المقدمة
لم اكتبها بعد
الفصل الأول / رياح عاتية
الزلزال النيساني
يعد يوم 9 نيسان 2003 يوم تاريخي في حياة العراقيين، وهو اليوم الذي سقط فيه نظام صدام، ذلك النظام الذي كان من اعتى الأنظمة التي حكمت العراق وأكثرها دموية.
ففيه دخلت القوات الأمريكية بغداد بحجة (الحرب على الإرهاب) و(البحث عن أسلحة الدمار الشامل)، وفي نهاية المطاف ازدياد خلايا الإرهاب من جماعة ((القاعدة)) ودورها التخريبي والإجرامي في العمليات التي استهدفت المواطن أينما وجد. ولا وجود لأسلحة دمار شامل، ثم أين كانت أمريكا عندما كان صدام يضطهد الشعب العراقي ويشن حروبه على دول الجوار وأيضاً ما فعله في الانتفاضة الشعبانية ضد الشيعة وبعمليات الأنفال ضد الأكراد وغير ذلك من الجرائم التي فعلها النظام بحق الشعب العراقي.
وهذا اليوم أيضاً يعد اسوداً عند العراقيين ـ لا لكون قد عمت فيه الفوضى والهرج والمرج، وظهرت جماعة تسمى (الحواسم) وقد قام هؤلاء الحواسم بسرقة المصارف والدوائر والمؤسسات الحكومية ثم قاموا بحرقها، حتى صارت بغداد والمدن الأخرى عبارة عن أنقاض، وان السنة النار قد وصلت عنان السماء. وقد فتح العراقيون عيونهم فلم يجدوا في الشوارع أي منتسب إلى أجهزة صدام من الذين كانوا يجوبون الشوارع جيئة وذهابا، حيث اختفت كل المظاهر، ولا سيما من الأمن والجيش والجيش الشعبي.
لقد ظن العراقيون إن حياتهم سوف تنقلب رأساً على عقب وسوف يزول عنهم الحيف والضيم، وقد تنفسوا الصعداء، ولم يعلموا ما كانت تخبؤه لهم الأيام، وان الرياح تجري بما لا تشتهي السفن، كما يقال. وعلى كل حال، إن الأمور رجعت من سيئاً إلى أسوء، فقد عانى العراقيون معاناة أخرى إضافة إلى المعاناة التي عانوها في السابق، ويأتي على رأس هذه المعاناة معاناة الكهرباء فضلاً عن غيرها من المعاناة الأخرى، فالتيار الكهربائي لم يستقر ولم يصل إلى مستوى أفضل من ذي قبل، وقد ظهرت ظاهرة جديدة تضاف إلى معاناة العراقيين، إلا وهي ظاهرة المولدات التي غطت كل مدن العراق وصار بيع الامبيرات للمواطنين بأسعار متفاوتة وبحسب المناطق والمدن.
إن التاسع من نيسان إذا استطاع أن يغير من الخارطة السياسية العراقية، فانه لم يستطع أن يغير من الواقع المزري الذي مر به العراق، فكثرة الأحزاب والتقاتل على السلطة والفساد الإداري والمالي وإشاعة الطائفية وسوى ذلك كله قد عقّد الوضع العراقي وزاد من معاناة المواطن، فزاد تدفق البطالة وزادت نسبة الفقراء في البلاد بنسب كبيرة، إضافة إلى عدد الأرامل والأيتام والمعاقين من جراء العمليات العسكرية والإرهابية والحرب الطائفية التي زادت الطين بلة، فقد أشارت التقارير إن نسبة الأرامل في العراق قد تجاوز الـ (4) ملايين امرأة وان نسبة المعاقين هي مليون ونصف المليون معاق.
وتشير التقارير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية قد خسرت في حربها على العراق أكثر من ثلاثة تريلون دولار.
ويؤكد معظم المحللين السياسيين على أن أمريكا باجتياحها العراق قد ارتكبت خطأ فادحاً، ووضعت نفسها في مأزق كبير، عجزت في كيفية التخلص منه، ولم تكن قد حسبت له حساباً، حيث أن فكرة: إن العراقيين سوف يستقبلون الجنود الأمريكان بالورود كانت فكرة خاطئة والدليل أنها قد فقدت من جنودها ما يربو على أربعة آلاف جندي.
السؤال الذي يتبادر للذهن: لماذا فعلت هذا الولايات المتحدة؟ هل فعلته لسواد عيون العراقيين؟ أم أن لها أهداف سياسية وإستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، والجواب المنطقي والأقرب إلى العقل، هو الأخير، فالولايات المتحدة لها مطامع كبيرة في أراضينا وثرواتنا، وسياسة خاصة تريد أن تفرضها علينا، شئنا ذلك أم أبينا.
سقوط الصنم
استخدم العراقيون هذا المصطلح (سقوط الصنم) لأول مرة، بعد أن دخلت القوات الأمريكية بغداد ووصل بعض هذه القوات إلى (ساحة الفردوس) وسط بغداد، ويوجد في وسط هذه الساحة اكبر تمثال لصدام حسين، وفور وصول هذه القوات إلى الساحة قاموا بإسقاط هذه التمثال وإزاحته من الساحة، بحضور حشد كبير من العراقيين، وراحوا يجرونه ويضربونه بالأحذية وسط أهازيج وفرح غامر مبتهجين بهذا اليوم، إذ كان صدام بالنسبة لهم اكبر قوة رادعة ولا يمكن إزالتها والإطاحة بها بأي شكل من الإشكال.
وحينما سقط تمثال صدام من ساحة الفردوس ما كانوا يصدقون ما يرونه بأم أعينهم، فهو بالنسبة لهم كالحلم.
البعض من المحللين السياسيين كان يرفض هذه التسمية (سقوط الصنم) ويعبر عنها بـ (سقوط التمثال)، إذ يعتبر مصطلح (سقوط الصنم) له مدلول ديني، باعتبار أن صدام كان بمثابة إله كانت تعبده فئة معينة، وتطيعه وهو ولي نعمتها، وبسقوطه قد انتهى إله معبود من قبل تلك الفئة، لذلك فهم يرفضون هذه المصطلح أي مصطلح (الصنم) ويعبرون عنه (التمثال). أما الجهة الأخرى فهي تصر على مصطلح (الصنم) للاعتبارات نفسها.
وظل مصطلح (الصنم) أو (التمثال) متداولاً من خلال التحليلات السياسية والمقالات التي تنشر في الصحف والمواقع الالكترونية فترة طويلة، وبحسب ميول وأهواء المحللين والكتاب وما تمليه عليهم قرائحهم. لكن بعد فترة وجيزة قل هذا المصطلح تداولاً، سواء من المحللين والكتاب أو من قبل الناس عامة، والأسباب أن لا جدوى ولا فائدة من استخدام وتكرار هذا المصطلح حيث انه لم يغير الواقع ولا يؤثر فيه، وهو كاد أن يثير الخلافات ويوتر الأمور، بل هو كذلك، هذه من ناحية. أما من الناحية الأخرى فان الذين جلسوا على أريكة الحكم قد زادوا الطين بلة، وبدل أن يعطوا كل ذي حق حقه من العراقيين، ويقوموا بالبناء والاعمار والقضاء على البطالة وإصلاح منظومة الكهرباء، قاموا بزرع الطائفية وسلبوا أموال الشعب لصالح أحزابهم ومصالحهم الشخصية. حتى أن كثيراً من العراقيين راح يترحم على أيام زمان. حتى الحصة التي تعيش من خلالها آلاف العراقيين أصبحت منقوصة ولا تصل إلى المواطن متكاملة وبالوقت المحدد.
فقد قدم فلاح السوداني (وزير التجارة) استقالته بعد أن ثبت تورطه في الفساد الإداري والمالي وسرقة وإهدار مليارات الدولارات، واستيراد مواد غذائية غير صالحة للاستهلاك البشري.
