لم تعد الخلافات والمعارك الجانبية بين الكتل السياسية أمرا مستساغا بعد التغيير الحكومي الذي نتج إثرإنتخابات نيسان الماضي البرلمانية. كما ان التحدي الذي يواجهه العراق فيما يتعلق بالحرب على الارهاب أو فيما يتعلق بالأزمة الاقتصادية يتطلب تجاوز الأهداف الاثنية أو الطائفية الضيقة لحساب أهداف وطنية أشمل وأسمى. لكن ما يطفو على سطح الحراك السياسي لا يعبر عن فهم عميق لطبيعة التحديات القائمة ويؤشر الى ان الكتل السياسية تخوض التحديات الجديدة بذات الآليات القديمة التي أدارت من خلالها صراعاتها بمواجهة حكومة السيد المالكي التي شهدت خلافات متعددة مع معظم الكتل والاحزاب التي المشاركة في العملية السياسية.
ويبدو رئيس مجلس الوزراء السيد حيدر العبادي متنبها الى أن أهم أهداف هذه الخلافات والمعارك الجانبية هو تعطيل وشل الجهد الحكومي أمام التحدي الارهابي والتحدي الاقتصادي وتقويض حركته الدبلوماسية الخارجية إضافة الى وضع العصي في عجلة الاصلاح التي باشرها منذ اليوم لتوليه السلطة ، فبادر منذ تكليفه بتشكيل الحكومة الى النأي بنفسه وحكومته عنها، وكان إعلانه الأول حول ضرورة الاسراع بتسمية الوزراء الأمنيين الخطوة الاولى لسحب البساط من تحت الكتل والأحزاب التي تعودت على تعليق الفشل في أي من مفاصل الدولة على شماعة رئيس مجلس الوزراء السابق، على الرغم من مشاركتها الفاعلة في تشكيلته الوزارية، كما ان تعامله المرن مع إقرار الموازنة الاتحادية وموافقته المسبقة على جميع التعديلات التي يجريها مجلس النواب على بنودها، تؤكد ان الرجل لا يريد الانشغال في معارك صغيرة ومفتعلة، بل يريد تركيز جهده على حشد أكبر قدر من القوة الداخلية مدعومة من قوى عالمية وإقليمية لمواجهة خطر إرهاب داعش، إضافة الى الحرب الداخلية لتعقيم مؤسسات الدولة من حجم الفساد المستشري في أسسها، وهي مهمة تبدو عسيرة اذا أخذنا بنظر الاعتبار قوة رموز الفساد المتربعين على مواقع ومناصب في السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية معززين بحيتان الفساد المرتبطين بعواصم عربية واقليمية.
في البيت الشيعي، يقفز البعض على ما تتطلبه ظروف المواجهة مع داعش نحو فتح جبهات أقل ما يقال عنها أنها إعادة إنتاج لجبهات مشابهة فتحت خلال السنوات الماضية ولم تؤدي سوى الى المزيد من التصدع في المشهد السياسي وشكلت مقدمة لتوالد الحركات الارهابية
على الارض العراقية. فالصراع المفتعل على رئاسة كتلة التحالف الوطني البرلمانية يصب في هذا الاتجاه، إذ ان من المتعارف ان منصب رئاسة مجلس الوزراء حين تكون لجهة ما ضمن التحالف تكون رئاسة الكتلة من نصيب جهة أخرى. كما ان الطروحات المتعلقة بقيادة الحشد الوطني من قبل بعض المنضوين تحت خيمة التحالف والذين أثبتت التجارب فشلهم في قيادة سابقة للجهد الامني والعسكري تصب بذات الاتجاه أيضا.
اما إتحاد القوى الوطنية فهو الآخر يعيد إنتاج لعبة القائمة العراقية “سابقا” مع حكومة المالكي، دون الالتفات أيضا الى حجم مسؤولياته أمام ناخبيه، إذ تقول النائبة عن الاتحاد انتصار الجبوري ” ان الحكومة لم تنفذ لغاية الان أهم بنود الوثيقة السياسية التي قدمها رئيس الحكومة حيدر العبادي عند تشكيل الحكومة، مثل الحرس الوطني ومساعدة النازحين وتحرير محافظاتنا من سيطرة داعش” ويؤكد بيان للاتحاد “ان خيار سحب الوزراء من الحكومة هو احد الخيارات المطروحة حاليا لدى الاتحاد ، نتيجة عدم التزام الحكومة بالوثيقة السياسية.
