1- ماض دون التاريخ .
” كل معرفة تبدأ بسؤال ، إلا السياسة ،فإنها تبدأ بجواب “
تلك هي خلاصة مايمكن أن يتوصل إليه الباحث في شؤون ذلك العلم الملتبس والسلوكيات الإشكالية المسماة “سياسة” خاصة في بلدان مثل بلداننا حيث يظهر ممارسو السياسة كقطعة من الخشب في بحر هائج .
في الألف الثالث قبل الميلاد، جاء أوركاجينا بإجابته الشهيرة التي ستصبح بعد قرون قانوناً عالمياً ” لن أسمح بوقوع اليتامى والضعفاء فريسة لظلم الأقوياء” وكان بذلك أول من وضع شرعة حقوق الإنسان وأول سياسي تتقدم إجابته على أسئلته ،ثم توالت الأجابات : أوتوحيكال يخاطب شعبه بعد أن حرر المدن السومرية : جئت محرراً ممن دنّس أرضنا، ثم جاء أورنمو حيث قدم إجاباته في سنّه أول دستور نظم فيه حياة البلاد ، بعدها ظهر سرجون الأكدي ليعلن إجابته : لن يتدخل الكهنة في شؤون الولاة ، ولا الولاة في شؤون القضاة ، فكان أول من فصل بين السلطات ، بعدها كانت الأجوبة الكبرى التي حملتها الرسالة المحمدية ( إنما جئت لأتمم مكارم الأخلاق ) ثم مقولة الإمام النابغة علي بن أبي طالب:” سلوني قبل أن تفقدوني ” قال ذلك وهو يدرك امتلاكه للإجابة فيما يطرحه عامّة الناس من أسئلة عن دينهم ودنياهم ، بعدها بسنوات أكدّ الإمام الحسين إجابته عن دواعي ثورته:” خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي ” .
أمثلة التاريخ تطول في هذا الجانب وكلها تذهب على أن من أهم صفات القائد وأكثرها تجلياً ، تتمثل في قدرته على الإجابة ، ذلك يعني إنه يحمل رسالة ينوي تبليغها أو قيمة لتثبيتها أو خطة عليه إنجازها أو تصوراً ينبغي التخطيط له.
في جلسة لوزير مسؤول عن صناعة العقل العراقي ،ابتدأ كلمته المطوّلة في مجموعات من الأسئلة التي تحمل الكثير من الشكوى والإخبار عن المعوقات التي تواجه عمل الحكومة جراء الخلل الحاصل في سلوكيات الآخرين والتنافس غير المشروع واختلال المواطنة ، وماشابه من المفردات التي بات العراقيون يسمعونها على لسان الجميع من البائع المتجول إلى رؤساء الكتل السياسية ، مروراً بالنواب والوزراء ، وصولاً إلى ترويكا الهرم الثلاثي في الدولة (الرؤساء الثلاثة).
الخلاصة من حديث الوزير إنه لم يطرح تصورات لحلول يمكن من خلالها تجاوز المشكلات أو حتى أسئلة من النوع المعرفي كي يصار من ثم إلى بلورتها لإستخلاص الإجابات ، مكتفياً بتساؤلات تعبّر عن عدم القدرة على فعل مايمكنه تجاوز الواقع .
كانت المقدمة قد أشارت إلى أن الوزير يحمل مشروعاً ، لكن ذلك لم يتبين في ما أورده ،لا في متن المحاضرة التي ألقاها ولا في الردود على الأسئلة والمداخلات التي طرحها بعض الحضور، ورغم إن المحاضرة ركّزت على ضرورة وعي التاريخ ، إلا أن الوزير لم يتطرق إلى كيفية استحصال الوعي من تاريخ يحتوي على كلّ تلك الإشكاليات ، قبل ذلك ينبغي معرفة ماهية تاريخنا أولاً كي نتحدث من ثم عن وعينا له ، ولنفترض إننا فعلنا بمعجزة ما أدخلتنا إلى وعي للتاريخ أو فهم له، فهل سينفعنا ذلك في حياتنا الحاضرة ؟ وكيف نوظفه في رسم مستقبلنا ؟
تتكون المادة الأساسية للتاريخ من عوامل ثلاثة : خبر – معلومة – معرفة ، الحالة الأولى تخبر عن وقوع الحدث في زمن ماض ومكان محدد ،فيما تشرح الثانية كيف وقع الحدث وماهي الوسائل التي استخدمت فيه وماذا كانت نتائجه النهائية ،أما تحويل التاريخ إلى حالة معرفية فتلك هي المشكلة ، إذ يتطلب ذلك سلسلة من العلوم والمنهجيات المترابطة : علوم سياسة فاعلة – علم اجتماع متطور – علوم إقتصادية حديثة – ثم وهو العامل الأكثر أهمية : عقل مبدع وفكر منفتح .