عمليات السلب والنهب
ثم جرت بعد ذلك عمليات السلب والنهب وسرقة المصارف والدوائر الحكومية وحرقها. وقد سمي هؤلاء السراق بالحواسم وهذا المصطلح يستخدم لأول مرة. ولا أريد أن أقول إن جميع العراقيون قد قاموا بهذه العمليات، بل أن الشرفاء من العراقيين أبوا ذلك ولم يشاركوا فيما قام به السراق من سرقة ممتلكات الشعب. يصف كثير من المحللين السياسيين أن رأس النظام، وقبل سقوطه قام بتبييض السجون وإخراج جميع المحكومين من قتلة وسراق ومجرمين، وبعد سقوطه قام معظم هؤلاء بهذه العمليات المنظمة. وهذا صحيح إلى حد ما، لكن غير هؤلاء قد قام أيضاً بنفس العمل والمشاركة الفاعلة. وتعتبر هذه الظاهرة جديدة على المجتمع العراقي، ولها تأثيرها السلبي على العراقيين، بل أن نتائجها قد بانت فيما بعد واعتبرت أن هذه مثلبة بل عاراً وذنب لا يغتفر، لأن الذين سرقوا صار يشار إليهم بالبنان بأنهم (محوسمين).
إن أي إنسان عراقي، فضلاً عن غيره وهو يرى منظر الشباب والأطفال والشيوخ والنساء وهم يقومون بكسر المصارف والدوائر الحكومية ويحملون على رؤوسهم وبين أيديهم المسروقات بمختلف إشكالها وإحجامها وألوانها، فان هذا الرائي سوف يتألم ويتقطع حسرات من هول ما يشاهد بأم عينه من منظر كريه لا ينسجم والذوق العام، بل والغيرة العراقية المعهودة كذلك، حيث كان منظراً مخجلاً، لان العراقيين يعتبرون أسرة كبيرة واحدة، وان العراق هو بيتهم الذي يؤويهم، فهل من العقل والمنطق أن يسرق الإنسان بيته أو يحرقه أو يسلبه أو يدمره؟!. لكن هذا ما حصل وهذا هو الواقع المؤلم.
إن عمليات السلب والنهب قد كبدت الدولة خسائر كبيرة بالأموال والممتلكات وهي بالتالي خسارة للشعب العراقي، لان الممتلكات هذه هي من حق الشعب وان فقدانها يؤثر على الشعب نفسه لا تتأثر به الحكومة ـ أي حكومة كانت ـ وقد دفع الفرد العراقي ثمن ذلك.
لقد تعرض جميع دوائر ومؤسسات الدولة للسلب والنهب والحرق، إلا الدوائر التي قد اتخذتها القوات الأمريكية مقرات لها، ومنها بناية وزارة النفط في وسط بغداد. أما بقية المؤسسات فقد سرقت كل ممتلكاتها تماماً وحرق معظمها بما فيها المستشفيات، إلا المستشفيات التي حمتها الأهالي. فكانت كل منطقة ومدينة بحماية سكانها، ولولا ذلك لما بقي مستشفى أو دائرة حكومية لم تتعرض للسلب والنهب والحرق. ثم أعيدت بعض الممتلكات إلى الجوامع، وما لبثت هي الأخرى أن اختفت.
حل الجيش العراقي
كان الجيش العراقي من أقوى الجيوش في المنطقة ويحسب له ألف حساب، بشهادة السياسيين والمحللين، وقد صارت له خبرة وممارسة فاعلة من خلال الحرب التي خاضها مع إيران والتي دامت ثمان سنوات.
وقد كانت تخافه المنطقة برمتها، فهو مسلح بسلاح قوي ومدرب بأحسن تدريب، وان خوف المنطقة منه إن صدام كان يهدد به دول الجوار، وهذا الجيش لا يمكن أن يخالف أوامر القيادة إذا ما صدرت له الأوامر.
لكن هذا الجيش العظيم قد أهين وخضع إلى الذل عندما أمرته القيادة بدخول الكويت في آب سنة 1991. وقد أخرجته القوات الأمريكية وحلفاؤها عنوة، وقد انكسر ولاذ بالفرار لان قوته كانت غير متكافئة قياساً إلى قوات الحلفاء المدعومة بالأسلحة الحديثة وبالغطاء الجوي الكبير.
وعلى كل حال، فقد أمر برايمر الحاكم المدني المنصّب من قبل الولايات المتحدة، أمر بحل الجيش العراقي، وهذه الخطوة اعتبرت فيما بعد غلطة فادحة دفع الشعب العراقي ثمنها، فلو بقي الجيش العراقي بقوته وأسلحته لما مر العراق بالظروف الأمنية المتدهورة وتكالب عليه قوة الإرهاب. بعض المحللين السياسيين اعتبر حل الجيش كان باتفاق مع إيران، وبتعبير آخر انه لمراضاة إيران وكسب ودها، حيث أرادت أمريكا أن تقول لإيران أن الجيش الذي قاتلك ودنس أراضيك هاهو قد حل وانتهى أمره، والبعض الآخر يقول: إن أمريكا قد غلطت غلطة شنيعة ولم تستطع أن تصلح غلطتها.
الجيش العراقي لو كان قد بقي بفرقه وألويته وأفواجه لأستطاع أن يحمي الحدود من تسلل الأجانب، من كل حدب وصوب، إلى داخل العراق، لاسيما من دول الجوار من المخابرات والاستخبارات الدولية، وكذلك جماعة القاعدة حيث وجدت العراق أرضاً خصبة لتحقيق أهدافها وطموحاتها وأحلامها المريضة القائمة على القتل وإراقة الدماء تحت إستراتيجيات وإيديولوجيات، بحجة الدفاع عن الإسلام وإقامة دولة إسلامية دستورها كتاب الله ورفض كل ما يخالف القرآن بحسب تعبيرها، ومن الجدير بالذكر أن نظرية ((القاعدة)) قائمة على العنف واستخدام القوة تحت مسمى الجهاد، وان أحداث الحادي عشر من أيلول الرهيب كان قد أعطى الشرعية للولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها اجتياح العراق بحجة حرب الإرهاب والبحث عن أسلحة الدمار الشامل، هذه الأكذوبة الكبيرة التي دفع العراق والشعب العراقي فاتورتها من دمه واقتصاده ومستقبله.
حل وزارة الثقافة والإعلام
والحماقة الثانية التي ارتكبتها الولايات المتحدة بعد حل الجيش، هو حل وزارة الثقافة والإعلام، فبين ليلة وضحاها لم تبق وسيلة إعلام عراقية تذيع نبأ سقوط النظام. وكانت الوزارة تضم بحدود ثلاثة آلاف موظف وإعلامي، وبذلك فقد انضموا إلى لائحة البطالة التي أصبحت متفشية في العراق بعد 2003، وهكذا قد حرمت أسرهم من ابسط مقومات العيش الكريم، برغم كون الرواتب التي كان يتقاضونها شحيحة، لاتسمن ولا تغني من جوع. واللافت للنظر إن الحكومة التي تشكلت بعد انهيار النظام السابق لم تحاول إعادة هؤلاء إلى وظائفهم كأن تحولهم إلى دوائر أخرى حالهم حال بعض من أعيد تحت مسميات المفصولين السياسيين، بعد أن جلب معظم هؤلاء تأييدات من الأحزاب التي تشكلت بعد الاحتلال، حيث بلغ عدد هذه الأحزاب أكثر من تسعمائة حزب سياسي في بلد لا يتجاوز عدده (34) مليون نسمة، وهي سابقة خطيرة لم يشهدها العراق من قبل، وإن دلت على شيء فإنما تدل على الفوضى العارمة وعدم إصدار قانون الأحزاب، الذي يحدد مسارها وأهدافها والجهة الممولة لها.
