حزب الله يحاول منذ الانسحاب السوري من لبنان، ترسيخ وجوده العسكري والسياسي انطلاقا من طموح أن يشكل المرجعية البديلة عن الوصاية السورية، لا سيما في ما يتصل بالخيارات الاستراتيجية للدولة اللبنانية.
المارونية السياسية التي حكمت لبنان منذ تأسيس دولة لبنان الكبير في العام 1920 تراجع نفوذها ودورها، مع تراجع قدرتها على حماية الدولة وإدارتها، أي منذ بدأت المقاومة الفلسطينية اعتماد لبنان مركز انطلاق عملياتها العسكرية ضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. ليست العوامل الداخلية والمتصلة بالداخل هي سبب انكفاء المارونية السياسية، بل وظيفة المحافظة على الاستقرار على الحدود مع إسرائيل هي السبب المحوري والأهم. انطلاقا من هذه الواقعة يمكن الاستنتاج واستنادا إلى وقائع الحاضر اليوم، أن صعود الشيعية السياسية في لبنان المتمثلة بحزب الله يرتبط بعوامل عدة لبنانية وإقليمية، لكن ثبات هذا الصعود الأمني والعسكري يتصل بمدى محافظة حزب الله على الاستقرار مع إسرائيل على الحدود الجنوبية. قوة حزب الله وسطوته في الداخل تتأتيان، بالدرجة الأولى، من انسجامه مع واقع وظيفة حماية الحدود مع إسرائيل، وفي مقابل حماية هذه الوظيفة، يبقى حزب الله صاحب السلطة والوصاية في لبنان كما هو الحال اليوم.
تكشف ظاهرة حزب الله في لبنان عن تمظهر في السلوك وفي الخطاب للأيديولوجيا الإيرانية، التي تمثلها ولاية الفقيه، بما هي منظومة أيديولوجية تقدم الولاء المطلق للولي الفقيه علي خامنئي، وجرى تمكينها بإمكانيات مالية وقدرات تسليحية وأمنية، منذ قررت إيران عبر الحرس الثوري تأسيس حزب الله في النصف الثاني من العام 1982. هذه الظاهرة التي استحوذت، بالقوة وبالسياسة وبالمال، وعبر مشاركتها في مقاومة إسرائيل وبالنزعة المذهبية على جزء كبير من الطائفة الشيعية في لبنان، يرى فيها البعض سواء من داخلها من المنضوين في بنيتها أو من خارجها من حياديين أو معارضين لها لا سيما من قبل بعض رموز الطوائف اللبنانية الأخرى، أنّها ترمز إلى الصعود الشيعي، سواء في الدائرة الوطنية اللبنانية أو على المستوى الإقليمي في إشارة إلى الصعود الذي يمثله النفوذ الإيراني على امتداد الديمغرافيا الشيعية في المنطقة العربية.
عندما يجري الحديث عن كون هذا الصعود الشيعي لبنانيا، هو في معايير لعبة الطوائف وتنافسها وتقاتلها إيحاء إلى تجربة الصعود الماروني ومحاكاته من قبل قوة شيعية، وهو الذي كان له الدور المحوري في تأسيس الكيان وبناء الدولة اللبنانية منذ عشرينات القرن الماضي، وهو نفوذ استمر حتى عشايا الحرب الأهلية التي شكل وجود المقاومة الفلسطينية أحد أسبابها وعنصرا لاستقواء المسلمين على ما كان يسميه هؤلاء الغبن الطائفي.
شكلت نهاية الحرب الأهلية وتوقيع اتفاق الطائف بين الأطراف المتصارعة، ثم تطبيق هذا الاتفاق بما يتلاءم مع شروط الوصاية السورية في العام 1991، إعلانا فعليا لنهاية حقبة المارونية السياسية، لتنشأ توازنات جديدة كان فيها المسيحيون الحلقة الأضعف في معادلة الطوائف. وكان اللبنانيون عموما يشهدون بعد الطائف على ترسيخ قواعد جديدة للسلطة تراجعت فيها سطوة المارونية السياسية، لحساب المزيد من تراجع الحيز الوطني اللبناني لحساب الحيز الإقليمي، ولا سيما السوري منه على وجه التحديد، الذي صار هو صاحب القرار ليس في القضايا الاستراتيجية بل وصل نفوذه وتحكمه إلى القرارات الإدارية والشؤون البلدية، فضلا عن الانتخابات النيابية، وكل تعيين لموظف كبير أو وزير أو أيّ مسؤول في الدولة اللبنانية. والأهم أنه كان ضابط الإيقاع في عملية المواجهة مع إسرائيل بشروط لا تتجاوز الخطوط الحمر الدولية.
يحاول حزب الله منذ الانسحاب السوري من لبنان، ترسيخ وجوده العسكري والسياسي انطلاقا من طموح أن يشكل المرجعية البديلة عن الوصاية السورية، لا سيما في ما يتصل بالخيارات الاستراتيجية للدولة اللبنانية وبشكل خاص السياسة الخارجية والسياسة الدفاعية التي نجح إلى حد بعيد في فرض شروطه على معادلة السلطة في لبنان، ولعل انخراطه في الحرب السورية كان مؤشرا صارخا ونموذجا لأهداف حزب الله في فرض خياراته على المجتمع والدولة.
