المناطق المنكوبة ،حيث بُذلتْ كل فرضيات الانقاذ ، بينما الوزراء والمدراء والمسئولين الحاليين يكتفون بالتمتمة أو التلاعب بالكلام والالفاظ ووضع الغشاوة على أعين المواطنين لتغطية أخطاء ونواقص مشاريع الدولة ومؤسساتها.
جميع الناس البغداديين يقفون في هذا الزمان، استناداً إلى حكمة تجاربهم ، موقفاً قائماً على تفسيرٍ ميكانيكيٍ واحدٍ هو أن (أمانة العاصمة) بمسئوليها جميعاً، هم المقصّرون . المسئولون في الدولة لا يتابعون الماء – قبل هطوله – ولا يتابعون حركته في الشوارع بعد انسداد مجاري تصريفه – بعد هطوله – لأنهم لا يتقنون سوى القعود على كرسيٍّ يجلب لهم المال والجاه والسلطة على حساب فقراء الناس . بالمقابل راح المسئولون الاداريون في ( أمانة العاصمة) يبحثون عن مسوغاتٍ باطلةٍ ، ذات بناء (لغوي) أو (هندسي) لاستخدامه في وصف ما حدث بشوارع بغداد .بعضهم حاول اختزال الانتقادات بأنها تصفية حساب بين اشخاص وقوى ذات نزعات سياسية – تناقضية في هذه المؤسسة الخدمية.
لا بد من التذكير بمناسبة (غرق بغداد) بأن نظام الحكم في اعقاب فيضان عام 1946 توجّه نحو تخفيف عبء وآثار الفيضان عن كاهل الشعب إذ تمّ إلغاء الاحكام العرفية، وقدّمتْ حكومة الباجي جي استقالتها. تشكلتْ حكومة جديدة برئاسة توفيق السويدي قامت بخطوة ديمقراطية مهمة بإجازة عدد من الأحزاب السياسية مثل حزب الشعب برئاسة (عزيز شريف) وحزب الاستقلال برئاسة (محمد مهدي كبة) وحزب الاتحاد الوطني برئاسة (ناظم الزهاوي) وحزب الاحرار برئاسة (توفيق السويدي) والحزب الوطني الديمقراطي برئاسة (كامل الجادرجي). كما تم تعيين الشخصية الادارية القديرة الدكتور فائق شاكر امينا للعاصمة ومن افراح عام الفيضان وصول كوكب الشرق ام كلثوم الى بغداد واقامت بعض حفلاتها الغنائية .
بعد غرق بغداد في فيضان عام 1954 استقالت وزارة الدكتور محمد فاضل الجمالي بالرغم من أن الجميع كان يعلم ان الرئيس الجمالي غير مسئول عما جرى من بؤس لحياة الفقراء، لكن احترامه لكرامته دفعته الى التخلي عن كرسي الرئاسة. كان طبعه طيبا ،كما يبدو، لكي يفسح المجال لغيره عسى أن يكون قادراً على مواجهة المصاعب الطارئة بعلمٍ وحماسةٍ وليس بغطرسة ونفاق، كما يفعل الكثير من رجال الدولة والحكومة في هذه الايام .
ثم نهضت القوى والاحزاب الوطنية بتشكيل الجبهة الوطنية من الحزب الوطني الديمقراطي ،وحزب الاستقلال، والحزب الشيوعي، وتمّ اجراء انتخابات برلمانية فاز فيها 11 معارضا وطنيا اضطر نوري السعيد إلى حله في نفس يوم افتتاحه، مما أدّى الى انشقاق حزب الامة الاشتراكي برئاسة صالح جبر وحزب الاتحاد الدستوري برئاسة نوري السعيد وانحلالهما .كان الناس مسرورين غاية السرور بانحلال هذين الحزبين المسئولين عن كوارث البلاد، رغم ان وزارة الداخلية الغت 52 جريدة ومجلة عراقية بقرار واحد.
اليوم تغرق بغداد من جديد، لكن أحداً من المسئولين الحكوميين، الفاسدين وغير الفاسدين، الطفيليين وغير الطفيليين، الطيبين وغير الطيبين، لا يستقيل ولا يقال، ولا أم كلثوم تغني ولا ناظم الغزالي ولا عبد الحليم حافظ، بل جميع الحكام يبحث عن الصياغات التوفيقية عما حصل من إلحاق الاذى وزيادة آلام الشعب ومعاناته وفقره حتى مات 70 انسانا عراقيا بصعقة كهربائية لأول مرة في تاريخ تراثنا الكهربائي..!
في نفس يوم غرق بغداد مات في أحد النوادي الليلية في بوخارست عاصمة رومانيا 27 مواطنا رومانيا فاستلهم رئيس الوزراء الروماني، فوراً، تراث الكرامة الوزارية فقدم استقالته لأن حادث الحريق محسوبٌ على حكومته وعلى مسئوليته عن كل أحداث الطوارئ في رومانيا بجوانبها ،الحية والمظلمة ،سواء كان غرقاً او حرقاً، كما استقال وأقيل عدد كبير من مسئولي السياحة الرومانية.
أما في بلادنا بلاد الرافدين فلا يعني موت الناس شيئا في قاموس الحكام سواء كان الموت نتيجة (صعقة كهربائية) أو (صعقة داعشية) لأن الدولة العراقية مبنية من ثلاثة اضلاع : الفساد والاهمال والأخلاق كظاهرة لم تكتمل بعد .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي في 9 – 11 – 2015