إن حرمان هذا العدد من الموظفين الذي لا يستهان به من وظائفهم يعد استهانة بهم وبمقدراتهم هذا أولاً، وثانياً يعتبر تعدي على حقوقهم، وبالتالي حرمان أسرهم من المرتبات التي يتقاضونها، ولو افترضنا إن لهؤلاء ذنباً لأنهم كانوا يعملون في مؤسسة كانت لها صلة وثيقة بالنظام من حيث ترويحها لأفكاره وأطروحاته، فما ذنب أسرهم؟!. هذه القضية قد عقدت من الوضع العام لشأن العراقي، وكان يفترض أن تحسم وتحل بشكل سليم وغير خاضع للبس، بحيث يوزعون على الوزارات أو يحالون على التقاعد من كان يريد ذلك، لكن المسألة خضعت إلى أمور قد لا تخفى على المتتبع للشأن العراقي.
وزارة الثقافة لم تكن مؤسسة عسكرية أو أمنية، بل كان مؤسسة مدنية فيها كثير من الوثائق أو الكتب المهمة، ويمكن أن تفيد مستقبلاً، وكان الأحرى بالأمريكان حمايتها، والحيلولة دون تعرضها للحرق، كما حرقت ونهبت بقية المؤسسات، فلم تتعرض للحرق والسلب والنهب مثلما حموا وزارة النفط وغيرها، حيث اتخذوها قاعدة لهم.
برايمر رئيس الجمهورية
وبأمر من الاحتلال تم تعيين ((برايمر)) الحاكم المدني للعراق، وبمجيء هذا الرجل انقلبت كثير من الموازين السياسية رأساً على عقب، وباعتراف معظم السياسيين العراقيين أن برايمر أول من نفخ نار الطائفية وراح يغذيها ويحرض عليها، وتحت شعار مبدأ قديم معادي (فرق تسد)، حيث ظهر مصطلح (شيعة وسنة) وراحت كل طائفة تدافع عن طائفتها وتدعي بأنها أكثر مظلومية، وإنها نالت الاضطهاد والتهميش وهضم الحقوق والسجن والتشرد في كافة الدول. وقد وجدت الطائفية من يروج لها ونفخ رماد نارها من كلا الجانبين، من السياسيين من خلال وسائل الإعلام المختلفة ومن رجال الدين وأئمة الجوامع من خلال المنابر. لكن أبناء الشعب العراقي قد اكتشفوا سر اللعبة والهدف من وراء ذلك، ولم تنطلِ عليه الشعارات الفارغة، لذلك رفعوا شعاراً موحداً (إخوان سنة والشيعة هذا الوطن منبيعيه). لكن مع ذلك فقد لعبت النعرة الطائفية دورها القذر، فراحت أثر ذلك ضحايا من الجانبين ودفع الجميع فاتورة تلك النعرة من دمهم الزكي.
وعلى أية حال، فقد حكم برايمر فترة بلغت بحدود السنتين، وكانت أسوء فترة عاشها العراق، وكان فيها هذا الرجل كالملك المتوّج على العرش، ومطاع من جميع السياسيين، حتى أن معظم السياسيين كانوا يتقربون إليه ويقدمون له الهدايا في سبيل كسب وده ونيل رضاه، حتى أن بعضهم قد بالغ في التقرب إليه فكان يقدم له أرقى أنواع الأكلات العراقية، ومنها أكلة عراقية قديمة كانت تقدم فقط لشيوخ العشائر، إلا وهي أكلة (المفطح) وهي أن يشوى خروفاً بأكمله ويوضع على التمن العنبر العراقي في قصعة كبيرة ذات عراوي لا يستطيع حملها إلى ستة أشخاص، كما اعترف برايمر نفسه في مذكراته التي كتبها في فترة حكمه للعراق.
واللافت للنظر، انه بعد إنهاء فترة عمله بالعراق، وعودته إلى أمريكا أصبح كل السياسيين ينتقده ويذمون فترة حكمه، ويصرحون من خلال وسائل الإعلام بأنه قد سرق أموال العراق، وانه هو الذي أثار النعرات الطائفية وأوصل البلد إلى ما وصل إليه، حتى الذين كانوا يجالسونه ويتقربون إليه، وقد أطلق بعض المحللين، على هؤلاء بأنهم من ينطبق عليهم النفاق السياسي.
إن فترة برايمر ألقت بظلالها على العراقيين ما دعتهم بأن يتذكرون هذه الفترة بألم وحسرة، حيث وضعت كثير من العقبات أمامهم، وأصبحت الحلول ـ فيما بعد ـ صعبة للغاية.
فتح الحدود
وبعد حل الجيش العراقي واختفاء الأجهزة الأمنية فقد ساعد ذلك على فتح الحدود على مصراعيها، ما جعل الساحة العراقية مرتعاً لدخول وخروج المتسللين، فلا من رقيب ولا من حسيب. وقد ساعد ذلك على دخول كثير من مخابرات دول الجوار وبعض الدول الأخرى وراحت تعمل بشكل علني وقريباً من مرأى ومسمع الساسة العراقيين، واستفادت (القاعدة) من ذلك وقد أصبح العراق مركزها ومعقل عملياتها، وبدأ مشوار قتل الأبرياء من العراقيين على يد (القاعدة) من خلال العمليات المنظمة وقد بدأها بعدة محاول أو جماعات، مثل جماعة الاغتيالات، وواجبها قتل السياسيين والصحفيين والمترجمين والأساتذة والدكاترة، وجماعة التفخيخ بالسيارات والعبوات، وجماعة الخطف ومن ثم الذبح بالسكاكين والسيوف، تحت مسميات: جهاد، تحرير، ومقاومة!!، وقد أصبح العراق مرتعاً للمتسللين والطامعين، فصاروا يخرجون متى شاءوا ويدخلون كيفما شاءوا، ومتى شاءوا.
فلو لا فتح الحدود على مصراعيها، لما استطاع المتسللون من دخول العراق، وحدث ما حدث من فوضى واضطراب، وكذلك دخول أسلحة ومخدرات ومواد محرمة، كانت آثارها واضحة على البلاد.
كان بإمكان الأمريكان أن يحموا الحدود، فلم يدخل أي متسلل عبرها إلى العراق، لكن الأمر كان مقصوداً ومحسوب له ألف حساب، وهو ضمن الإستراتيجية الأمريكية المخطط لها مسبقاً، وربما هذه الإستراتجية من أولويات الديمقراطية التي يتبناها البيت الأبيض، وهي طبخة سياسية جرت في أروقة البنتاغون.
وكان فتح الحدود فرصة ذهبية لكل من له أطماع في العراق، ولاسيما دول الجوار مثل الكويت وتركيا وسوريا وإيران والسعودية، حيث دخلت مخابرات هذه الدول، بوسائل متعددة، وساندتها بعض الشخصيات السياسية العراقية وسهلت لها عملها، فحدثت بعد ذلك تصفية حسابات، من خلال قتل العلماء والأطباء والأساتذة والصحفيين والرموز الوطنية والدينية والطيارين الذين شاركوا في ضرب المدن الإيرانية خلال الحرب، وسيناريو القتل ما كان خافياً على العراقيين، فلو كانت الحدود محمية وعصية على دخول الأجانب، الذين جاؤوا من كل حدب وصوب، ما صار الذي صار.