وإذا كان حزب الله ليس متفردا في كونه يقوم في بنيانه السياسي والتنظيمي والشعبي على أسس طائفية، إلاّ أن ما يميزه عن التجارب اللبنانية سواء المارونية السياسية أو السنية السياسية وغيرهما، أنه لا يجد غضاضة في تبني أيديولوجية تجعل من ولائه للولي الفقيه متقدما على ولائه للدولة أو للعقد الاجتماعي الذي يقوم عليه لبنان، فيما النماذج الأخرى السياسية والطائفية ومنذ تأسيس الكيان لم تذهب إلى الحد الذي تعتبر فيه الدولة اللبنانية مجرد مساحة جغرافية، بل ساهمت في بلورة الهوية اللبنانية وخلصت إلى تثبيت نهائية الكيان اللبناني وهذا ما أكدت عليه القيادات اللبنانية الشيعية والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، فضلا عن بقية القوى اللبنانية.
نجح حزب الله إلى حدّ بعيد في القضاء أو في تهميش كل من قاوم مشروعه الأيديولوجي داخل الطائفة الشيعية، مستفيدا من القوة العسكرية والدعم الإيراني المالي والمؤسساتي، ومستفيدا من ضعف الدولة التي شكل هو أحد أسباب ضعفها، ومن صعود الحالة المذهبية التي فجرها الاحتلال الأميركي للعراق قبل 14 عاما، وأمكن لإيران بعد حرب العام 2006 أن تمسك بمفاصل الطائفة الشيعية في لبنان بالكامل، حيث لم يعد من الممكن الإشارة إلى قوة شيعية منافسة أو معارضة للنفوذ الإيراني في لبنان، بعدما سلمت حركة أمل مقاليد القيادة الاستراتيجية لممثل الولي الفقيه في لبنان حسن نصرالله.
لم يكن تفوق المشروع الأيديولوجي الإيراني في لبنان مستندا إلى تطوير لرؤية بناء الدولة في لبنان، ولا بسبب ما يقدمه من حلول اقتصادية واجتماعية أو خطط تنموية، ولا نتيجة رؤية فكرية وحضارية تكتسب جاذبية لدى عموم الشيعة اللبنانيين أو غيرهم من المواطنين، صعود الشعور الطائفي وانفجاره هما مصدر قوة مشروع حزب الله من جهة والتفوق العسكري والأمني وتوفر الإمكانيات المالية من جهة ثانية.
هذا المشروع بترجمته الميدانية اللبنانية وبانخراطه في القتال في سوريا ليس مؤهلا لأن يقدم نموذجا مخالفا لطبيعته وأيديولوجيته، فعنوان المقاومة من أجل تحرير فلسطين فقد مصداقيته بالكامل مع المقتلة السورية، فيما العصبية الشيعية التي نجح في ترسيخها في السنوات الماضية لا يمكن أن تتقبل خوض مواجهة مع إسرائيل بعدما صار لها عدوٌ أخطر هو من يقاتله حزب الله اليوم في سوريا، أي التكفيريين أو الاسم المستعار لمعارضي نظام الأسد أو السنة بشكل أكثر وضوحا.
مسألة بقاء نفوذ حزب الله في الطائفة الشيعية وتفوقه على معادلة الدولة في لبنان باتت مرتبطة موضوعيا بقدرته على المحافظة على الاستقرار مع إسرائيل وعلى طول الحدود اللبنانية معها وامتدادا إلى حدودها مع إسرائيل.
إذن قوة الشيعية السياسية المتمثلة بحزب الله كامتداد للأيديولوجيا الإيرانية والتي تتيح لها التحكم في مفاصل السلطة في لبنان، كما تتيح لها الانخراط في الحرب السورية من دون أيّ اعتراض دولي أو إسرائيلي، هي بسبب قدرتها وكفاءتها على حماية الاستقرار على الحدود الإسرائيلية، وهذا يعيدنا إلى عنصر أساسي ومحوري كان سببا من أسباب انهيار المارونية السياسية.
تزامن انهيار المارونية السياسية مع اللحظة التي لم تعد الدولة اللبنانية قادرة على الالتزام باتفاقية الهدنة الموقعة بين لبنان وإسرائيل عام 1949، وكان أبرز مؤشر لها اتفاقية القاهرة التي وقعها لبنان مع منظمة التحرير الفلسطينية برعاية الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، هذه الاتفاقية يمكن أن نقول بثقة إنّها كانت إيذانا بسقوط المارونية السياسية كنموذج للجمهورية الأولى، وليس بعيدا في اللحظة التي تصبح الحدود اللبنانية أو السورية اليوم منطلقا لعمل عسكري ضد إسرائيل فلن يكون مصير الشيعية السياسية أو النفوذ الإيراني عبر حزب الله في لبنان وسوريا أفضل حالا من التجارب السابقة.
نقلا عن العرب