تلك العوامل مجتمعة ، هي وحدها الكفيلة بإخراج التاريخ من ثنائية المقدس والمدنس وبالتالي تحوّله من القصدي إلى الموضوعي ، أي من إستحضار وجداني / عقائدي / تعاد صياغته حسب مايتطلبه كلّ طرف ربطاً بأهوائه أو معتقداته ،وبالتالي يضفي هالة من التقديس أو اللعنة على أحداث بعينها ، إلى حالة موضوعية علمية لاعلاقة لها بالتقديس أو التدنيس ذي المنشأ الديني أو الآيديلوجي .
في منهجيات البحوث الجامعية مثلاً، لايقبل الكثير من الأستاذة المشرفين أو المناقشين ، كلمات من نوع (ع) أو (رض) أو (دام ظلّه ) أو ( لعنه الله ) أو ماشابه ، وذلك لسببين : 1: أنها تؤشر على غائية البحث وبالتالي تحديد اتجاهاته ونتائجه سلفاً ، ما قد يخرج البحث عن علميته ومنهجيته الموضوعية ويدخله من ثم في إطار القصدية ، وذلك بما تحمله تلك المفردات من أحكام مسبقة على ماقد يورده البحث عن شخصيات لعبت دوراً في الحدث أو تسببت بوقوعه
ب: لأن مفردات على هذه الشاكلة ، لاتدخل كجزء رئيس من الحدث ذاته ، وبالتالي لاتستقيم الحقيقة من دون إيرادها .
على ذلك فالتاريخ بما هو علم يبحث في أحداث الماضي ، لايتدخل في صياغة تلك الأحداث أو إعادة تركيبها في المبالغة ببعضها أو التقليل من أخرى ،ولأننا لم نتوصل بعد إلى التعامل مع التاريخ خارج حقل القصدية أو الحالة الخاصّة بهذه الطائفة أو ذلك المعتقد ، لذا يمكن القول إن التاريخ هنا يحضر بصفته ماضياً تعاد صياغته لا تاريخاً نقرأه وفق منهجياته ، وبالتالي يصبح الماضي (مؤرخاً أو متداولاً ) وسيلة لإستغلال ينتج عنه تشويه للحاضر ومصادرة للمستقبل .
إن للماضي علينا حق إحترام ماوقع فيه أو إستنكاره ،لكن إستحضاره لاستخراج من ثم دروسه وعبره ، يتطلب جعله تاريخاً معرفياً ،عندها يصبح تاريخنا أمامنا باعتباره ملهماً وموضع جذب ، لا معوّقاً أومانعاً من التقدّم .
استلهام التاريخ وتوظيفه في السياسة ، بحاجة إلى نخب سياسية بدرجة أساس ، أما المؤشرات التي تدلّ على وجود نخب من هذا النوع فهي التالية :
1: حصر المنافسة السياسية تحت سقف المصالح الوطنية العليا.
2: إتباع قواعد سلوكية متينة تجعل من الفساد قضية وعدم الكفاءة مشكلة و التبعية جريمة .
3: إرساء مجموعة من القيم يأتي في مقدمها الإعتراف بالخطأ وثقافة الإستقالة .
4: بناء النواة الوطنية على قاعدة فكرية تأخذ في الإعتبار خصوصيات المجتمع المعني ومسارات تطوره .
5:العمل وفق مقولة (فكر يعمل وعمل يفكّر) أي الربط بين إبداعية القول وبراعة التنفيذ . لكن ولما كانت هذه الحيثيات شبه غائبة عن ممارسي السياسة في العراق ، لذا يأتي التخبّط المرافق للفشل في إدارة الدولة أو إيجاد البدائل ، فتطفو الأزمات بكل أشكالها لتجعل البناء معوجاً وآيلاً للانهيار ، فالعقل المنغمس في ماضيه ،لايعي مسارات التاريخ وبالتالي لايجيد التعامل مع الحاضر ناهيك برسم المستقبل ،لذا لن يكتفي العراقيون باجترار الماضي وحسب ، بل سيعودون نكوصاً إليه كلما لفظهم الحاضر وازداد المستقبل قتامة أمامهم .