الوقفان الشيعي والسني
ومما يؤكد على التخندق الطائي، وان هناك من وجد أرضية لزرع ما يريد من تشتيت الشعب الواحد، هو استحداث وقفين: الوقف الشيعي والوقف السني، وفي زمن النظام السابق كانت وزارة واحدة هي (وزارة الأوقاف والشؤون الدينية). فهذه تعتبر أول بادرة لتفرقة الشعب العراقي، فالشيعي يتعصب لشيعيته والسني يتعصب لسنيته، وقد شفي غليله الذي أراد ذلك وتحقق مراده، حيث أصبحت هناك فجوة يستطيع كل منهما ـ اعني المذهبين ـ أن يتكلم ويقول بحق (خصمه) ما يشاء. وقد لاحظنا ذلك من خلال تصريحات بعضهم من على الفضائيات ولوسائل الإعلام الأخرى، الأمر الذي مهد إلى تخندق طائفي واضح، ووصل حتى صفوف المثقفين ـ وللأسف الشديد ـ ما مهد إلى حرب طائفية دخلت حيز التنفيذ بعد تفجير الضريحين في سامراء، وسوف نتكلم عن ذلك في فصل آخر، لأهمية هذا الموضوع.
كلنا يعلم أن الخلافات بين السنة والشيعة قديمة جداً وتعود إلى العهد النبوي، وتحديداً إلى ما بعد وفاة الرسول (ص)، فمنذ ذلك اليوم انقسم معسكر الصحابة إلى معسكرين، معسكر أراد أبي بكر الصديق أن يكون خليفة من بعد النبي، والمعسكر الثاني بني هاشم وبعض الصحابة الذين انحازوا إلى جانبهم وأرادوا تنصيب الإمام علي للخلافة. إذن كان الأمر سياسي وهو قضية خلافة، وهذه القضية قد أشبعت بحثاً وتنقيباً من كلا الطرفين وكل منهما له حجته ووجهة نظره، ولا تزال إلى يومنا هذا ولم يصل الطرفين إلى حل وسط. وليس من العقل والمنطق أن توفر ارض خصبة لزرع نبتة الطائفية أو ما يساعد على إنباتها، ونحن في ظرف حرج ووضع مزري لا يحسد عليه. فكان الأولى والأجدر أن لا يكون هناك وقفان بل وقفاً واحداً تراعى في الطائفتان، حتى لانفتح بابا يمكن أن تتسلل منه الطائفية التي تمزق وحدة الشعب وتضعفه، وهذا ما حدث وللأسف الشديد، والسبب، كما اعتقد كان مقصوداً وتقف وراءه جهات كان هدفها الأسمى زرع التفرقة وإيقاظ الفتنة وإضعاف الشعب، وهو ما حصل فعلاً. كان من المفترض على أصحاب العقول وذوي البصيرة أن يردموا الهوة وتقارب وجهات النظر، لا أن نفتح باباً لتدخل منه رياح الفتنة فتفرق المجتمع الواحد. وما هذين الوقفين إلا بابا لدخول تلك الرياح.
اجتثاث البعث
وقد سن هذا القانون (برايمر) وأمر احمد الجلبي رئيس حزب المؤتمر أن يترأس هذا القانون وينفذ بنوده، وهذا القانون يبدو للوهلة الأولى صحيحاً ويخدم العراق الجديد كون البعثيين فعلوا ما فعلوا بالعراقيين أبان حكمهم الذي دام بحدود خمسة وثلاثون عاماً، إلا أن هذا القانون قد سيس وصار وبالاً على الشعب حيث استغلته جماعة وراحت تقتل وتبعد وتهمش كثير من الشخصيات السياسية والوطنية متذرعة بان هذا الشخصيات هي بعثية صدامية، لاسيما وان الدستور العراقي قد أشار في بعض فقراته إلى عدم إشراك البعثيين في العملية السياسية.
إن حزب البعث قد انتهى تنظيمياً لكنه كفكر لازال باقياً في صفوف كثير من السياسيين والحزبيين الدينين، فالذي يدعو إلى التقاتل وإثارة النعرات الطائفية أليس هذا من يحمل فكر البعث. إن كثير من الذين تصدوا إلى العملية السياسية كانت أفكارهم ورؤاهم منسجمة تماماً مع أفكار البعث، سواء من ساسة الشيعة أو من ساسة السنة، بل أن بعضهم من كان يحرض، ومن خلال وسائل الإعلام المختلفة، على قتل العراقيين من الذين يخالفونهم في المذهب، الأمر الذي دعا إلى نشوب حرب طائفية غير معلنة رسمياً، لكنها موجودة واقعياً.
إذا كان قرار الاجتثاث صائباً في رأي بعض السياسيين، لان البعث كان له دوراً في تخريب البلاد من صنع الحروب وتخلف الشعب وجعل العراق سجناً كبيراً قد انعدمت فيه الحرية وصار الناس يخشى بعضهم بعضاً، فأن هذا القرار قد أسيء فهمه واستغلته بعض الجهات، وراحت تروّج من خلاله بضاعتها الكاسدة. فبدل أن يكون اجتثاث البعث للقضاء على فكر البعث ونهجه الشوفيني، صار عالة على المجتمع العراقي، وللأسف ظهرت أفكار مضادة لا تقل خطورتها عن خطر البعث.
إن البعث بعد التاسع من نيسان قد انتهى تنظيماً، لكنه فكراً وممارسة ظل في فكر الدينيين وسواهم، وبان ذلك من خلال الممارسات والضغوطات على الليبراليين والعلمانيين وعلى الذين يخالفونهم في وجهات النظر. والدليل على فشل قانون اجتثاث البعث وانه كان غير محله، هو أن الجهات المسؤولة، وبعد اعتراضات من جهات كثيرة، بدل هذا العنوان وصار (هيئة المساءلة والعدالة) بدل (هيئة اجتثاث البعث).
انتشار المخدرات
ومن القضايا التي جرت بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، هو بروز ظاهرة تعاطي المخدرات بكل صنوفها، وهي ظاهرة جديدة على المجتمع العراقي ولم تكن موجودة قبل 2003، كون النظام السابق كان لم يسمح بدخول هذه المخدرات البلاد، فكل من وجده يتعاطى أو يتاجر بها يكون مصيره الإعدام وبلا رحمة، لذلك لم تكن هذه الظاهرة موجودة في العراق وليس لها في قاموس العراقيين معنى. والجدير بالذكر أن جميع هذه السموم دخلت العراق من إيران حيث يتاجر بها سماسرة عراقيون وإيرانيون، لاسيما وإنها قد لاقت قبولاً في صفوف بعض الشباب العاطلين عن العمل، إضافة إلى وجود تهاون من الجهات الحكومية والأمنية والقانونية، وأكثر المدن التي انتشرت بها هي المدن الجنوبية ولاسيما البصرة وذي قار وميسان والنجف، وقد عثرت الأجهزة الأمنية أن بعض الجهات قد قامت بزرع حشيشة الأفيون في احد مزارع النجف فقامت بإتلافها. ويشار إلى أن كبار التجار الذين يتاجر بالمخدرات كانت لهم ارتباطات بساسة عراقيين مدعومين من إيران وهم داخل العملية السياسية، والدليل على ذلك إنهم قاموا بمنع الخمور المستوردة وغلق كثير من المحال التي تبيع الخمر لكي تزدهر تجارة المخدرات، حيث تتجه الشباب إلى المخدرات بعد أن تفقد الخمور، وهذه اللعبة قد انكشفت حتى انفضحت أمام الملأ.
أن وجود ظاهرة انتشار المخدرات في العراق لها عواقب وخيمة على مستقبل العراق، فإذا ما سيطرت الحكومة عليها وقطعت جذورها، فسوف تستفحل وتكون على مستوى البلاد، ولاسيما في صفوف الشباب، لان الشباب اقرب إلى قبول هذه الظاهرة، وذلك من باب اللهو تارة ومن باب التجارة واكتشاف ما هو جديد تارة أخرى، وبالتالي تكون هذه الظاهرة قد دخلت خير القبول من قبل هذه الفئة العمرية، ويصير تفاديها والقضاء عليها أمراً صعباً.