على الضفة الاخرى، يستمر السيد مسعود البرزاني بذات النهج الذي كان يمارسه مع حكومة المالكي على الرغم من الاتفاقات التي وقعها مع حكومة العبادي والتي أغضبت بعض حلفاء السيد العبادي لجهة الشعور باعطاء الشريك الكردي أكثر من إستحقاقته في تلك الاتفاقيات ولاسيما في شقها النفطي. وفي بيانه المتشنج الذي صدر على هامش انعقاد مؤتمر لندن لمكافحة الارهاب الذي حضره العبادي ممثلا عن العراق يقول البرزاني، “كنا ننتظر أن تحترم جميع الأطراف تضحيات شعب كردستان وبطولات البيشمركة، وتدعو ممثلي إقليم كردستان إلى المؤتمر والمؤتمرات المشابهة”، ويضيف”يحزننا أن تكون الشهادة والتضحية من نصيب شعب كردستان ويكون الاعتبار لأناس آخرين”، وأن “القوة الرئيسية والمؤثرة التي تواجه وبشكل مباشر الإرهاب العالمي على أرض الواقع هي قوات بيشمركة كردستان”، مؤكدا أن “شعب كردستان يستحق أن يحضر “ممثليه” مثل هذه المؤتمرات ليعبروا عن واقع ووجهة نظر شعب كردستان والبيشمركة الأبطال ولا يحق لأي كان أن يمثله لإيصال صوته في المؤتمرات والمنتديات الدولية”.
هذه المناكفات السياسية تؤكد ان بعض القوى السياسية كانت تستثمر في الخلافات القائمة إبان فترة الحكومة السابقة ولم تكن مطالباتها جدية في التغيير قدرما هي تكتيكات سياسية تستهدف الضغط على الحكومة من أجل كسب المزيد من الامتيازات الخاصة على حساب المصلحة العليا للبلاد، ما يعني انها تبحث عن النفوذ السياسي ومحاصرة الأطراف الأخرى بعيد عن مفهوم الشراكة الوطنية الذي تغنت به طويلا، وانها استمرأت لعبة شيطنة الحكومة
بغض النظر عمن يترأسها، والنأي بنفسها عن الاخطاء والمخاطر على الرغم من مشاركتها في الحكومة عبر حقائب وزارية بعضها سيادية والاخرى خدمية على درجة كبيرة من حيث الاهمية.
المتحدث باسم مكتب رئيس الحكومة يختصر المشهد بالقول “ان جميع بنود البرنامج الحكومي قد تحققت من قبيل سن النظام الداخلي لمجلس الوزراء، وسحب الطعن بقانون المحافظات، وإرسال الموازنة العامة للبرلمان،” التصريح قبل إقرار الموازنة” وصدور الاوامر الديوانية بشأن آليات الاعتقال”. ويلفت الى :” ان بندا واحدا لم يتحقق في البرنامج الحكومي وهو الحرس الوطني كونه موضوعا معقدا”، مبيناً أن “الحكومة تعكف الآن على صياغة مشروع القانون صياغة دقيقة تجنبه الجدل والصراع بين الكتل السياسية”.
أما فيما يتعلق بالموقف الكردي، فأن حكومة الاقليم وبعد أن اصبحت الكرة في ملعبها عبر الاتفاق الذي وافق العبادي على معظم بنوده، لم تعد قادرة على مسك العصا من وسطها، كما انها لم تعد تمثل بيضة القبان في التوازنات السياسية الداخلية، ويبدو ذلك جليا في مواقفها المتناقضة في المطالبة برواتب قوات البيشمركة وعدم الموافقة على إشراكها في القتال ضد قوات داعش خارج أراضي الاقليم مع حرصها على القتال في مناطق كركوك وسهل نينوى والتي تسمى “مناطق متنازع عليها” من أجل انتزاعها من يد داعش وضمها قسرا الى أراضي الاقليم بعيدا عن أية تفاهمات مع الحكومة المركزية، الأمر الذي ينذر بتعرض البلد الى كارثة حقيقية قد تفوق كارثة داعش بمراحل، لانه سيحول العراق الى محض حطام لا تنجوفيه قومية أو دين أو مذهب. فهل يصحو الواهمون ويلتحقون بركب الاصلاح الذي سيشمل خيره العراقيين جميعا؟.