«كأنك يا بو زيد ما غزيت»… ينطبق هذا المثل على الحال الراهنة للعراق وللعراقيين الذين لديهم مثل مُشابه في المضمون يقول: «تيتي تيتي مثل ما رحتي جيتي». المشهد العراقي الحالي يوحي كما لو أن أحداً لم يفعل شيئاً لتغيير أو تحسين أوضاع البلاد المتدهورة على نحو متواصل منذ أن تمكّنت أحزاب الإسلام السياسي، بفعل فاعلين خارجيين، هم الأميركيون والإيرانيون، من فرض هيمنتها على مقدرات الدولة والمجتمع عبر عملية انتخابية لم تكن يوماً نزيهة باعتراف بعض أطرافها.
كأنّما الدستور الذي تحدّى العراقيون تنظيم «القاعدة» وسائر منظمات الإرهاب في أوج فاعليتها، في سبيل التصويت عليه، في نهاية 2005، لم يُختَتَم بمادة تُلزِم بتعديله في غضون مدة انقضى تاريخها في عام 2007… وحتى اليوم لم يُعدّل في نصه حرف واحد!
وكأنما القوى المتنفّذة التي ركنت هذا الدستور جانباً، بعد الاستفتاء العام عليه مباشرة، وتوافقت على اعتماد نظام المحاصصة الطائفية والقومية بديلاً عنه، لم تتعهد بأن ذلك سيكون لدورة برلمانية واحدة فقط، كيما تطمئنّ «المكوّنات» الطائفية والقومية جميعاً إلى أن لكلّ منها مكاناً ومكانة في النظام الجديد، بحسب ما زُعِمَ يومها، وقد انفضّت دورتان برلمانيتان كاملتان بعد تلك الدورة (الأولى، 2006 – 2010) من دون العودة إلى الأصل (الدستور)، بل ليُعلن البعض بحماسة وصلافة أن «المحاصصة وُجِدتْ لتبقى»، وأنها «أصبحت أمراً واقعاً» لا فكاك منه!
وكأنما، أيضاً، القوى الفائزة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة (مايو/أيار الماضي) لم تُعلن جميعاً عن أنّها غدت الآن على يقين وقناعة بضرورة التخلّي عن نظام المحاصصة والسعي لإقامة دولة المواطنة أو الدولة المدنية، بعدما وجدت أن الغالبية من العراقيين (60 في المائة) قد قاطعت الانتخابات الأخيرة احتجاجاً، في المقام الأول، على استمرار إدارة دولتهم على وفق نظام المحاصصة الذي كان بمثابة «صندوق باندورا» المتضمّن كل شرور البشر من جشع وغرور وافتراء وكذب وحسد ووهن ووقاحة، وسواها.
وكأنما هذه القوى نفسها، أيضاً، لم تتعهد علناً، بعد الانتخابات، بأنها لن تتدخّل هذه المرة في أمر تشكيل الحكومة الجديدة ليكون الوزراء من عناصرها ومحازبيها حصراً بذريعة «الاستحقاق الانتخابي»، وأنّها ستفوّض أمر الحكومة الجديدة إلى رئيسها المتوافَق عليه، عادل عبد المهدي، ليختار الوزراء بنفسه ويعيّنهم بإرادته الحرّة…!
فعلى رغم هذا كلّه، كلّ شيء في العراق يعود إلى المربّع الأول الذي انطلقت منه عربة المحاصصة التي قضى نظامها بأن يكون رئيس مجلس النواب سنّياً حُكماً، ورئيس الجمهورية كردياً حتماً، ورئيس الوزراء شيعياً وجوباً، والوزراء موزعون على وفق المسطرة الطائفية – القومية ذاتها، من دون أي اعتبار أو التفات إلى الأولويات المُفترضة في تولّي مناصب الدولة: الكفاءة والخبرة والنزاهة والوطنية.
عبد المهدي شكّل حكومة ناقصة لم تخرج عن الدائرة الجهنمية ذاتها، المحاصصة، في حين الجزء المتبقي من الحكومة عالق أيضاً عند حاجز المحاصصة الذي لم يجرؤ عبد المهدي على القفز من فوقه على الرغم من أن التفويض المُعلن الممنوح له من القوى المتنفّذة قد وفّر له منصة كان عليه أن يرتقيها ليعبر.
نظام المحاصصة، إذن، يُعيد إنتاج نفسه مع الحكومة الجديدة على غرار ما حصل مع الحكومات السابقة جميعاً، والعملية السياسية المتردية، بل المهترئة، تعيد تدوير ذاتها ومكوّناتها بكل مساوئها والمخاطر التي تنطوي عليها لجهة تأجيج الصراع السياسي وتفتيت البنية الاجتماعية ومفاقمة تفشّي الفساد الإداري والمالي وشيوع الممارسة السياسية المتعفّنة التي من مظاهرها بيع وشراء المناصب الوزارية من دون وجل أو خوف أو حتى حياء، والإصرار على توزير أشخاص لا يحظون بالمقبولية السياسية، فضلاً عن الشعبية، بل البعض منهم مُلاحق بقضايا الإرهاب والفساد ومشمول بفيتو المساءلة والعدالة وفيتو النزاهة.
ما الذي يُمكن أن يترتّب على هذا؟
الأرجح، بل المؤكد، أن إعادة التدوير هذه ستدفع باتّجاه أن يُعيد العراقيون إنتاج غضبهم حيال الطبقة السياسية المتنفّذة، وهو الغضب الذي عبّر عن نفسه غير مرّة في صيغة حركات احتجاجية متواصلة ومتفاقمة، وفي صيغة مقاطعة للانتخابات بنسبة كبيرة.
مؤشر الاحتجاج الشعبي في العراق ظلّ يتصاعد من دون تذبذب منذ 2010، بالتوازي مع تردي نظام الخدمات العامة، وبخاصة الأساسية: الكهرباء والماء والنقل والسكن والصحة والتعليم، وتفاقم مشكلات البطالة والفقر وتعطّل مشروعات التنمية بسبب الفساد وسوء الإدارة الناجمين عن منح المناصب القيادية، وما دونها، في الدولة إلى مَنْ لا يستحقونها من عديمي الكفاءة والخبرة والنزاهة. وقد بلغ الأمر في الصيف الماضي عتبة الاحتجاجات المصحوبة بالعنف.
ليس في وسع حكومة يشكّلها الآن السيد عبد المهدي على غرار الحكومات السابقة، في المجمل، وفي ظلّ عملية سياسية منتهية الصلاحية وفاقدة الشرعية بنظر الكثير من العراقيين، ولا يُراد إصلاحها وإعادة هيكلتها، أن تُخرِج العراق من النفق المُعتم الطويل المحشور فيه منذ خمس عشرة سنة… ولهذا معنى واحد هو أن الغضب العراقي الذي من الصعب إطفاء جذوته، يُمكن أن يكون مدمّراً، إذا ما تفجّر من جديد مع فقدان الأمل في الخروج من النفق.