وهذه الظاهرة من مساوئ الاحتلال، بل هي من أشدها على الوطن المحتل، وتعتبر حالة طبيعية بالنسبة للشعوب المحتلة، إذ أن الشعوب عندما تتعرض للاحتلال فإنها تخضع لعادات وتقاليد المحتلين، بل أن المحتلين يحاولون تمييع الشباب ومحاولة إغراءهم وتسهيل أمور ما يريدون ترويجه، من باب الحرية. وهذا ما حدث عندنا بالعراق بعد احتلاله من قبل أمريكا وحلفاؤها.
تهريب الآثار
تختزن ارض العراق آثاراً لأبرز حضارات العالم القديم ولاسيما السومرية والبابلية والأشورية والأكدية. وفي عمليات السلب والنهب التي أعقبت أحداث 2003 تعرضت هذا الآثار إلى السرقة من قبل عصابات منظمة لها خبرة بأهمية هذه الآثار المهمة والتي لا تقدر بثمن، وقد بيعت وهربت إلى دول عالمية، ولم تستطع حكومة العمائم الحفاظ عليها أو حمايتها على اقل تقدير، وبتعبير آخر فان هذا الحكومة قد كان فيها من له يد في تهريبها، وآخر من كان متفرجاً ولم يحرك ساكناً وهو يستطيع أن يفعل أي شيء.
لقد فقدت المتاحف العراقية نحو خمسة عشر ألف قطعة أثرية، وتشمل الآثار المسروقة مسكوكات ومخطوطات وحلياً وفخاريات وتماثيل وألواحا مكتوبة بالخط المسماري يعود بعضها للعصور السومرية والأشورية والبابلية والإسلامية. وبعد مرور ستة سنوات على نهبها قيل إن الحكومة استطاعت إعادة ستة آلاف منها فحسب وأما البقية فأصبحت في خبر كان.
إن الآثار هذه تمثل تاريخ العراق وحضارته، ولا شك فان فقدانها من المتاحف العراقية تعتبر خسارة كبيرة، وفي نفس الوقت أدانه واضحة لحكومة العمائم، وان التاريخ سوف يحاكم ويحاسب هذه الحكومة، لان التاريخ لم يرحم احد، حيث أن هؤلاء لم يتعضوا بصدام الذي حكم العراق أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، وكانت نهايته أن اخرج من جحر جرذ وقتل شر قتله.
ولا شك فان جميع الحكام والساسة الذين قتلوا العراقيين وتلاعبوا في قوتهم وسرقوا أموالهم، سوف يحاسبهم العراقيون على ذلك بحسب المقولة التي تقوم: كما تدين تدان.
والذي يحز في نفس العراقيين إن المسؤولين في الحكومة لم يطالبوا مطالبة جادة باستعادة هذه الآثار التي ذهبت إلى معظم الدول بما فيها الولايات المتحدة، حيث بيعت من قبل سماسرة الآثار بأسعار تافهة، بينما في هذه الآثار من لا يقدر بثمن، إذ أنها تمثل تاريخ وحضارة العراق، وان استعادتها إلى المتحف العراقي يعتبر واجب وطني، ومسؤولية تقع على عاتق كل العراقيين، لا على عاتق السياسي والمسؤول فحسب، كون هذه الآثار هي آثار الشعب.
تفشي البطالة
ظاهرة أخرى بدت تستفحل وتنخر جسد المجتمع العراقي وتزداد يوماً بعد آخر، تلك هي ظاهرة تفشي البطالة وموجة الشباب العاطلين عن العمل، ولم تستطع الحكومة وضع الحلول اللازمة لها. وتشير كثير من التقارير إلى ان عدد العاطلين يربو على أكثر من سبعة ملايين، الأمر الذي زاد من نسبة الفقر في العراق.
إن انتشار البطالة في كل بقاع العالم يخلق مشاكل وقضايا أخرى، ربما تصل إلى الجرائم، لان العاطلين عن العمل يحصل لديهم فراغ قاتل، مع نقص الحاجة، فتسول لهم أنفسهم إلى السرقة والقتل وللحصول على الأموال عن أي طريق كان، وهذا ما صرح به كثير من علماء النفس والاجتماع، والذي يتحقق في كثير من الجرائم يرى أن أسبابها الأموال وكيفية الحصول عليها./ وقد استفحلت عندنا ظاهرة البطالة بعد 2003 بشكل ملفت للنظر، بل أن الجهات الحكومية قد أسهمت في تدفق هذه الظاهرة، فالذي لا يمتلك دفع رشوى لا يستطيع أن يتعين في أي مؤسسة حكومية، وقد قابلت العديد من الذين تعينوا في صفوف الشرطة، والحرس الوطني، وقالوا بأنهم لم يحصلوا على التعيين إلا بعد دفع مبالغ مالية، وصل بعضها إلى عشرة أوراق، أي بحدود مليون ومائتين ألف دينار عراقي، وإذا كان هذا من باب الفساد الإداري والمالي، فانه قد أسهم في فساد المجتمع وحثه على السرقة والقتل، كون الذي لا يمتلك كذا مبلغ يضطر إلى الحصول عليه من أي طريق كان.
الإرهاب قد استغل بعض العاطلين وراح يغريهم بالأموال، بغية تجنيدهم بصفوفه والقيام بعمليات إجرامية وإرهابية، فلو وجد هؤلاء العاطلين ما يشغلهم ويلهيهم ويسد رمقهم، لما استطاع الإرهاب والجهات الممولة له استغلال هؤلاء. فهذه كانت سيئة من سيئات البطالة، وقد أوجدتها الحكومة وساعدت على تفشيها، ولم تضع الحلول اللازمة لها.
تزوير الوثائق والشهادات
كلنا نعلم إن التعليم في العراق إبان حكم صدام قد تضعضع أو قل تراجع بنسبة كبيرة جداً، وبتعبير آخر إن الشهادة الدراسية لم يكن لها اهتمام أو تقدير لان الذي يحمل شهادة البكالوريوس أو الماجستير لم يحصل على أي تعيين في دوائر الدولة، وإذا ما عين فان المرتب الذي يتقاضاه لا يسد رمقه ورمق أسرته، فهو لا يساوي مثقال ذرة قياساً إلى أقرانه من حملة تلك الشهادات في دول أخرى.
وبعد 2003 تفشت ظاهرة سوق الشهادات والوثائق المزورة بشكل ملفت للنظر. وقد برزت هذه الظاهرة بعد نهب وسلب دوائر الدولة العراقية جميعها، بما تحويه من وثائق ومستندات وأختام سجلات صادر ووارد، وشهادات لم تملأ بعد، وانتبه بعضهم إلى هذا الأمر ووجدوا فيه فرصة لم ولن تعود، فكان هناك أسواق رائجة لذلك مثل سوق (مريدي) في مدينة الصدر وهو سوق مشهور في التزوير حتى أبان الحكم السابق، ففور دخولك لهذا السوق يعرض عليك هؤلاء السماسرة بضاعتهم: شهادة جامعية ، شهادة إعدادية، جنسية عراقية، شهادة وفاة، شهادة ميلاد، بدل ضائع، وبسعر زهيد لا يكلفك شططاً. وبعد رواج هذا تمكن عشرات الآلاف من العراقيين الحصول على تعيين بشهادات مزورة تبؤوا من خلالها مناصب عليا حتى دخول البرلمان ومجالس المحافظات. وقد كشفت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في بعض تقاريرها عبر وسائل الإعلام عن وجود أكثر من (3165) وثيقة دراسية، ووجود (12) جامعة وكلية أهلية تمارس أعمالها قبل أن تحصل على موافقة وزارة التعليم العالي ومجلس الوزراء، مقابل ذلك إن عدداً من الأساتذة العراقيين المقيمين في دول أوربية قد جاءوا بشهادات من جامعات مفتوحة تمنح الشهادات مقابل مبالغ مالية دون جهد علمي أو تأهيل، في اختصاصات علمية دقيقة، والغريب في الأمر أن جامعات مشهوداً لها عالمياً كالجامعة المستنصرية وجامعة بغداد تتصدر الجامعات التي دخلها المزورون.
من خلال عملي بالصحافة التقيت العديد من حملة شهادة الماجستير والبكالوريوس، فوجدتهم أميين ثقافياً ومعرفياً ولا يفهمون حتى على نطاق اختصاصهم، ولولا التزامي لأخلاقية المهنة لذكرت بعض من هذه الأسماء. وهذا الأمر اعزوه إلى سببين رئيسيين: أولهما أن ذلك يعود إلى فشل التعليم في العراق نتيجة سياسة النظام السابق.
وثانيها: أن معظم هؤلاء قد زوروا شهاداتهم الدراسية وصدقوها من وزارتي التربية والتعليم. وهذا سوف يكون له عواقب وخيمة على مستقبل التعليم.
تلوث البيئة
يشار إلى أن العراق أصبح في المركز الأول من حيث التلوث البيئي، وبحسب الحكومة العراقية نفسها وعلى لسان وزيرة البيئة الدكتورة نرمين عثمان من خلال تصريحاتها لوسائل الإعلام. ومن هذه التلوثت الألغام وأنواع المواد المشعة التي ظهر تأثيرها على المواطن العراقي، وانتشار العديد من الأمراض ومنها السرطان الذي ظهر في مناطق عديدة من المدن العراقية ولاسيما مدينة البصرة جنوبي العراق، وفي مدينة الفلوجة في الرمادي حذرت مصادر طبية النساء من الإنجاب لان هناك كثير من حالات الولادات جاءت مشوهة بسبب التلوث البيئي الذي حصل في المنطقة من خلال قصف الطائرات الأمريكية لعدد من الصواريخ بحمم كثيفة من النيران. ومن خلال تصريحات الوزيرة أن هناك أمراض ظهرت أو ستظهر في العراق من أهمها كثرة حالات العقم والضعف الجنسي، أو ظهور أمراض تؤدي إلى ذلك، وتشوهات وغيرها، وجميعها أمراض تعد البيئة وتلوثها من أهم مسبباتها.
الولايات المتحدة الأمريكية عندما قصفت هيروشيما اليابانية يقال أن تلك المنطقة لا تزال محروقة وعليها تلك الآثار واضحة، وأنها لم ينبت فيها نبات ولم تورق شجرة. وان كثيراً من المدن العراقية قد تعرضت إلى شتى أنواع الأسلحة، ولربما أن آثار ذلك سوف تظهر بعد عدة سنوات وسوف تكون آثارها سلبية ووخيمة، وان العمائم تعلم ذلك إلا أنها لم تحرك ساكناً بقدر ما يهمها الكرسي والمناصب التي لم ترها حتى بالأحلام، ولولا أمريكا لم تصل إلى ذلك حتى لو جاءت معها أمة الثقلين، لذلك فان هذه العمائم مدانة لأمريكا وان أمريكا صاحبة الفضل عليها، لذلك فإنها تغض الطرف عن كل ما تفعله أمريكا من جرائم يندى لها الجبين، من قتل العراقيين وعمليات الاعتقال العشوائي الذي تعرضوا له من دون جناية أو ذنب.
نهاية 2009 وبداية 2010 أشارت كثير من التقارير إلى أن المناطق الجنوبية ظهرت فيها العديد من الإصابات بأمراض السرطان، والسبب الرئيسي في ذلك هو تلوث تلك المناطق بالأشعة، نتيجة الأسلحة التي استخدمتها القوات الأمريكية بحربها على العراق.
قتل الصحفيين
تشير كثير من التقارير إلى أن خلال الحرب العالمية الأولى وخلال الحرب العالمية الثانية لم يسقط نصف عدد ما قتل من الصحفيين العراقيين بعد أحداث 2003، فقد قتل أكثر من ثلاثمائة صحفي على يد قوات الاحتلال الأمريكي وعلى يد القاعدة والأحزاب الدينية الطائفية. يعرف كثير من المعنيين الصحافة بأنها مهنة المتاعب، وان الصحافة باعتبارها السلطة الرابعة، فان الصحفي، ولاسيما العراقي يبحث دائماً عما هو جديد ومثير للجدل ويهم المواطن العراقي، وربما يغيض السياسي أو الحزب الفلاني والكيان العلاني، وأحياناً يدخل الصحفي إلى المناطق المحذورة والساخنة لتصوير حدث وحصول على معلومة وتسجيل تقرير، وأثناء ذلك يتعرض أما للقتل أو للخطف أو للاغتيال، لكن الصحفي العراقي هل توقف عن ذلك حينما وجد أقرانه وزملاءه وقد تعرضوا للموت، كلا، بل لازال يسير بقوة وثبات وصلابة، الأمر الذي جعل من الصحفيين العراقيين يسقط الواحد تلو الآخر. فثلاثمائة صحفي يسقطون خلال هذه الفترة القصيرة ليس بالأمر السهل، وهو أيضاً خسارة كبيرة للشعب العراقي الصبور.
إن مسلسل قتل الصحفيين اخذ اهتمام كثير من المحللين السياسيين وذو الشأن، حيث أن الصحفي ليس له ناقة ولا جمل في الوضع السياسي الراهن، فهو ناقل للخبر ليس إلا، لكن هناك جهات كثيرة كانت تقف وراء ذلك، وهو ضمن السيناريو المخطط لتدمير العراق والقضاء على الكفاءات العلمية والثقافية والتدريسية والوطنية، هذه الجهات مرتبطة بدول عالمية وإقليمية، قد خططت لذلك ورسمت السيناريو بدقة وحذر، منذ اليوم الأول لسقوط النظام، وذلك للفراغ الأمني والسياسي الذي جرى في البلاد، حيث الأمر كله بيد الاحتلال، ويجري أيضاً بعلمه وتحت ناظريه ولم يحرك ساكناً.
البرلمان العراقي من جانبه، لم يقر قانون حماية الصحفيين، لأسباب سياسية، حيث عطل هذا القانون كما عطل غيره من القوانين المهمة, وإحالته إلى برلمان 2010، وللأسف الشديد، فان معظم البرلمانيين لا يفهمون الصحافة، وما هو عمل الصحفي وواجباته، حيث أن كثيراً من الصحفيين قد تعرضوا للضرب من قبل القوات الأمنية وهم يقومون بعملهم، كتغطية المؤتمرات واللقاءات والأحداث التي تتعلق بالإرهاب، من خلال الانفجارات وغير ذلك، فلم تمنع الجهات المسؤولة تلك الاعتداءات.
حرق ونهب الوثائق
دار الوثائق والكتب تأسست عام 1920، وتضم فيها آلاف الوثائق المهمة. وقد تعرضت هي الأخرى بعد الغزو والاحتلال إلى عمليات السطو والحرق. وتتعلق الوثائق بمراحل مختلفة من تاريخ العراق الحديث المعاصر، حيث تتضمن وثائق حكومية ورسمية ومخاطبات خاصة ومعاهدات تتعلق بحروب العراق وحكايات ملوكه ورؤساءه ومحتليه من انكليز وفرس وعثمانيين. ولا تعرف على وجه الدقة واليقين الجهات التي قامت بنهب هذه الوثائق، حيث لم يجر تحقيق جاد في الأمر، لكن جزءاً من هذا الأرشيف ظهر ممزقاً، وعثر على جزء آخر منه معروضاً للبيع على الأرصفة، كما وقع جزء منه على يد بعض المتنفذين من السياسيين الذين يتاجرون به أو يحارب بعضهم بعضاً بمعلوماته. ولقد استولت القوات الأمريكية بدورها على جزء من هذا التراث الوطني العراقي. ولم تفلح جهود دار الوثائق والكتب ـ فيما بعد ـ استعادت آلاف الكتب والمخطوطات والوثائق التي استولت عليها القوات الأمريكية وهي وثائق تتعلق بسنوات الفترة الملكية من آذار 1920 حتى 1958 وفترة عبد الكريم قاسم من تموز 1958 حتى شباط 1963 حيث بدأت حقبة الأخوين ابني عارف التي انتهت في 17 تموز 1968 ثم الحقبة البعثية الثانية التي انتهت في 9نيسان عام 2003. ويستعرض احد الخبراء تفاصيل النهب والسلب بان قال أن هناك أكثر من ثلاثة آلاف مخطوطة ووثيقة وكتاب نادر مازالت مفقودة منذ دخول القوات الأمريكية وان هذه القوات ترفض إعادة وثائق تؤرخ حقبة مهمة من تاريخ العراق قامت بجمعها في 48صندوقاً بدعوى الحفاظ عليها، إلا أنها في حقيقة الأمر رفضت إعادتها إلى الحيازة الحكومية. وان هناك ما يزيد على 3500 مخطوطة مفقودة. أن هذه الوثائق والمخطوطات هي ما يخص العراق ويتعلق بتاريخه وارثه، ويجب أن تعاد إليه بأي طريقة كانت.
العراق قد خسر هذه الوثائق المهمة، والتي لا يمكن أن يعوضها، لأنها تمثل حقبة مهمة من تاريخ العراق، والتي يجب أن تتطلع عليها الأجيال القادمة، لكي تعرف ما مر على العراق من إحداث صغيرة وكبيرة، سياسية واجتماعية وثقافية، تمثل حضارته وتقدمه وربما نكوصه وواقعه المرير، ولاسيما فترة حكم البعث.
بذرة الطائفية
للأسف الشديد، إن الطائفية بالعراق وجدت لها أرضاً خصبة. منذ اليوم الأول لسقوط النظام، والذي اوجد هذه الأرض هم ساسة العراق، إذ أن كل واحد منهم عندما يظهر على شاشة التلفاز، فانه يتحدث عن طائفته فحسب ويدافع عنها دفاع المستميت، ويصفها بأنها هي المظلومة والمهمشة وهي التي وقع عليها الظلم أكثر من سواها، ويصف الطائفة الأخرى بأنها ظالمة ومعتدية وتحاول إبعاد ندها أو خصمها، ويلمح من خلال حديثه وتصريحاته للفضائيات ووسائل الإعلام الأخرى، إلى قتال الطائفة الأخرى، هذه التصريحات النارية التي صرح بها كثير من السياسيين، كانت تلهب الشارع العراقي وكانت لها ردود أفعال مختلفة بين مكونات الشعب، الأمر الذي انعكس سلباً على الشعب، وصار كلا يدافع عن طائفته وضاعت الهوية العراقية، والانكى من ذلك أن هذه الخطابات تثار من على المنابر الدينية، مما قد توهم البعض على أن تلك التصريحات هي فتاوى شرعية.
إن الطائفية في العراق كانت موجودة، لكنها تحت الرماد، وبتعبير آخر إنها تكمن في خلد كل إنسان، لكن وجودها يعتمد على ثقافة ذلك الإنسان، وبتعبير أكثر دقة، إن النظام السابق أول من حاول زرعها وسقي بذرتها، لكنها ظلت غير مكبوتة، وتحت المسطح. لكن بعد سقوط نظام صدام جاء من ينفخ في رمادها لعله ينجح في ذلك وينال مبتغاه، وقد نجح وللأسف الشديد وصار الذي صار ودفع الشعب العراقي فاتورة ذلك من دمه وماله وسنوات عمره، حتى انتبه إلى ذلك، لكن بعد فوات الأوان.
والجدير بالقول إن دول الجوار لعبت دوراً مهماً في تأجيج شعلة الطائفية، لدواعي وأسباب يعلمها الجميع، القاصي والداني، وهي من ضمن إستراتيجية هذه الدول لأطماعها التاريخية في العراق، ومن هذه الدول من دعم أحزاباً بعينها، مادياً ومعنوياً لا لسواد عيون هذه الأحزاب، وقد نجحت إلى حد ما في مشروعها ، والسبب هو قادة الساسة التي تدير دفة البلاد، فلو كان لها قليل من الوطنية وحب العراق وشعبه لما صار الذي صار.
هجرة العقول
نتيجة لتدهور الوضع الأمني وعدم السيطرة عليه من قبل الأجهزة الأمنية، واختراق هذه الأجهزة، رغم العدد الكبير من الجيش والشرطة والحرس الوطني فقد سيطرت عصابات كثيرة على الشارع العراقي، وكانت هذه العصابات تقتل وتسرق وتخطف بوضح النهار، وحيث راحت تخطف الأطباء والعلماء والأساتذة وتطلب من ذويهم الفدية، فازداد الخناق على هؤلاء العقول وذاقوا ذرعاً مما يجري في هذا الوضع الذي صار مزرياً للغاية، وليس بإمكان الدولة حمايتهم. بدأت موجة الهجرة تلقي بظلالها على هذه العقول، حيث هاجرة مئات العقول من البلاد في اشد الحاجة إليهم، لاسيما في هذا الظرف الحساس، الذي نحن في طور البناء والاعمار والتكوين، إذ لازال الوضع هشاً ويحتاج إلى وقفة جادة من جميع العراقيين لإعادة الأمور إلى نصابها.
هناك بالتأكيد من وقف مع هذه العصابات وساندها في سير عملها، من داخل وخارج البلاد، وقد تهيأت لها الأجواء وسمحت الظروف. ولم يكن لهذه العقول حلاً غير مغادرة الوطن خوفاً على أرواحهم وممتلكاتهم، وهو الحل الوحيد، فالحكومة لا تستطيع حماية نفسها، فكيف بها أن تحمي المواطنين، وبالخصوص المهمين منهم والمستهدفين من العلماء والأطباء وأساتذة الجامعات، فالذين قتلوا بنار باردة لا يقل عددهم عن الذين تركوا البلاد وأصبحوا لاجئين في دول عربية وأجنبية ويمكن أن نجمل ذلك بنقطتين أساسيتين:
أولاً: إن أبعاد هذه العقول عن البلاد كان خسارة كبيرة في وقت كانت فيه البلاد بحاجة ماسة لهم، ذلك لما يقع على عاتق هؤلاء من مسؤولية جسيمة ومهام صعبة لا يمكن أن يقوم بها سواهم.
ثانياً: إن وضع هذه العقول صار مزرياً وهم خارج بلادهم، فالذي يعيش غريباً في بلاد هي ليست بلاده، ليس مثل الذي يعيش في وطنه وأهله وناسه. وذلك ما عانته العقول التي تركت العراق وفرت بجلدها، خوفاً من العصابات الإجرامية التي هدفها إفراغ البلاد من الكفاءات العلمية، والتي دورها واضح ومعلوم في إصلاح وترميم وبناء البلاد، وإعادته إلى وضعه الطبيعي، بعد الشلل الذي أصاب كل دوائر ومؤسسات العراق بعد احتلاله.
عصابات الخطف والسرقة
أما عصابات الخطف والسرقة والنصب فقد انتشرت على مستوى البلاد، ولهذه العصابات ارتباطات مع جهات عديدة، فتسرق وتخطف وتقوم بعمليات نصب واحتيال في وضح النهار، وأمام مرأى ومسمع الأجهزة الأمنية، إلا أن هذه الأجهزة الحكومية لا تحرك ساكناً، ففي كل يوم ومن خلال وسائل الإعلام المختلفة نسمع بعملية سرقة هنا وعملية خطف هناك، فالظرف صار ملائماً لهذه العصابات والجو مهيأ، لان الوضع الأمني أصبح هشاً للغاية، وعندما تغيب الشمس بساعة تصبح المدن والشوارع خالية من المارة تماماً، والكل تقفل أبوابها وتحرّم على نفسها الخروج، وتفضل البقاء داخل المنازل. ولا يسمح لنا المجال بسرد بعض القصص والحكايات التي حدثت لبعض الأبرياء على يد هذه العصابات، فان هذه القصص تحتاج كتاباً كاملاً. هذه القصص هي أشبه بالقصص الخيالية أو حكايات (ألف ليلة وليلة) والأفلام البوليسية، فقد تفننت هذه العصابات بطرق السرقة والاحتيال والنصب. فهناك عصابة اختصت بخطف الأطفال وأخرى بسرقة الممتلكات، وثالثة اختصت بخطف الأشخاص وطلب الفدية. مثال صارخ من ذلك: احد الذين يسكنون بجواري خطفته عصابة وهو خارج إلى عمله وبعد يومين اتصلوا بأهله من جهازه النقال وطلبوا منهم الفدية، وبعكسه سوف يقتلوه وأعطوهم مهلة عشرة أيام، وكان المبلغ عشرة دفاتر، وبعد أن جمعوا المبلغ المطلوب، وسلموه للخاطفين، قالوا لهم عبر (الموبايل) تجدونه في المكان الفلاني، وعندما ذهبوا إلى ذلك المكان وجدوه جثة هامدة. وهذه قصة واحدة من مئات القصص، التي جرت في ارض العراق بعد اجتياحه من قبل الولايات المتحدة وحلفائها. لقد راحت ضحايا كثيرة من الأبرياء على يد هؤلاء العصابات وزهقت أرواحهم وتعرضت ممتلكاتهم للنهب والسرقة، عبر موجة متدفقة من المجرمين والقتلة الذين صاروا يعتاشون على قتل العراقيين ويتاجرون بدمائهم.
لقد تعشعشت هذه العصابات لأسباب كثيرة ومتعددة: منها انتشار البطالة الذي وصل حد التخمة، ولاسيما في صفوف الشباب، واخذ بالازدياد يوماً بعد آخر. وكذلك استغلال الظرف الأمني الهش، الذي ساعد، هو الآخر على وجود هذه العصابات وأعطاهم الحافز الأكبر على العمل من دون خوف.
انتهاك حقوق الإنسان
على الرغم من وجود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948، والذي دعا إلى احترام الإنسان وعدم انتهاك حقوقه، بغض النظر عن انتماء هذا الإنسان العرفي والطائفي والمبدئي واتجاهه العقائدي، فان كرامته محفوظة وعرضه مصان، إلا أن الإنسان في العراق قد تعرض إلى أبشع الانتهاكات وسلب الإرادة والتعذيب الجسدي، رغم وجود كثير من المنظمات التي تزعم أو تدعي أن وجودها لغرض الدفاع عن حق الإنسان العراقي، والحيلولة دون تعرضه إلى انتهاكات لا تسمح بها القوانين الدولية والأعراف الإنسانية والقيم الأخلاقية. حدث مثل هذا في العراق قبل وبعد سقوط النظام، بمرأى ومسمع من مراجع سياسية ودينية وقانونية فلم تحرك ساكناً. وباعتراف وزارة حقوق الإنسان العراقية إن هناك الكثير من السجناء داخل المعتقلات العراقية والأمريكية قد تعرضوا للضرب والإهانة والتعذيب، وأخذت منهم الاعترافات عنوة، وان هناك معتقلات سرية يوجد فيها عشرات من العراقيين وهم يقبعون داخل هذه السجون من دون محاكم أو تثبيت التهم، وقد اعترفت أيضاً في ذلك وزارة حقوق الإنسان.
لقد انتهكت حقوق الإنسان في العراق وشعر بالغبن واليأس وفقد الإحساس بالمواطنة، والجميع ينظر إلى ذلك وكأن الأمر لا يعنيه. وأيضاً فان الصمت العالمي قد أثار الحفيظة والاهتمام، لماذا سكت العالم عن قضية المواطن العراقي وراح يتفرج عليه عن بعد؟!.
يفترض في (العراق الجديد) أن ينال كل ذي حق حقه، متساوياً وغير منقوص، وان ينظر إليه ساسة العراق على انه مواطن عراقي، بغض النظر عن انتمائه واتجاهاته، الفئوية والمذهبية، إلا إننا قد رأينا عكس ذلك تماماً. فقد انتهكت حق هذا المواطن وسلبت كرامته، واعتد عليه، بوجود دستور هم وضعوه وذكروا فيه، إن للإنسان العراقي حرية مصانة.
تفشي الرشوة
اشرنا من قبل إلى أن التعيين في دوائر ومؤسسات الدولة يخضع إلى مبدأ الرشوة ودفع مبالغ مالية. وليس هذا فحسب، بل أن ابسط مراجع لأي دائرة حكومية لا تقضي معاملته ما لم يدفع مبلغ مالي للموظف المسؤول. وتكاد أن تكون هذه الحالة عمومية في اغلب مؤسسات ودوائر الدولة، ولم تستطع الحكومة القضاء على هذه الظاهرة التي أصبحت متفشية وبشكل لافت للنظر. وان أسباب هذه الظاهرة غدت معروفة لدى معظم العراقيين: منها ضعف إدارة المسؤولين وللحزبية والفئوية والجهوية التي ينتمي إليها كبار المسؤولين، يضاف إلى ذلك أزمة الثقة وضعف المواطنة، وعدم الشعور بالمسؤولية من قبل الموظف والمسؤول، فضلاً عن الجشع والطمع الذي تولد عند بعض الموظفين: هو شعورهم بأنهم في زمن النظام السابق قد حرموا من حقوقهم وحسوا بأنهم كانوا مغبونين، فأرادوا التعويض عن ذلك، كما تصوروا.
هذه وغيرها من الأسباب، جعلت الرشوة أن تكون سمة لازمة لهذه الفئة. وهذه الخصلة لم تكن موجودة في المجتمع العراقي قديماً الا ماندر، ونكاد أن نجزم بأنها ظاهرة طارئة، ومن أهم أسبابها وجود الاحتلال الأمريكي والفراغ الأمني والسياسي وضعف الأداء الحكومي، فلو كانت الحكومة قوية وحازمة وصادقة مع شعبها لما انتشرت مثل كذا ظاهرة مدانة، وهي سمة غير حضارية لطالما حذر منها علماء الاجتماع وأشار إلى مغبتها وخطورتها على المجتمعات، فهذه الظاهرة تفضي بالنتيجة إلى تفسخ المجتمع وبالتالي تدعو إلى انهياره وتدميره، أضف إلى ذلك أن هذا المجتمع يصبح محط سخرية وانتقاد لاذع من قبل المجتمعات النموذجية المتحضرة. وهناك نقطة جوهرية، هي أن معظم الدول والشعوب التي تحتل من قبل الدول الكبرى، تنتشر فيها معظم الظواهر السلبية، ولعل ذلك من أولويات الاحتلال واستراتيجياته التي يرسمها قبل القدوم على الدول التي يروم احتلالها، وهذا ما حدث في العراق بعد اجتياحه من قبل الولايات المتحدة.
لكنها قد وجدت واستفحلت، وصارت أمر واقع، لكن مغبته تقع بالدرجة الأولى على عاتق الحكومة، فهي وحدها التي باستطاعتها أن تحد منها، قبل أن تحرق بنارها المجتمع العراقي برمته.